الغزو الفكري في المجالات التربوية والتعليمية
صفا مصطفى عبدالفتاح
الفصل الثالث
الغزو الفكري في المجال التربوي والتعليمي
بعد أنْ مَنَّ الله عليَّ، وأنهيتُ الفصل الثاني على عجلةٍ مِن أمري، والذي تحدثتُ فيه عن أهداف الغزو الفكري ووسائله، وبينت فيه وسائل الغزو الفكري، أبدأ في الفصل الثالث، وهو:
الغزو الفكري في المجال التربوي والتعليمي:
وأناقش تحته مبحثين أتحدث فيهما عن دولتين عربيتين هما: مصر والمغرب.
المبحث الأول: الغزو الفكري في مجال التعليم بمصر:
أولاً: نبذة عن مناهج التعليم في مصر قبل الحملة الفرنسية:
كان التعليم في مصر منذ الفتح الإسلامي لا يعرف إلا التعليم الإسلامي، حتى أوان الحملة الفرنسية ومداهمتها مصر، وتغييرها مجرى الحياة المصرية وخاصة البينة التعليمية، فكان التعليم قوتها - أي: قبل الحملة الفرنسية - يعتمد على الكتاتيب القرآنية، والتعليم في المساجد.
وكان المسجد في هذا الوقت هو المؤسَّسة التعليمية الأولى؛ كمسجد عمرو بن العاص، فكان منارة يقوم فيها المسلمون بنشر تعاليم الإسلام، ومقاومة الفكر الروماني المسيطر على أهل مصرَ في هذه الآونة، ولم يكن أهل الإسلام عند الفتح منبهرين بحضارة الرومان بالقدر المؤثر عليهم، الذي يجعلهم يسيرون في ذيل مثل هؤلاء؛ إذ القوة الحقيقية تكمن في العقيدة السامية لا في السير في ركب حضارة الكفر.
كان مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه الرمز الأول في مصر لرسالة الإسلام السامية، والتي بها نشرت الإسلام والعلم، ثم أصبح مركز إشعاع الحركات العلمية والأدبية في مصر بصفة رسمية، فكان المسجد يقوم بمهمته الجامعية في دراسة الفقه بطريقة منظمة في زوايا خاصة في المسجد على اختلاف المذاهب، ولكل زاوية شيخ يجري عليه الرزق، وكان يدرس لطلبة العلم علم الفقه[45].
هذا الوضع إبان الفتح الإسلامي، ثم لما أنشأ الفاطميون الأزهر لخدمة فكرهم الجديد ومعتقدهم الشيعي، رسخوا حكمهم من خلال المسجد، لذا نجدهم استغلوا المسجدين؛ مسجد عمرو بن العاص ومسجد الأزهر في تدريس الفقه الشيعي، ومن ذاك أن النعمان القيرواني قرأ مختصر فقه آل البيت (فقه الشيعة)، وهو المسمى بكتاب "الاختصار" في جمع حافل من العلماء، فكانت هذه أول حلقة أقيمت في المسجد الأزهر، والحادثة الثانية عندما قرأ وزير المعز لدين الله وقرأ على الناس كتابا ألفه في الفقه الشيعي على مذهب الإسماعيلية، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية، ويعد هذا المجلس من أولى المجالس الجامعية التي شهدتها هذه الفترة[46].
وظل الأزهر على ذلك فترة حتى في وجود العصر الفاطمي، وكان نظام التعليم في الأزهر بعده يقوم على:
هناك أستاذ للمادة يشرف على مجموعة من الطلاب، وكانوا يحرصون على ملازمة أستاذهم حتى الممات، وكل همهم أن يصلوا إلى رتبته العلمية.
كان الطلاب يحصلون على إجازات علمية في مادتهم التي يدرسونها.
كان الطلاب بعدما يحصلون على الإجازات يقومون بالتدريس بدلا من الشيخ أو معه.
