تفسير قوله تعالى: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت...)
الآية الثانية: وَتَرَى [المائدة:62] يا رسولنا، وَتَرَى [المائدة:62] أيها المؤمن الواعي البصير كَثِيرًا مِنْهُمْ [المائدة:62] بالآلاف يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ [المائدة:62] ما قال: يسارعون إلى الإثم فيكونوا خارجين عنه، وهم يسارعون إليه ليدخلوا فيه، بل ما خرجوا من الإثم، مغموسون فيه من أخماص أقدامهم إلى رءوسهم، والله ما خرجوا، ويسارعون في فعله، والإثم: كل معصية تقبح النفس وتلوثها، كالكذب، كالخيانة، كالغش، كالخداع، كالكفر، كالسب، كل ما هو إثم، يسارعون في الإثم، ما خرجوا من دائرته، يعملون الليل والنهار على السب والشتم والطعن في الإسلام ورجاله. يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:62]، العدوان غير الإثم، العدوان: الظلم، لا أظلم من اليهود، الظلم الاعتداء على الغير بأكل ماله بسبه بشتمه بالتعريض وهكذا، هذا هو الظلم، فكم من يهودي يسمع الإسلام فينهار ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ من يخبر بهذه الأخبار؟ إنه الله تعالى. وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62] ويسارعون أيضاً في أكلهم السحت، هم يأكلونه، ولكن المسارعة، والسحت: هو الرشوة والربا، وكل مال حرام يسحت البركة ويبطلها، وإلى الآن يعيشون على الربا أم لا؟ من أنشأ البنوك الربوية العالمية؟ هل عيسى بن مريم؟ هل هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله إنهم اليهود، وكيف إذاً اتبعهم النصارى والمسلمون وهم يعلمون أن هذا حرام؟ اتبعوهم لما سحروهم، وانتزعوا النور الإلهي من صدورهم وقلوبهم، فعموا وأصبحوا كالبهائم، حينئذ يسوقونهم كما شاءوا. ثم ختم تعالى هذه الجملة بقوله: لَبِئْسَ [المائدة:62] والله لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] أعمالهم منتنة خبيثة، سيئة قبيحة والعياذ بالله تعالى. أعيد الآية الثانية هذه، فاسمع: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62]، ماذا قال تعالى في آخر الكلام؟ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] قبح هذا العمل، واللام فيها معنى القسم، وعزتي وجلالي لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] نعم، فالذي يعيش في الإثم ما يخرج منه، وفي أكل الربا والسحت ما يخرج منه، وفي الظلم للخلق ما يخرج منه كيف حاله؟ بئست حاله. فهل هذا عمل ميمون مبارك؟ لبئس هذا العمل.
تفسير قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ...)
الآية الثالثة: يقول تعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63]، الربانيون: جمع رباني، ويطلق الرباني على عالم النصارى (القسيس)، والأحبار: جمع حبر، ويطلق على عالم اليهود، هذه قاعدة عامة، وهنا أطلق لفظ الربانيين والأحبار على اليهود، ليس هناك نكارة في السياق. والربانيون: الذين يجمعون الناس ويعلمونهم دينهم، ويربونهم على الآداب والأخلاق والفضائل بحسب دينهم، هذا هو المربي، والجمع ربانيون.والأحبار: أصحاب العلم والمعرفة، إذاً: في أهل الكتاب من اليهود ربانيون وأحبار، أي: علماء بالشريعة.يقول تعالى: لَوْلا [المائدة:63] هلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63] ؟ لم لا ينهونهم؟ هذه الآية يقول فيها ابن عباس الحبر رضي الله عنه: أشد آية في كتاب الله علينا هي هذه: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]. إذاً: نحن ما عندنا ربانيون، لكن كان عندنا رجال التصوف والطرق، الصوفية، كانوا يربون ونفع الله تعالى بتربيتهم، يجمعون الجهال في القرى في الجبال وهم تائهون لا يعرفون شيئاً، ويعلمونهم الوضوء والصلاة وذكر الله، وتظهر آثار ذلك فيمن يربونهم، لكن لكونهم جهالاً لا يعلمون دين الله ولا يعرفون يخطئون في تربيتهم، فيفسدون على العوام عقائدهم، ويورثون فيهم الشرك بكله.إذاً: نفعوا من جهة وأضروا من جهات أخرى؛ لأن غير العالم بالكتاب والسنة لا حق له في أن يربي حتى يكون ربانياً، عالماً بكتاب الله وسنة رسوله، هذا إذا جمع أهل القرية ورباهم هو الرباني، هذا الرباني من حقه ألا يرى من يأتي منكراً في قريته ويسكت عنه، لا يرى من يرتكب إثماً ويرضى به ويسكت عنه، لا يرضى بمن يأكل رشوة أو سحتاً أو ربا ثم يضحك معه ويسكت، هذا رباني العالم. لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ [المائدة:63] السب والشتم والتعيير والتقبيح، لا إله إلا الله!
