
02-06-2021, 03:33 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,251
الدولة :
|
|
رد: قضية الأدب الإسلامي
وَالشِّعْرُ - يَا بَدَوِيُّ - قَدْ 
عَلَّمْتَنَا أَنْ لَيْسَ يُشْرَى 
أَنَا مُفْحَمٌ بِالشِّعْرِ إِلْ 
لاَ أنْ يَذُوبَ القَلْبُ شِعْرَا 
وَتَسِلُّ مِنِّي المَكْرُمَا 
تُ قَصَائِدًا عُصْمًا وَغُرَّا 
أَنَا مُسْلِمٌ صَانَ اللِّسَا 
نَ تَقِيَّةً للهِ ذُخْرَا 
وَنَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ لَسْ 
تُ أَصُوغُهَا مَيْنًا وَهُجْرَا 
مفهوم الأدب الإسلامي ومميزاته:
هكذا كان الأدب الإسلامي موجودًا منذ فجر الإسلام، فيما لا يمكن إحصاؤه من نصوص الشعر والنثر الفني، ومن هذه النصوص تجلَّى مفهوم مميَّز للأدب الإسلامي، ووضع أكثر من تعريف له، وكانت الدعوة إلى نظرية الأدب الإسلامي.
أمَّا التعريف الذي تبنَّته رابطة الأدب الإسلامي العالمية فهو: "الأدب الإسلامي هو: التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفْق التصوُّر الإسلامي".
وهذا يعني أنَّ الأدب الإسلامي أدب مضمون بالدرجة الأولى، وهنا أقول: ليس هناك موضوع يُحظر على الأديب الإسلامي أنْ يتناوَلَه في قصيدة أو قصة أو مسرحيَّة، وإنما الشرط الوحيد الذي يجعَلُ المضمون إسلاميًّا هو أنْ ينطلق الأديب من التصوُّر الإسلامي السليم للكون والحياة والإنسان.
ومن هنا أقول أيضًا: ليس صحيحًا ما يتوهَّمُه بعض الناس حين يظنون أنَّ الأدب الإسلامي هو أدب الوعظ المصطنَع الذي لا تتحقَّق فيه فنيَّة النص في الشكل والمضمون.
وبناءً على تلك المسلَّمات نستطيع أن نقسم النتاج الأدبي - أيًّا كان نوعه - إلى دوائر ثلاث:
1- أولاها دائرة الأدب الملتزم بالتصوُّر الإسلامي، وهي دائرةٌ لا تقتصر على أدب الدعوة، بل تتَّسع لتشمل أيَّ موضوع يَدُور حول الكون والحياة والإنسان.
2- والثانية دائرة الأدب المباح، وهو أدبٌ لا يعارض التصوُّر الإسلامي وإنْ لم يلتزم به، وهي دائرة تتَّسِع للأدب الجمالي المحض أو لأدب التسلية والترويح عن النفس.
3 - وأمَّا الدائرة الثالثة فهي دائرة الأدب الذي يُعارِض التصوُّر الإسلامي ويُضادُّه، وهذا الأدب هو الذي يرفُضه الأدب الإسلامي، ويعدُّ التصدِّي له من واجباته ومهمَّاته؛ لأنَّه أدب العقائد والمذاهب "الأيديولوجيات" المنحرفة عن الإسلام، أو أدب العبث الهدَّام، أو أدب الجنس والانحِلال، أو أدب الحداثة الفكريَّة المدمِّرة لا أدب الحداثة بمعنى التجديد في المضمون والشكل.
والأدب الإسلامي - الذي سمعتم نماذج وضيئة منه على مر العصور - يرفض النماذج المنحرفة التي يقول فيها "بلند الحيدري"؛ "قصيدة انطلاق":
لو مرة عرفت يا إلهي الكسيح كيف الزنا يصير
ويرفض مثل قول أدونيس "انتصار":
غَنَّيْتُ لِلأُفُول... رَقَصْتُ فَوْقَ جُثَّةِ الإِلَه
ومثل قول "بدر شاكر السيَّاب":
فنحن جميعًا أموات.. أنا ومحمد والله!
ومثل قول نزار قباني في قصيدة عنوانها: "خبز وحشيش وقمر":
فِي بِلاَدِي بِلاَدِ الشَّرْقِ لَمَّا يَبْلُغُ البَدْرُ تَمَامَهْ
يَتَعَرَّى الشَّرْقُ مِنْ كُلِّ كَرَامَهْ... وَنِضَالْ
وَالْمَلاَيِينُ الَّتِي تَرْكُضُ مِنْ غَيْرِ نِعَالْ
الَّتِي تَسْكُنُ فِي اللَّيْلِ بُيُوتًا مِنْ سُعَالْ
وَالَّتِي تُؤْمِنُ فِي أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ... وَفِي يَوْمِ القِيَامَهْ!