كان الطلاب يقرؤون والشيخ يقوم بالشرح، ومثال هذا: ما فعله البدر العيني صاحب عمدة القاري عندما سمع صحيح البخاري على أستاذه العراقي بقراءة الشهاب الأشموني، وغيره وغيره..
هذا هو المنهجُ العلمي السائد في تلك الفترة، فكانت الجماهير تتحاكم إلى شريعة الله تعالى، حتى أثناء الحكم الفاطمي في مصر، لم يكن بالحصار الفكري الحاصل الآن من القوة الصليبية.
بانتهاء العَصْر الفاطمي في مصر تدخل مرحلة علمية جديدة؛ فتغيَّرت بعد ذلك الأنظمة الحاكمة وحلت الدولة الأيوبية محل الدولة الفاطمية، فأزال الأيوبيون من مصر جميع ما يتعلق بالتعليم الشيعي، فأزالوا الفقه الشيعي وأحلوا الفقه السني فدرس الأيوبيون المذاهب الأربعة، فأنشأ صلاح الدين المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، والمدرسة الصلاحية وغيرها من المدارس التي تقوم على الأوقاف لتدريس المذاهب السنية والقضاء على المذاهب الشيعية[47].
ثم حذا العلماء حذو صلاح الدين في بناء المدارس، حتى بلغ عدد المدارس 26 مدرسة، أشهرها المدرسة الكاملية التي بناها الملك الكامل.
ثم كثرت المدارس بعد ذلك ولكن ظل المسجد الأزهر هو المنارة العلمية الأولى، والجامعة الأم التي ينبثق منها العلم، ويوزع على هذه المدارس.
ثم جاء عصر المماليك بعد ذهاب الدولة الأيوبية، ولم يتغير التعليم عما كان عليه أيام الأيوبيين؛ إذ كانت دولة سنية فظل الأمر كما كان عليه، ولم يعملوا على إزالة معالم الدولة الأيوبية بل جددوا وطوروا ما كان عليه الأمر في عصر الأيوبيين؛ لذا يعد عصر المماليك عصر الذروة كما يقال؛ ففيه بلغت الدولة الإسلامية أزهى عصور التقدم، وحفلت مصر في تلك الحقبة الطويلة بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب؛ من أمثال: ابن حجر العسقلاني، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، والمقريزي، والسخاوي، والسيوطي، وغيرهم مما أسهم في ازدهار الحياة العلمية[48].
ثم تتوالى الأيام إلى أواخر عصر دولة المماليك، وهو آخر عهد الازدهار الفكري، إذ ازدهر علم العقيدة في هذه الأثناء خير ازدهار، ولكن المشكلة الكبيرة أن عصر المماليك كان مملوءا بالظلم إذ غالى المماليك في ابتزاز الناس، وصار أهل البلاد في فقر مدقع، حتى اضمحل عصرهم، وذهب جماله ورنقه[49].
وصف الجبرتي في تاريخه الاضمحلال الشديد الذي تعرضت له دولة المماليك، فذكر أن الشعب قد عاني من انتشار الأمراء في الأقاليم المختلفة، وابتزاز الأموال، حتى هلك الفلاحون وضاق ذرعهم واشتد كربهم، وطفشوا من البلاد... وفسدت النيات، وكثر الحسد والحقد في قلوب الناس، وفقد الأمن..." [50].
كان انتهاء عصر المماليك واضمحلاله عصر انحطاط في الجانب الإسلامي، قابله في الغرب عصر ازدهار، ولولا الحماية الربانية التي نجونا بها من شر الصليبين لهلك الإسلام والمسلمون!
• أما إذا أتينا إلى العصر العثماني فإننا نجد أن العثمانيين كانوا يظنون أن مصر هي المربد العلمي المزود للجيش الفاتح، ولكنه فوجئ بانحطاط التعليم في الأزهر، والتي أضحت العلوم فيه مقتصرة على علوم الوسائل دون المقاصد، لذا حاول العثمانيون تطوير التعليم، لذا نجد أن الأزهر قد أفل دوره قليلاً في عهد العثمانيين، ولكنهم لم يهملوه الإهمال الكبير، بل أصبح الاهتمام منصبا على العلوم الإسلامية واللغة العربية، والفضل بالطبع في ذلك راجع إلى الأزهر الشريف[51].
