الخلاصة:
• عِظَم شأن العدل؛ حيث أمرَ الله به وأوجَبه مع القريب والبعيد، ومع العدو أيضًا.
• أهميَّة تحقيق العدل والمساواة بين الطلاب؛ لِما فيه من إشاعة المحبَّة والمودَّة بينهم.
• يتأكَّد العدل ويتعيَّن، عند وَضْع العلامات ورَصْد الدرجات.
• الحرص على إبقاء علاقات القَرابة أو الصَّداقة بعيدة عن مسمع ومرأى الطلاب الآخرين.
4- التحلِّي بالأخلاق الفاضلة والحميدة:
لا شكَّ أنَّ الكلمة الطيِّبة والعبارة الحَسَنة، تفعل أثرها في النفوس، وتؤلِّف القلوب، وتُذهب الضغائن والأحقاد من الصدور، وكذلك التعبيرات التي تَظهر على وجه المعلم، تُحدث مردودًا إيجابيًّا أو سلبيًّا لدى الطالب؛ وذلك لأن انبساط الوجه وطلاقته مما تأْنَس به النفس وتَرتاح إليه، وأما عُبوس الوجه وتَقطيب الحاجبين، فهو مما تَنفر منه النفس وتُنكره.
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أطيَبَ الناس رُوحًا ونفسًا، وكان أعظمهم خُلقًا؛ ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
ولَم يكن فظًّا غليظًا حادَّ الطباع، بل كان سهلاً سمحًا ليِّنًا، رؤوفًا بأُمَّته؛ ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
عن عطاء بن يسار قال: "لَقِيت عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقلت: أخْبِرني عن صفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التوراة، فقال: أجَل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45].
"وحِرزًا للأُمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيِّئة، ولكن يعفو ويَصفح، ولن يَقبضه الله؛ حتى يُقيم به المِلَّة العَوْجاء، بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"، ويَفتح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا"[15].
تِلْكُم كانت بعض صفات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خُلق عظيم، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، ليس بفظٍّ ولا غليظ القلب... إلخ.
وتلك صفات كانت من لوازم الدعوة؛ إذ إن المدعوين يحتاجون إلى مَن يَرفق بهم، ويُعلِّمهم أمور دينهم؛ ففيهم الجاهل، وفيهم الصغير، وفيهم الكبير، وكلُّ أولئك يَلزمهم رِفقٌ وخُلق وحِلم، وأَناة ولُطف وحُسن تصرُّف، وإلاَّ انفضُّوا وغَضِبوا، ولَم يتَّبعوا الهدى ممن جاء به، ولقد ضرَب رسولنا الكريم - بأبي هو وأمي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أروعَ الأمثلة في حُسن الخُلق، كيف لا، وربُّنا - عزَّ وجلَّ - هو الذي امتدَحَه بذلك؛ ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؟!
وكانت عائشة أمُّ المؤمنين - رضي الله عنها - تقول: "كان خُلقه القرآن"[16].
وتعال معنا لنرى ذلك الموقف الذي يرويه أنس بن مالك يقول: "كنتُ أمشي مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليه بُرد نَجراني غليظ الحاشية، فأدرَكه أعرابي، فجبَذه بردائه جبْذَةً شديدة، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أثَّرت بها حاشية البُرد من شِدَّة جَبْذته، قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم ضَحِك، ثم أمَر له بعطاء"[17].
ما أعظمَ ذلك الخُلقَ الرفيع الذي امتازَ به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ كان في مقدوره أن يؤدِّب ذلك الأعرابي على صنيعه، ولكن لَم تكن تلك من شِيَم ولا أخلاق المعلِّم الأول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كيف يفعل ذلك وهو الذي قال:
((مَن كظَم غيظًا وهو يَقدر أن يُنفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يُخيِّره في أي الحور العين شاء))[18].