وأما عن قضية الشكل في الأدب الإسلامي: فليس هناك شكل أدبي يحرِّمه الإسلام بصورة مبدئيَّة، إلا إذا كان هذا الشكلُ يعدو على المضمون الإسلامي، أو على قِيَم الإسلام وأوامره ونواهيه، ومن ذلك تلك الأشكال المشتقَّة من المسرح؛ كرقص الباليه، وكالاستعراضات الغنائيَّة المختلطة.
وأقول هنا دون تردُّد: إن الشكل الذي يُعارض الإسلام لا يختلف عن المضمون الذي يعارض الإسلام، وليست إسلاميَّةُ المضمون شفيعةً ولا مسوِّغة لانحراف الشكل.
وليس للأديب الملتزم بالإسلام - شاعرًا كان أو قاصًّا أو مسرحيًّا - أن يُمارس مضمونًا أو شكلاً مخالفًا لقيم الإسلام الثابتة؛ إذْ ليس للأديب المسلمِ رخصةٌ ولا خصوصيَّة تُجيز له ما لا يجوز لغيره من المسلمين.
وأقول من ناحية أخرى: ليست إسلاميَّةُ المضمون شفيعةً للأديب المسلم أن يقصِّر في جمالية الشكل، ولا في التجويد الفنِّي، فذلك مما يزري بالأدب الإسلامي ويضُرُّ به، ويكون حجة عليه في يد خصومه، بل إنَّ الأديب المسلم مدعوٌّ أكثر من غيره إلى أن يبلغ قمَّة الروعة في الأداء الفني؛ حتى يكون أدبه شرارة توقظ القلوب بحرارة التجربة، ولهيب الإبداع، ونورًا يسري على سناه المسلمون؛ ليخرجوا من تيه الضياع.
وانطلاقًا من تعريف الأدب الإسلامي ومفهومه المتميز؛ نجد لهذا الأدب خصائص فنية يتجلى أهمها في أنه:
1 - أدب ربَّاني يقوم على تصوُّرٍ عقَدي ثابت، هو التصوُّر الإسلامي السليم.
2 - هو أدب ملتزم بالإسلام؛ لأننا نستطيع تعريف المسلم بأنه إنسان ملتزم، وليس للأديب - كما قدَّمنا - خصوصية تبيح له الخروجَ عن الإسلام، والتزامُ الأديب المسلم التزامٌ طوعي، نابع من إيمانه وعقيدته، ولذلك فهو بعيد عن الإلزام القسري الذي نجده - في مذهب الواقعيَّة الاشتراكية - قيدًا مفروضًا على الأديب من الخارج، مما يحدُّ من حرية الأديب، ويجعل أدبه مصطنعًا زائفًا.
3 - وهو أدب شمولي واسع الآفاق، يستمدُّ شموله من شمول الإسلام لكل شؤون الحياة، ولكل شؤون المسلم.
4 - وهو أدب متوازن، يستمدُّ توازُنَه ووسطيته من وسطية الإسلام، وخير الأمور أوسطها، فهو يوازن بين المضمون والشَّكل، وبين المثالية والواقعية، وبين أشواق الرُّوح ونوازع المادة، وبين التراث والمعاصَرة.
5 - وهو أدب إنساني بِمقدار ما في الإسلام من إنسانيَّة؛ ï´؟ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ï´¾ [الإسراء: 70]، ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ï´¾ [الحجرات: 13].
6 - وهو أدب متَّصل عبر القرون، فليس مذهبًا عارضًا، ولا بدعة مستحدَثة، ولسنا نجد في المذاهب الأدبية العالمية مذهبًا يُطاوله في امتداده الزَّمني عبر العصور.
7 - وهو أدب هادف؛ إذْ يشكِّل قسمٌ كبير منه ما يسمَّى بأدب الدعوة الإسلاميَّة، دون أن يكون محصورًا فيه كما قدَّمنا، كما أنه يهدف إلى صياغة الوجدان الإسلاميِّ، وبناء الشخصية الإسلاميَّة، ويعبِّر عن آلام الأمة الإسلامية وآمالِها، ويسعى إلى ترشيد الصحوة الإسلامية، ورَفْع الأمة إلى معركة المصير.
مسوِّغات الأدب الإسلامي:
(1) أهمية الأدب وتأثيره:
إن أول مسوغ للدعوة إلى الأدب الإسلامي يكمُن في أهمية الأدب وقوَّة تأثيره، وقد شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يكون القرآن الكريم معجزةً بلاغيَّة؛ ليؤثِّر في الوجدان مثلَ تأثيره في الألباب، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو القائل: ((إن من البيان لسِحرًا)).