• أما نظام التعليم في هذا العصر فكان كالتالي، كان الطلاب يحفظون القرآن الكريم، القراءة والكتابة، وتعلم قواعد النحو، وحفظ المتون العلمية، ويذكر الجبرتي في هذا بعض الكتب التي كانت تُدَرَّس في ذلك العصر من مثل: الأشموني، وابن عقيل، والشيخ خالد وشروحه، والأزهرية، وشذور الذهب، وكتب التوحيد مثل الجوهرة، وكتب المنطق والاستعارات والمعاني والبيان، وكتب التفسير المتعددة[52].
وكان الاهتمام في هذا الوقت منصبا على الشروحات والمتون، فخرجت لنا كتب كثيرة لشروحات المتون، ثم شرح الشرح، ثم شرح شرح الشرح، وكانت النتيجة أن تطرق الإبهام إلى المعاني الأصلية، واضطربت المباحث، واختلفت التراكيب وتعقدت العبارات، واختفى مراد المصنف[53]. كانت هذه مقدمة سريعة لتطور التعليم في مصر أيام الخلافة الإسلامية.
• أما إذا أتينا لمناهج التعليم في مصر أيام الاحتلال الفرنسي، فإننا نجدها قد اضمحلت بشدة وذلك عندما بدأت العقيدة تهتز في النفوس، وفي ظل الهزائم المتعددة من الفرنسيين والتي أدت في النهاية في الاحتلال، اهتز المسلمون اهتزازا شديدا لما رأوا من قوة السلاح، وتفوق الغرب على المسلمين، لذا نظر المسلمون إلى هؤلاء على أنهم القوة والحضارة، فانبهر بهم قوم وأقبلوا على كل ما هو غربي، ظنا منهم أنَّ هذا هو الحق!!
استغل الفرنسيون مثل هذا الانبهار، وحرصوا على إخفاء العنصر الصليبي إخفاء كاملا من الحملة الفرنسية، وأشاعوا أن الدين إنما كان ستارا للمطامع الاقتصادية، وتلوك هذا الزعم أفواه مسلمة يدور أصحابها في طاحونة الاستِعمار.
كذلك حرص الاستعمار على القول بأن الحملة الفرنسية كانت هي الخير والبركة، لأنها أيقظت المسلمين من سباتهم، وأطلعوهم على العلوم الحديثة، والنهضة العلمية الكبيرة، وسار الفرنسيون يبثون في مصر أن المسلمين لا يعرفون من العلوم الدنيوية شيئا، سواء الرياضة أو الكيمياء، حتى إن الشيخ الإنبابي شيخ الأزهر في هذا الوقت سئل: هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالحساب والهندسة والهيئة والطبيعيات؟
فأجاب: "يجوز ذلك مع بيان النفع من تعلمها"، وكأن مثل هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها! [54].
لقد كانت الجماهير الإسلامية في مصر في سباتها العميق، في نفس الوقت الذي كان فيه الغرب لم يكن أصيبَ بالحروب الصليبية التترية المغولية التي أُصيب بها المسلمون، فبدأت أوروبا منذ الحروب الصليبية تنشق لها حضارة جديدة، مؤسسة على العلم والحرية، متقدمة في الصناعة والتجارة، يتدفق عليها المال من كل مكان، تنشق الأساطيل الضخمة، التي هجمت على الشرق من كل حدب وصوب، ينهبون خيراته[55].