والمربون والمعلمون حَرِيٌّ بهم أن يترسَّموا خُطى المعلم الأول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التحلي بالأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع، وهي من أنجع الوسائل في التعليم والتربية؛ حيث إنَّ الطالب في الغالب يتأثَّر ويَتخلَّق بأخلاق معلمه، ويتقبَّل منه أكثر من غيره، فإذا كان المعلم يتحلَّى بأخلاق حميدة، أثَّر ذلك على طلابه إيجابًا، وعَمِلت في نفوسهم ما لَم تَعمله عشرات النصائح والدروس، ومن هنا نفهم سرَّ قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من شيء في الميزان أثقلُ من حُسن الخُلق))[19]، وقوله: ((إنَّ الرجل ليُدرك بحُسن خُلقه درجات قائم الليل وصائم النهار))[20]؛ لأنَّ حُسن الخلق سجيَّة تَعمل عمل السحر في أَسْر القلوب، واستمالة النفوس، وإشاعة المحبَّة بين أفراد المجتمع، والمعلمون هم أَوْلَى الناس بذلك.
الخلاصة:
• الأخلاق صفة حميدة يَنبغي للمعلم أن يتحلَّى بها، ويحثُّ طلابه على التخلُّق بها.
*• الكلمة الطيِّبة والبشاشة وطلاقة الوجه من الأسباب التي تُزيل الحاجز النفسي بين المعلم وتلميذه.
• الحِلم والأناة وانشراح صدر المربِّي في مقابل جهل الطالب.
5- تواضُع المعلم:
التواضُع خُلق حميد، يُضفي على صاحبة إجلالاً ومَهابة، ومَن ظنَّ أنَّ التواضع خُلق مرذول، ينبغي تجنُّبه وتَرْك التخلُّق به، فقد أخطأ وأبعَد النُّجعة، وحسبك بإمام الأتْقياء مثلاً - صلَّى الله عليه وسلَّم[21].
والتواضُع وإن كان من لوازمه الذُّل، فهو إن كان في جانب الله فما ألذه من ذُلٍّ وما أطيَبه؛ لأن العبوديَّة لا تتحقَّق ولا تَكمُل إلاَّ بالذُّل لله والانكسار بين يديه، وأمَّا الذلُّ الذي يكون في جانب المخلوقين، فهو في حقِّ المؤمنين خاصة؛ قال تعالى: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].
فهم للمؤمنين أذلَّة؛ من محبَّتهم لهم، ونُصحهم لهم، ولِينهم ورِفْقهم، ورَأْفَتهم ورحمتهم بهم، وسهولة جانبهم، وقُرب الشيء الذي يطلب منهم[22].
والمعلم في أمَس الحاجة إلى التخلُّق بهذا الخلق العظيم؛ لِما فيه من تحقيق الاقتداء بسيِّد المرسلين، ولِما فيه من نَفْعٍ عظيم للمتعلمين.
"إذا كان الإنسان المسلم يحتاج إلى التواضع للنجاح في علاقته مع الله ثم مع المجتمع، فإن حاجة المعلم إلى التواضع أشدُّ وأقوى؛ لأنَّ عمله العلمي والتعليمي والتوجيهي، يقتضي الاتصال بالمتعلمين والقُرب منهم؛ حتى لا يجدوا حرَجًا في سؤاله ومناقشته، والبوح له بما في نفوسهم؛ لأنَّ النفوس لا تَستريح لمُتكبرٍ أو مُتجبِّر، أو مُغتر بعمله"[23].
وإليك بعضَ الأمثلة من تواضُعه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله أوحى إليّ أن تواضَعوا؛ حتى لا يَفخر أحد على أحدٍ، ولا يَبغي أحدٌ على أحد))[24].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((إنَّ كانت الأَمَة من إماء المدينة، لتأخُذ بيد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتَنطلق به حيث شاءَت))[25].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلا رعَى الغنم))، قال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: ((نعم كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة))[26].
وعنه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لو دُعيت إلى كراع أو ذراعٍ، لأَجَبت، ولو أُهْدي إليّ ذراعٌ أو كراع، لقَبِلت))[27].