دولة الملك عبد العزيز أنموذج قيام الربانيين بدورهم
ودعونا من اليهود الآن، نحن مع عالمنا الإسلامي، والله! إنه ليعيش إخواننا المسلمون على السب والشتم حتى التكفير أيضاً! أحلف لكم بالله، مجتمعنا الإسلامي منذ سبعة قرون أو ثمانية منذ القرن الثامن وهذا ظاهر. وأقرب دليل: لم استعمرتنا أوروبا؟ لما هبطنا، إذاً: هذا سبب استعمار الغرب لنا؟ وها نحن قد استقللنا وأصبحت السلطة لنا، فلم لا نتحد في هذه المسجد وتكون دولتنا واحدة، ولعل الحاضرين بينهم سياسيون، فمرحباً بهم نتكلم معهم بصراحة ووضوح، والله! لو كنا مستقيمين على منهج الحق مؤمنين في صدق لكانت دولتنا واحدة، إذ لا يحل الخلاف والفرقة؛ لأن الخلاف والفرقة معناهما: أننا نقدم أنفسنا للعدو فمتى شاء أن يركبنا ركب علينا.
وعندي برهنة أخرى قديمة أكررها: جاء الله عز وجل بدولة عبد العزيز ، من عبد العزيز هذا؟ ما هو بعالم نحرير ولا فليسوف ولا شيخ طريقة، جاء الله به وكان لاجئاً في الكويت وأسس دولة القرآن في الرياض وبدأت أنوارها تلوح، فماذا فعل؟ هذا الذي أنا أقوله وأكتبه في الرسائل والكتب طبقه عبد العزيز : أهل القرية لا يتخلف أحد منهم عن الصلاة في الصبح ولا العشاء ولا المغرب، ويتعلمون الكتاب والسنة شفوياً ولا يتخلف أحد، فكانوا أميين لاصقين بالأرض لا يقرءون ولا يكتبون، وإذا بهم موحدين فقهاء يشعرون بالرغبة في أن يتعلموا عن الله.
وأقامة الدولة القرآنية على ثلاثة أسس وضعها الله عز وجل لتوضع عليها أو تتكون عليها الدولة، وهي:
أولاً: إقامة الصلاة.
ثانياً: إيتاء الزكاة.
ثالثاً: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ما ترك قرية إلا وكون فيها لجنة من ثلاثة أنفار أو أربعة مهمتهم أنهم يأمرون المعروف وينهون عن المنكر، ما يرون معروفاً متروكاً إلا طالبوا بالقيام به، ولا يرون منكراً مرتكباً إلا صاحوا في وجه صاحبه.
إذاً: فكانت الدولة أقامها على أسس، قال الله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، أي: حكموا وسادوا بعد أن لم يكونوا حكاماً ولا سادة، ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، ماذا فعلوا؟ ( أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ )[الحج:41].
ما الذي حصل في هذه الديار بعدما كانت مظاهر الوثنية الصارخة تشاهدها في عبادة غير الله، أما الجرائم وسفك الدماء فلا تسأل، والله! إن كانوا ليأخذون باب المدني ويبيعونه في السوق ولا يتكلم!
وسادها أمن وطهر لم تكتحل عينها به إلا أيام دولة الخلفاء الراشدين، أقسم بالله، في هذا الوقت بالذات نسمع نحن أطفالاً وكباراً وصغاراً فلا تجد مؤمناً عربياً ولا مسلماً يمدح هذه الدولة أو يذكرها بخير، إلا الطعن والتكفير، حتى نحرم هداية الله، فلا إله إلا الله!