إنَّ الهدَف الأسمى الذي سعى إليه الفرنسيون ليس الغزو العسكري فقط بل الفكري أيضا، لذا أسس الفرنسيون المجمع العلمي وضرب به الأزهر للقضاء عليه، وعزل الشريعة عن المدارس الجديدة، وببناء المجمع العلمي، كان أول غزو فكري منظم لضرب مناهج التعليم المصرية، حتى إن هناك من العلماء الأزهريين من وصف التعليم الأزهري بالجهل والتخلف، مما أثر على مسار الحياة التعليمية بعد ذلك، وإن كان الفرنسيون خرجوا عسكريا إلا أنهم لم يخرجوا فكريًّا، وتركوا وراءهم إرثا كبيرا واضح المعالم، ظهر إبان تولي محمد علي ولاية مصر[56].
تحويل التعليم الأزهري إلى مدني:
إن اختيار أمثال محمد علي باشا كان مدروسا بحيث إنه لا يمكن أن يتولى رجل قيادة بلد ظلوا عشرات السنين ينخرون فيه ليضيع لهم ما صنعوا!
كان محمد علي خدعة كبيرة على المسلمين كما كان مصطفى كمال أتاتورك بعده! فما كاد يصل إلى الحكم حتى نصب نفسه حاكما مستبدا، وبدأ في التخطيط لتعليم جديد بعيد عن روح الأزهر، فبدأ ينفذ أحلامه ورسم لنفسه الخطط لاكتساب أكبر قدر من البلاد لتكون تحت يده، كذا رسم للخروج من تحت عباءة الخلافة الإسلامية.
بدأ سير التعليم يأخذ منحى غربيا مخالفا لكل القيم الأصولية الإسلامية وليس الأمر كذلك فحسب بل إنه عزل التعليم الديني بالكلية عن الحياة، وجرده من كل مقومات الحياة، حتى إنه ألغى الأوقاف الإسلامية على مدارس الأزهر، وكان لذلك أثره الكبير في قطع مواد الأزهر، والتضييق على الأساتذة[57].
كان التعليم الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليمًا أساسه الجيش، فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لتطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداداته، والبعثات لسد حاجاته، حتى البعثات العلمية الأوروبية التي أرسلها كانت بإدارة عسكرية، وقد عمم هذا التعليم على كل من مصر والإسكندرية فقط، أما في باقي المحافظات فلم يهتم بالتعليم فيها أصلاً.
أما الأزهر والمساجد والتعليم الديني فقد أبقاه بدون أوقاف، مما أدى إلى قلة الراغبين فيه، حتى إنه بعد قليل من السنوات انفصل التعليم الديني تمامًا، وأصبح خاليا من العناصر الدنيوية، وقطع عنه كل الموارد، وكأنه منعزل عن مصر تمامًا[58].
بدأ هاهنا الفكر الغربي يعرف طريقه إلى مناهج التعليم المدنية التي يشرف عليها الفرنسيون، فتأثر التعليم في مصر جدا بهم حتى في لوائح التعليم، حتى ديوان المدارس والخطط المدرسية كل ذلك كان مترجما من اللغة الفرنسية إلى العربية بدقة كبيرة، وكانت اللجان التعليمية مكونة من الفرنسيين ومن المصريين الذين تعلموا في فرنسا، بل إن هيئات التدريس كانت فرنسية قُحة[59].
لم يكن محمد علي يعمل من تلقاء نفسه بل إنه كان محاطا بخبراء فرنسيين يساعدونه على تسيير الأمور في البلاد، ويخضعون في مناهج التعليم لأهدافهم الصليبية الاستعمارية في القضاء على الوازع العقدي في نفوس المسلمين وإسلامهم بعد ذلك لرواد الغزو الفكري الذين يعملون بهم ما يشاؤون[60].
استعان محمد علي كذلك بالإيطاليين في أول الأمر لأن الجماهير كانت كارهة للفرنسيين من بعد ما عملوه أيام الاحتلال الفرنسي لمصر، وقد كان ذلك منه سياسة مرحلية سرعان ما تراجع عنها إلى فرنسا التي تسير أموره وأمور جيوشه الموجهة لقمع الحركة الإسلامية في وسط الجزيرة العربية.