وعن قيس بن مسعود أنَّ رجلاً كلَّم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الفتح، فأخَذته الرَّعدة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هوِّن عليك؛ فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد))[28].
ويبلغ التواضع ذِروته عند فتح مكة؛ يقول ابن إسحاق: حدَّثني عبدالله بن أبي بكر أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليَضع رأسه تواضُعًا لله حين رأى ما أكرَمه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنُونه ليَكاد يَمسُّ واسطة الرحل، وقال الحافظ البيهقي عن أنس قال: دخَل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الفتح وذَقنه على راحلته مُتخشعًا.
أرأيتم تواضُعًا أعظمَ من ذلك؟ قائد يَظفر بخصومه الذين أخرَجوه من بلده، وقاتَلوه، وسبُّوه، ثم يظفر بهم، ويدخل مَعْقلهم دخول الفاتحين، ومع ذلك يُطَأطئ رأسه عند انتصاره على عدوِّه؛ تواضعًا لله وشكرًا، فما أعظَمه من قائد! وما أجلَّه من مُربٍّ!
والتواضع يضاد التكبُّر، وهو خَصلة ذميمة لا تعود على صاحبها بالنفع، ومن آثار التكبُّر الذي يُصيب بعض المعلمين في المجتمعات الإسلاميَّة:
• جحوده للحق وعدم الخضوع له.
• الغرور بما لَدَيه من علمٍ مع أنه قليل.
• تَرْك طلبِ العلم؛ لظنِّه أنه قد عَلِم وفَهِم كلَّ شيء.
ثم إنَّ المعلم المتكبِّر لا يستطيع أن يصلَ إلى أهداف التعليم، ولا يُمكِّنه تكبُّره من أن يعرفَ ما تحقَّق منها؛ لأنه بعيد عن مخالطة طلابه، والدُّنو منهم؛ حتى يستطيع أن يعرف مشكلاتهم، وما يعوق بلوغهم الأهدافَ التربوية المرسومة، وما يحتاجه من مراجعة للطريقة وترتيب المعلومات وتيسيرها، وما إلى ذلك، كما أنَّ الطلاب لا يرتاحون إلى المعلم المتكبِّر المُتغطرس، فلا يصدقونه مشاعرهم وأحاسيسهم، وما يواجهونه من صعوبات؛ مما يجعل الفائدة التي يحصلون عليها من مثل هذا المعلم قليلة جدًّا.
الخلاصة:
• أثر التواضُع ليس قصرًا على المعلم، بل يتعدَّاه إلى الطلاب ويؤثِّر فيهم إيجابًا.
• التواضع سبب في إزالة الحواجز بين المعلِّم وتلميذه.
• التكبُّر سبب لنفور الطلاب من معلِّمهم، والإعراض عن تلقي العلم منه.
• بمقدار ما يكون الطالب قريبًا من معلِّمه، يتحصَّل الطالب على العلم بشكل أفضلَ، والتواضع يحقِّقه.
6- شجاعة المعلم:
قد يَستغرب الكثيرون هذا العنوان، وقد يقول قائل: ما دَخْل الشجاعة بالتعليم، فضلاً عن المعلم؟! نقول: الشجاعة التي نرمي إليها هي الشجاعة الأدبية كما يحلو للكثيرين أن يُسميها بهذا الاسم، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح، فأمَّا الشجاعة التي يَذهب الذِّهن إليها عندما نسمع هذه الكلمة لأوَّل وَهلة، فقد كان نبيُّكم - صلوات الله وسلامه عليه - أشجعَ الناس، حتى إنَّ بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يحتمون ويَلوذون به إذا اشتدَّت رحى الحرب لشجاعته - عليه الصلاة والسلام، وأمَّا الشجاعة المقصودة هنا، فهي شجاعة الكلمة، والاعتراف بالخطأ والقصور البشري، وهذا لا يكاد يَسلم منه أحد، أمَّا التدليس والجُبن والمراوغة، فليست أمرًا محمودًا، ويَحسن بالمعلم أن ينأَى عنه، ولعلَّ الصورة تتَّضح بعد تأمُّل الأمثلة.
