عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 18-06-2021, 12:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,988
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (8)
صـ95 إلى صـ110

[ ص: 95 ] وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ; فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ صَادًّا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ .

وَالثَّانِي : مَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ .

وَفِي الْقُرْآنِ : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] .

وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 159 ] .

وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] .

وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْأَدِلَّةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْصُومِينَ بِعِلْمِهِمْ ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَمْنَعُهُمْ عَنْ إِتْيَانِ الذُّنُوبِ ; فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ الْعَلَمَ مَانِعٌ مِنَ الْعِصْيَانِ ؟ .

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ يَأْبَى لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَبِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ ، لِأَنَّ مَا صَارَ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لَا يَتَصَرَّفُ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ اعْتِيَادًا ; فَإِنْ تَخَلَّفَ فَعَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ [ ص: 96 ] أَوْجُهٍ :

الْأَوَّلُ : مُجَرَّدُ الْعِنَادِ ، فَقَدْ يُخَالَفُ فِيهِ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْجِبِلِّي ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَحَدُوا بِهَا الْآيَةَ [ النَّمْلِ : 14 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [ الْبَقَرَةِ : 109 ] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .

وَالْغَالِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا لِغَلَبَةِ هَوًى ، مِنْ حُبِّ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، بِحَيْثُ يَكُونُ وَصْفُ الْهَوَى قَدْ غَمَرَ الْقَلْبَ حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرَ مُنْكَرًا .

وَالثَّانِي : الْفَلَتَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَفَلَاتِ الَّتِي لَا يَنْجُو مِنْهَا الْبَشَرُ ; فَقَدْ يَصِيرُ الْعَالِمُ بِدُخُولِ الْغَفْلَةِ غَيْرَ عَالِمٍ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 17 ] .

[ ص: 97 ] وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ : 102 ] .

وَمِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَعْتَرِضُ نَحْوُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْجِبِلِّيَّةِ ; فَقَدْ لَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ ، وَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ; لِغَلَبَةِ فِكْرٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ; فَتَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنُ حَتَّى يُصَابَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ : إِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُولٍ عَلَى السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ .

وَالثَّالِثُ : كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ; فَلَمْ يَصِرِ الْعِلْمُ لَهُ وَصْفًا أَوْ كَالْوَصْفِ مَعَ عَدِّهِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى غَلَطٍ فِي اعْتِقَادِ الْعَالِمِ فِي نَفْسِهِ أَوِ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [ الْقَصَصِ : 50 ] .

وَفِي الْحَدِيثِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ - اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا ، [ فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ] ; فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا .

[ ص: 98 ] وَقَوْلُهُ : سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، أَشَدُّهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ الْحَدِيثَ ، فَهَؤُلَاءِ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ ظَنِّ [ ص: 99 ] الْجَهْلِ عِلْمًا ; فَلَيْسُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا مِمَّنْ صَارَ لَهُمْ كَالْوَصْفِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حِفْظَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ ; فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِمْ .

[ ص: 100 ] فَأَمَّا مَنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ; فَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ حِفْظِ الْعِلْمِ حَسْبَمَا نَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ لَتَتَفَقَّهُ مِنْ عِنْدِ أَسْرِهَا ، [ أَوْ قَالَ : آخِرِهَا ] حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ ; فَهُمَا مَقْمُوعَانِ ذَلِيلَانِ ، إِنْ تَكَلَّمَا أَوْ نَطَقَا قُمِعَا وَقُهِرَا وَاضْطُهِدَا الْحَدِيثَ .

وَفِي الْحَدِيثِ : سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ الْقُرَّاءُ ، وَيَقِلُّ الْفُقَهَاءُ ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ - إِلَى أَنْ قَالَ - ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ الْمُنَافِقُ الْمُشْرِكَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ .

[ ص: 101 ] وَعَنْ عَلِيٍّ : " يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ ; فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ عَمِلَ ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتُهُمْ ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلُهُمْ ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ; فَإِنَّهُ قَدْ يَرْعَوِي وَلَا يَرْوِي ، وَقَدْ يَرْوِي وَلَا يَرْعَوِي " .

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا ، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا " .

وَعَنِ الْحَسَنِ : " الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَمَنْ خَالَفَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ حَدِيثٍ سَمِعَ شَيْئًا فَقَالَهُ " .

[ ص: 102 ] وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعُلَمَاءُ إِذَا عَلِمُوا عَمِلُوا ، فَإِذَا عَمِلُوا شُغِلُوا ، فَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا ، فَإِذَا فُقِدُوا طُلِبُوا ، فَإِذَا طُلِبُوا هَرَبُوا " .

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ " .

وَعَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قَالَ : " عَلِمْتُمْ فَعَلِمْتُمْ وَلَمْ تَعْمَلُوا ، فَوَاللَّهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ " .

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ " . وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ .

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ " ، وَمِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ ، إِنَّمَا الْعِلْمُ خَشْيَةُ [ ص: 103 ] اللَّهِ .

وَالْآثَارُ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٌ .

وَبِمَا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي ; فَإِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ; فَلَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةٌ - وَالْفِقْهُ فِيمَا رَوَوْا أَمْرٌ آخَرُ - أَوْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ هَوًى غَطَّى عَلَى الْقُلُوبِ ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ .

عَلَى أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ - يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا ; فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " .

وَعَنْ مَعْمَرٍ ; أَنَّهُ قَالَ : " كَانَ يُقَالُ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يُصَيِّرَهُ إِلَى اللَّهِ " .

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ : " طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ ، ثُمَّ جَاءَتِ [ ص: 104 ] النِّيَّةُ بَعْدُ .

وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ : " كُنْتُ أَغْبِطُ الرَّجُلَ يُجْتَمَعُ حَوْلَهُ ، وَيُكْتَبُ عَنْهُ ، فَلَمَّا ابْتُلِيتُ بِهِ ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي " .

وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ ; قَالَ : " سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يَقُولُ : " طَلَبْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ " .

وَقَالَ الْحَسَنُ : " لَقَدْ طَلَبَ أَقْوَامٌ الْعِلْمَ مَا أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ ، فَمَا زَالَ بِهِمْ حَتَّى أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ

وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، وَمَا هِيَ ؟ .

وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَارِ أَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ ، وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَشْيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ ، وَعَنْهُ عَبَّرَ فِي الْحَدِيثِ فِي : أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْخُشُوعُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : " لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ [ ص: 105 ] الرِّوَايَةِ ، وَلَكِنَّهُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ " ، وَقَالَ أَيْضًا : " الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ : التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ " ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ .

وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ ; فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ ، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ طَرَفٌ فَرَاجِعْهُ إِنْ شِئْتَ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[ ص: 106 ] [ ص: 107 ] مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلَحُ الْعِلْمِ لَا مِنْ صُلْبِهِ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ وَلَا مُلَحِهِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : .

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُعْتَمَدُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الطَّلَبِ ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الرَّاسِخِينَ ، وَذَلِكَ مَا كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ ، [ ص: 108 ] وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ ، وَالْحَاجِيَّاتُ ، وَالتَّحْسِينَاتُ ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا ، وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا ، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا ، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ أَصِيلٌ رَاسِخُ الْأَسَاسِ ثَابِتُ الْأَرْكَانِ .

هَذَا وَإِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً ، فَالْوَضْعِيَّاتُ قَدْ تُجَارِي الْعَقْلِيَّاتِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا ; إِذِ الْعِلْمُ بِهَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْعَامِّ النَّاظِمِ لِأَشْتَاتِ أَفْرَادِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ فِي الْعَقْلِ مَجْمُوعَةً فِي كُلِّيَّاتٍ مُطَّرِدَةٍ عَامَّةٍ ، ثَابِتَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ ، وَلَا مُتَبَدِّلَةٍ ، وَحَاكِمَةٍ غَيْرِ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ .

وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوُجُودِ ، وَهُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ; فَاسْتَوَتْ مَعَ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَارْتَفَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .

فَإِذًا لِهَذَا الْقِسْمِ خَوَاصٌّ ثَلَاثٌ : بِهِنَّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ : إِحْدَاهَا : الْعُمُومُ وَالِاطِّرَادُ ، فَلِذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا الْخَاصَّةُ لَا تَتَنَاهَى ؛ فَلَا عَمَلَ يُفْرَضُ ، وَلَا حَرَكَةَ ، وَلَا سُكُونَ يُدَّعَى - إِلَّا وَالشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ حَاكِمَةٌ إِفْرَادًا ، وَتَرْكِيبًا ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا عَامَّةٌ ، وَإِنْ فُرِضَ فِي نُصُوصِهَا أَوْ مَعْقُولِهَا خُصُوصٌ مَا ; فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عُمُومٍ ; كَالْعَرَايَا ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْقِرَاضِ ، [ ص: 109 ] وَالْمُسَاقَاةِ ، وَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُصُولٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَحْسِينِيَّةٍ أَوْ مَا يُكَمِّلُهَا ، وَهِيَ أُمُورٌ عَامَّةٌ ; فَلَا خَاصَّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا وَهُوَ عَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ .

وَالثَّانِيَةُ : الثُّبُوتُ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ ; فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهَا بَعْدَ كَمَالِهَا نَسْخًا ، وَلَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِهَا ، وَلَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهَا ، وَلَا رَفْعًا لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لَا بِحَسَبِ عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَلَا بِحَسَبِ خُصُوصِ بَعْضِهِمْ ، وَلَا بِحَسَبِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَلَا حَالٍ دُونَ حَالٍ ، بَلْ مَا أُثْبِتَ سَبَبًا ; فَهُوَ سَبَبٌ أَبَدًا لَا يَرْتَفِعُ ، وَمَا [ ص: 110 ] كَانَ شَرْطًا ; فَهُوَ أَبَدًا شَرْطٌ ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا ، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ فَلَا زَوَالَ لَهَا ، وَلَا تَبَدُّلَ ، وَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَكَانَتْ أَحْكَامُهَا كَذَلِكَ .

وَالثَّالِثَةُ : كَوْنُ الْعِلْمِ حَاكِمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُفِيدًا لِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ ; فَلِذَلِكَ انْحَصَرَتْ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يُفِيدُ الْعَمَلَ أَوْ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا تَجِدُ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ ، وَإِلَّا انْقَلَبَ كَوْنُهَا حَاكِمَةً إِلَى كَوْنِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ .

فَإِذًا ; كُلُّ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ ; فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهَا ، وَالْبُرْهَانُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي مُلَحِ الْعِلْمِ لَا فِي صُلْبِهِ - : مَا لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا ، وَلَا رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، بَلْ إِلَى ظَنِّيٍّ ، أَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَطْعِيٍّ إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ خَاصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاصِّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ خَاصَّةٍ وَاحِدَةٍ ; فَهُوَ مُخَيَّلٌ ، وَمِمَّا يَسْتَفِزُّ الْعَقْلَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِأَصْلِهِ ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ .

فَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الْأُولَى - وَهُوَ الِاطِّرَادُ وَالْعُمُومُ - فَقَادِحٌ فِي جَعْلِهِ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ يُقَوِّي جَانِبَ الِاطِّرَاحِ ، وَيُضْعِفُ جَانِبَ الِاعْتِبَارِ ; إِذِ النَّقْضُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْوُثُوقِ بِالْقَصْدِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ ، وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُوثَقُ بِهِ ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]