مضى محمد علي يدخل التقنية الحديثة الأوروبية على المدارس المصرية بعيدا عن التعليم الديني الأزهري، لذا قام بترجمة الكتب الفرنسية إلى العربية، وحذف المترجمون كل ما يمس العقيدة الإسلامية إذ جردوها من كل روح، وعملوا على إبعاد الطلاب عن كل ما له بالدين، والشرع، والعقيدة، وبلا شك أضر ذلك بمصر أشد الضرر وبالأمة الإسلامية جمعاء.
يأتي الطريق الثاني لطريق علمنة التعليم في عهد محمد عليّ حيث وجه البعثات إلى أوربا وكان العامل الأساسي في ذلك إبعاد الطلاب عن الحضارة الإسلامية العربية، وجذب الحضارة الفرنسية الأوربية إلى مصر، من خلال إبهار المبعوثين بذلك.
وبالطبع محمد علي لم يكن بالغباء الذي به يترك الأوروبيون يفعلون ما يشاؤون في التعليم، إذ إن التعليم لا يهمه أصلا، ولكن الأهم هو تكوين إمبراطورية كبيرة، يكون هو القائد الأعلى لها، وإذا ما نظرنا إلى المدارس التي أنشأها محمد علي يتضح لنا أنه كان يبعد التعليم الديني عن أي دور في الحياة، منها:
1- مدرسة الهندسة بالقلعة: لإعداد تلاميذ لمدارس المدفعية، والهندسة الحربية والبحرية، وإعداد الموظفين للمصالح التي تتطلب العلم بالرياضة والطبيعة.
وهي التي تسمى بالمهندس خانة.
بالطبع لم يمكن لطلبة الأزهر الإكمال في التعليم الديني، وترك مثل هذا الازدهار والعلوم الدنيوية التي لم يعرفها المسلمون من قبل، لذا ترك كثيرٌ من أبناء المسلمين التعليم الأزهري الديني واتجهوا إلى التعليم المدني[61].
2- مدرسة المعادن بمصر القديمة.
3- مدرسة المحاسبة بالسيدة زينب.
4- مدرسة الفنون والصنائع.
5- مدرسة الصيدلة.
6- مدرسة الزراعة.
7- مدرسة الطب البيطري.
ومن أكبر عيوب هذا التعليم أنه كان يفتقر إلى الكتاب المدرسي وإلى منهجية شاملة لخدمة الأمة كلها لا لقطاع الجيش فقط، كما كان يفتقر إلى قاعدة يتدرج فيها المتعلم إلى أن يصل إلى المراحل التي أسسها حيث كون تعليمًا جامعيا دون تهيئة للمدارس للوصول إليه، فإنما هو التقليد فحسب.
اكتشف محمد علي العجز التام في المناهج التي يمتلكها، والعجز الطلابي في تجاوب الطلاب معها، لذا أرسل إلى فرنسا لاستيراد المناهج العلمية كاملة وترجمها، وبذا تمت عملية الغزو الفكري بكل حلقاتها[62].
إن الناظر في واقعنا الآن يرى أثرًا كبيرًا على تعليمنا، حيث انتشرت علمنة التعليم في أرجاء مصر، فتجد المناهج الحديثة مادية بحتة، تروج إن لم نقل للفحش، فسنقول للخروج عن كل ما هو ديني، فبإلقاء نظرة عجلى على منهج اللغة العربية والتربية الإسلامية المصرية فسنجدها لا تخرج عن الآتي:
1- الأخوة بين المسلم والنصراني، وأنهم يد واحدة.
2- إهمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
3- إنكار الختان وأنها عادة قبيحة.
4- تصوير المسلمين المجاهدين بأنهم إرهابيون منحرفون يدمرون المجتمعات.
5- انغلاق تام نحو كل ما هو جديد.
6- رمي كل ملتزم بالتخلف والجمود.
7- اختيار موضوعات غير مناسبة للمرحلة العمرية للطلاب.
8- إهمال العبادات الإسلامية وتصويرها على أنها كماليات.