في مسند العشرة المُبشَّرين بالجنة عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنَّا إذا احمرَّ البأس ولَقِي القوم القومَ، اتَّقينا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فما يكون منَّا أحدٌ أدنى من القوم منه"[29].
عن أبي رافع بن خديج، قال: قَدِم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة، وهم يَأْبُرون النخل، يقولون: يُلقِّحون النخل، فقال: ((ما تصنعون؟))، قالوا: كنَّا نَصنعه، قال: ((لعلكم لو لَم تَفعلوا، كان خيرًا لكم))، فتَرَكوه، فنَفَضَت أو فنقَصَت، قال: فذكَروا ذلك له، فقال: ((إنما أنا بشر، إذا أمرتُكم بشيءٍ من دينكم، فخُذوا به، وإذا أمرتُكم بشيءٍ من رأيٍ، فإنما أنا بشرٌ))[30]، وفي بعض الروايات قال: ((أنتم أعلمُ بأمور دنياكم))[31].
من سياق الحديث يتَّضح لنا بشريَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه يَخضع للأحوال التي تَعتري البشر من النسيان والخطأ وغير ذلك، أمَّا في مقام التشريع فلا يجوز عليه ذلك، نعم قد يحصل منه نسيان في مقام التشريع؛ لكي يشرع للأُمَّة؛ كما سلَّم من ركعتين في صلاة رباعيَّة، فلمَّا أُخبِر بذلك، قام وأتى بالباقي، وسجَد سجدتين للسهو، ومحل بَسْط ذلك في كتب الأصول، والحاصل أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن أنه بشرٌ، وأنَّ رأيه في الأمور الدنيوية التي ليس فيها تشريع قد يُصيب وقد يخطئ؛ قال النووي: قوله: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم))، قال العلماء: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من رأيي - أي: في أمر الدنيا ومعايشها - لا على التشريع، فأمَّا ما قاله باجتهاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورآه شرعًا، يجب العمل به، وليس إبارُ النَّخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله"[32].
ولو أننا أعَدْنا النظر إلى سياق الحديث مرة أخرى، لوجَدنا أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حاوَل أن يجدَ لنفسه العذر عندما رأى هذا الرأي - وحاشَاه ذلك - بل اعترَف ببشريَّته، وأنَّ هذه الأحكام تجري على البشر، وتعالَوا بنا لننظر إلى صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنرى كيف ترسَّموا خُطى نبيِّهم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فمن ذلك:
ما رواه مسروق قال: رَكِب عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: "أيُّها الناس ما إكْثَاركم في صُدُق النساء، وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك؟! ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة، لَم تَسبقوهم إليها، فلا أعرفنَّ ما زاد رجلٌ في صَداق امرأة على أربعمائة درهم"، قال: ثم نزل، فاعْتَرَضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين، نَهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أمَا سَمِعت الله يقول: ﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ﴾ [النساء: 20]، قال: فقال: اللهمَّ غفرًا، كلُّ الناس أفقهُ من عمر، ثم رجَع فرَكِب المنبر، فقال: أيُّها الناس، إني كنتُ نَهيتكم أن تَزيدوا النساء في صدقاتهنَّ على أربعمائة درهم، فمَن شاء أن يُعطي من ماله ما أحبَّ"[33].
عن محمد بن كعب القرظي، قال: سأل رجل عليًّا بن أبي طالب عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا كذا، فقال علي - رضي الله عنه -: أصبْتَ وأخطأتُ، وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم"[34].