والذي أقوله وسقت الحديث من أجله: ما دام أنه تجلت حقيقة نعمة الإسلام في هذه الديار الصحراوية الجافة وسادها الطهر والصفاء والأمن والعدل، يجب أن نقتدي بها وإن كنا لا نحبها، لكن ننتفع بها، فكان المفروض أن الذي جاء بهذه الدولة وهو الذي حرر العالم الإسلامي دولة بعد دولة، كان الواجب -وسوف تعرفون هذا يوم القيامة- أنه إذا استقل الإقليم الفلاني يجيء وفده من علماء وكبراء ومشايخ ويقولون: يا عبد العزيز ! استقل هذا الإقليم من بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا، فابعث قضاة وابعث آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، ويصبح بعد ذلك قطعة من دولة القرآن، استقل الإقليم الثاني بعد أسبوع أو بعد عامين أو بعد عشرة فيأتي رجاله: ابعث قضاة يطبقون شرع الله، وهكذا يتم تحرير البلاد الإسلامية وهي دولة واحدة، وما يكلفهم شيئاً.
لكن لما كنا كما ذكرنا ما نريد أن يسودنا آخر أو يحكمنا آخر أو نعطي مالنا لآخر، ما هناك إلا الطعن والسب والشتم، وها نحن لاصقون بالأرض وتحت النظارة، والله! إن لم يتدارك الله المسلمين برحمته لنزل بهم من البلاء ما لم ينزل قبل، إما أن يرجعوا إلى الله، وإما أن تنزل النكبات والمصائب والويلات.
سبيل الخلاص من فتنة الفرقة والجهل والفسق
والشاهد عندنا: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ )[المائدة:63]، أين علماؤنا نحن؟ وأين مربونا؟ هيا نخرج من هذه المحنة، نخرج من هذه الفتنة، فماذا نصنع؟ علماء القرية وعلماء الحي يطالبون إخوانهم بإلحاح أن يجتمعوا بهم في المسجد، يصلون المغرب كما صلينا ويجلسون كما نجلس، وليلة يتعلمون آية من كتاب الله يحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعملون ويطبقون، وليلة أخرى يتعلمون حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا طول العام بل طول العمر، هل يبقى بين المسلمين جاهل أو جاهلة؟ الجواب: لا، وإذا انتفى الجهل ينتفي الفسق معه أم لا؟ إي والله، لا أفسق من جاهل قط، ولا أخشى لله من عالم قط، وبذلك تشعر الأمة الإسلامية أن أمرها واحد وإن تفرقت ديارها، الكل يحب بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً؛ لأن المذهب أصبح مذهباً واحداً، لا حنفي ولا شافعي ولا إباضي ولا زيدي ولا خارجي، بل مسلمون على كتاب الله، الصلاة تقام، والزكاة تجبى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم بينهم، أصبحوا أمة واحدة، فمن يقوم بهذه المهمة؟
قال تعالى: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ )[المائدة:63]، ووالله! إن الإثم بلغ منتهاه في عالمنا الإسلامي، أنواعه وضروبه لا حد لها، والسحت كذلك، أصبح الربا شائعاً في العالم الإسلامي، من يقوم بهذا الإصلاح؟ العلماء والمشايخ الربانيون، ماذا يصنعون؟ هل يعلنون الجهاد وتكفير الحكام؟ لا والله ليس هذا، فقط يعلمون إخوانهم في قراهم ومدنهم أنهم خرجوا عن الطريق، أنهم فقدوا ولاية الله، فهيا بنا نطلبها لنظفر بها، نحقق إيماننا وتقوانا لله، فتثبت لنا ولاية الله، والطريق هو أن يجتمع المؤمنون والمؤمنات في بيوت ربهم في مدنهم في قراهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الهدى ويعملون به، فيسمون حتى يصبحون أشباه الملائكة، ويومها والله ليسودن العالم، ويخضع الله لهم البشرية، فمن يقوم بهذا الواجب؟ العلماء والمربون.
معنى قوله تعالى: (لبئس ما كانوا يصنعون)
لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، قبح صنعهم وما كانوا يأتونه، هذه كانت حال اليهود، وارتفع العالم الإسلامي وأنار الوجود فمكروا به وكادوا له وتعاونوا مع المجوس والنصارى فهبط العالم الإسلامي كما تشاهدون نقمتهم منا، والله فضحهم وبين لنا حالهم؛ حتى لا نودهم ولا نحبهم ولا نتعاون معهم، وإذا بنا قد نسينا هذا كله وإلى الله المشتكى.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.