9- ترسيخ مفهوم العلمانية عن طريق تصوير أن العبادة داخل المسجد وفقط.
10- وجود أخطاء نحوية وعروضية في المناهج الدراسية.
تلك عشرة كاملة أختم بها هذا المبحث، وكم كنت أتمنى أن أسهب في هذا المبحث ولكن حقًّا ما الصدر كبير وأخشى أن أطيل أكثر من ذلك، ولعل الله ييسر وقتًا لكتابته أكثر من ذلك والله الموفق،،،
المبحث الثاني: الغزو الفكري في مجال التعليم بالمغرب:
إن الحديث عن دولة عربية كالمغرب كان يستلزم وصف حال المغرب منذ نشأتها، متضمنًا هذا وصفها شرقًا وغربًا، وحدودها قديمًا وحديثًا... إلخ، ولكني أرى أن في ذلك خروجًا عن المقصد الرئيس، ومحله كتب الجغرافيا والتاريخ.
وبما أنَّ مقصد البحث المجال التربوي والتعليم، كان لزامًا أن أترك ما أشرت إليه سابقًا للكتب المختصة لأدخل مباشرة في المقصد الذي من أجله سقت هذه المادة.
وأبدأ بحول الله مستعينةً بـ:
مناهج التعليم في المغرب قبل وأثناء وبعد الاحتِلال الفرنسي:
لم تكن المغرب كمصر لا قبل الاحتلال ولا بعده، إذ لم تكن جامعة القرويين والمدارس التابعة لها في القرون الماضية وخاصة القرن 19 بالقوة التي تؤهلها للقيام بنهضة ثقافية تواجه بها الاحتلال الفرنسي، إذ كان نظام التعليم طبقيًّا، وأضحى التعليم في الجامعة مِن أصعب ما يكون، ذلك بسبب الشُّروط التي التي تصعب الالتحاق بها، وأصبح التعليم حقًّا لكل أصحاب الطبقة الميسورة، أما ما عداها من أصحاب الطبقات الفقيرة فليس له إلا الكتاتيب، ثم التخرج منها، ولا يحق له الدخول، إلا إنْ مَنَّ الله عليه بواسطة تدخله الجامعة بعد دفع مبالغ طائلة!![63] وبهذا فقد فقدت الجامعة في هذا الوقت كثيرًا من الطلاب، ليس في المغرب فقط، بل خسرتْ كثيرًا من الطلاب من شتى الدول العربية.
أما بالنسبة للمواد الدراسية التي كانت تُدَرَّس في الجامعة آنذاك، فكان يدرس كتب ابن سيد الناس، وكتب رجال التصوف، كتب التفسير من أمثال الرازي، والبيضاوي، والزمخشري، والسيوطي...
وكانتْ هناك كُتُبٌ مشهورةٌ اعتمدها أساتذة جامعة القرويين في هذا الوقت، مثل:
صحيح البخاري، نوادر الأصول للترمذي، تنبيه الغافلين للسمرقندي، تفسير الثعلبي، حلية الأولياء، إحياء علوم الدين، كتاب الشفا للقاضي عياض، عمدة الأحكام، كتب السيوطي، كتب الشعراني الصوفي....
ولكن قلة الداخلين أدى إلى بعض ركون أشار إليه ابن خلدون في تاريخه قائلاً: "اعلم أنَّ سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب؛ باختلال عمرانه، وتناقص الدّول فيه، وما يحدث عن ذلك من نقص الصَّنائع وفقدانها... وذلك أنّ القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصَّنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيهما التّعليم لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة، فلمّا خربتا انقطع التَّعليم من المغرب إلّا قليلا كان في دولة الموحّدين بمراكش مستفادًا منها.
ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدّولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل، وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقّن تعليمهم... إلخ[64]، ثم يقول: "وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوًا من حسن التّعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم، فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم، وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللّسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة، فهو الّذي يقرّب شأنها، ويحصّل مرامها، فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم، ثمَّ بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التّعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك، ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين... إلخ[65].
يتبع