الله أكبر، انظر إلى تلامذة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يضربون أروع الأمثلة في الشجاعة والإنصاف، ولو كان على حساب النفس، وهذا والله ليَزيد المرء عزًّا ورِفعة، ولا ينقص من قدره شيئًا، ومَن ظنَّ غيرَ ذلك، فقد حاد عن جادة الصواب، والمعلم بحكم وظيفته وبشريَّته، معرَّض لمثْل هذه المواقف، فيا تُرى، ماذا يقول المعلم إذا أخطأ في مسألة ما وعارَضه فيها أحد طلابه، ثم بانَ له الصواب؟ هل يُبادر إلى شكر الطالب والاعتراف بالخطأ؟ أم أنه يُراوغ، ويَقلب الكلام بعضه على بعض؛ حتى يُبرهن لهم صحة قوله؟ أتركُ لك الجواب!
يقول ابن عبدالبر: "من بركة العلم وآدابه الإنصافُ فيه، ومَن لَم يُنصف، لَم يفهم، ولَم يَتَفهَّم"[35].
الخلاصة:
• اتِّصاف المعلم بالشجاعة مطلب لكلِّ مُعلِّم.
• الاعتراف بالخطأ ليس فيه تنقيص لصاحب الخطأ، بل هو رِفعة له، ودليل على شجاعته.
• الاعتراف بالخطأ معناه: إصلاح الخطأ، وعكسه الاستمرار عليه والعناد فيه.
7- مزاح المعلم مع تلاميذه:
من المعلوم أنَّ المواد العلميَّة تتميَّز بالجفاف في مادتها، وهي تَستلزم حضورًا عقليًّا وقلبيًّا، فتجد الطالب يشحذ حواسَّه كلَّها؛ لاستيعاب المادة العلمية المطروحة، ومهما يتميَّز به المعلم من حُسنٍ في الأداء، وجودة في الطرح، فإن عقل التلميذ له قدرة محدودة في استقبال المعلومات؛ ولذا كان حَرِيًّا بالمعلم أن يُدخل الطُّرفة بين ثنايا الدروس العلمية، لكي يطردَ السآمة والملل الذي قد يُخيِّم على أجواء الفصل من جرَّاء تتابُع عَرض المواد العلميَّة.
ومن فوائد بثِّ الطُّرفة بين ثنايا الدرس من حين لآخر: أنها تَطرد السآمة والمَلل، ومنها أنها تُريح الذِّهن قليلاً من عناء المتابعة الدقيقة للمعلم، ومنها أنها تُفيد المعلم أيضًا في أخْذ قسطٍ من الراحة، ومنها أنها تَشحذ الذهن، وتُعطيه جرعة جديدة لمواصلة استقبال المعلومات، ومنها أنها تُغيِّر جوَّ الفصل الذي خيَّم عليه الجفاف، إلى غير ذلك.
والمزاح بكسر الميم: الانبساط مع الغير من غير تنقيص أو تحقير له؛ يقول النووي: "اعْلَم أنَّ المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه؛ فإنه يُورث الضَّحك وقسوة القلب، ويَشغل عن ذِكر الله والفكر في مُهمَّات الدين، ويُؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوقار، فأمَّا ما سَلِم من هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومُؤانسته، وهو سُنة مستحبَّة، فاعْلَم هذا؛ فإنه مما يَعظم الاحتياج إليه"[36].
وقال الغزالي في الإحياء: "إنَّ قدَرت على ما قدَر عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، وهو أن تَمزح ولا تقول إلاَّ حقًّا، ولا تؤذي قلبًا، ولا تُفرط فيه، وتَقتصر عليه أحيانًا على النُّدور - فلا حرَج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتَّخذ الإنسان المزاح حِرفة يواظب عليها، ويُفرط فيه، ثم يتمسَّك بفِعل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"[37].
ولقد وردَت أخبار عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مُداعبته لأهله، ومزاحه مع أصحابه، وسوف نتخيَّر منها - إن شاء الله - ما يكفي ويشفي:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تُداعبنا، قال: ((نعم، غير أني لا أقول إلاَّ حقًّا))[38].
وعن أنس بن مالك أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هَديَّة من البادية، فيُجهِّزه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أراد أن يخرج، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ زاهرًا بادِيتُنا ونحن حاضِروه)).
يتبع