وأقول لكلِّ ملتزم بالإسلام ولكل داعية إسلامي: لقد ذهب العصر الذي كان فيه الأدب أُلْهِيَّة فنِّية، وترَفًا فكريًّا بانقضاء عهود التكسُّب بالشعر، وهي عهود قديمة، وبسقوط مذهب الفنِّ للفن، وهو مذهبٌ حديث، وأصبح الأدب اليوم - كما كان في عهد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أداةً، بل سلاحًا للدفاع عن الإسلام، والحضِّ على الجهاد، وصياغة الوجدان، ورفع مستوى المسلمين رجالاً ونساء، وأطفالاً وشبابًا، بما تملكه الكلمة الأدبية الأصيلة الهادفة من قدرةٍ على التأثير في القلوب والعقول في آنٍ واحد.
والأدب اليوم - كما يقول الأستاذ "محمد قطب" -: "سلاح يستعمله أعداءُ الإسلام في إفساد الأجيال، وإشاعة الانحلال، فما أجدرَنا أن نستعمله في الدِّفاع عن الإسلام وبِنَاء الأجيال!".
وما من مذهب فكري منحرفٍ إلا استعمل الأدب وسيلةً لنشر آرائه، وحشْد الأتباع حوله، حتى كان من قول سماحة الشيخ "أبي الحسن الندوي": "إن العالَم اليوم يَحكمه القلَمُ، وتَحكُمه الكلمة".
والكتاب العلمي أو الكتاب الفكري - وإن كان إسلاميًّا - فإن قرَّاءه محدودو العدد، أمَّا الشِّعر، والقصَّة، والتمثيلية والمسلسلة المرئيتان، أو المسموعتان، فلا يكاد جمهورها يُحَدُّ، وهو جمهورٌ من مُختلِف الطبقات والأعمار.
وإذا كان الكِتاب الفكري يخاطب العقل، فيقنع، أو لا يقنع، فإن الكتاب الأدبي - مِن شعرٍ، أو قصة، أو مسرحية مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية - يؤثر في الوجدان تأثيرًا خفيًّا لا يكاد يُحَسُّ، ولكن هذا التأثير ما يزال يتغلغل في الوجدان حتى يتمكَّن منه، ثم يؤثِّر في الفكر، ويصوغ الشخصية صياغة خيرٍ أو شر.
(2) تصحيح العلاقة بين الأدب والعقيدة:
ما من شكٍّ في أنَّ الدعوة إلى الأدب الإسلامي هي الوسيلة التي لا بد منها لتصحيح العلاقة بين الأدب والعقيدة، وإيجاد الانسجام بين عقيدة المسلم، وعطائه الأدبي، وتكامُل شخصيته.
والإسلام ينظِّم حياة الفرد من أصغر شؤونه إلى أكبَرِها، والأديب - كما يقول الأستاذ محمد قطب - مسلمٌ أولاً، ثم أديب ثانيًا، والأدب إحساس بالجمال، وتعبيرٌ عن هذا الإحساس، والإفراز الأدبي جزء من الحياة، والحياة كلها يحكمها الإسلام، والمسلم - أديبًا كان، أو غير أديب - ينبغي أن تكون حياته مشمولةً بالإسلام، وخاضعة له.
وإذا ظن الأديب أنه يمكن بعد أداء فرائضه أن يسرح كما يشاء، وأن يقول كلَّ ما تسوِّله له النَّفس الأمَّارة بالسُّوء، فهذا غلط، وبعض الأدباء يقول: أنا حر، ما من أحد له سلطة عليَّ، وأنا لا أرتضي أيَّ قيد كان، وبخاصة قيد الدِّين، وأنا أرفضه، وأتمرَّد عليه، والنتيجة تكون إلحادًا، كما رأينا في بعض النَّماذج الشعرية، وكما نرى في بعض الروايات الأدبية؛ مثل: رواية "أولاد حارتنا" لـ"نجيب محفوظ"، أو تكون عبثيَّة محضة مثل رواية "القاهرة الجديدة" للكاتب نفسه.
(3) واقع الأدب العالمي:
والأدب الإسلامي يمثِّل طوق النجاة أمام فوضى المذاهب الأدبيَّة، وكثرتها، ومادِّيتها، وعجزها، وعدم الانسجام بين الأديب غير المسلم وبين العالَمِ جَعَلَه - كما يقول الدكتور "عبدالباسط بدر" - يبحث عن الحلول في متاهات وسراديب معتمة؛ كالجنس لدى البرتومورافيا، أو الصراع الطبقي لدى ماكسيم غوركي، أو التمرد على كلِّ شيء لدى سارتر، وكل ذلك جعل الأدب العالمي يحفل بمظاهر الضَّياع والقلق، والتمرُّد والعبث، ويغرق في حمأة الجنس والانحلال، ويهدف إلى الإفساد العقائديِّ والأخلاقي.
(4) واقع الأدب العربي:
والأدب الإسلامي هو الذي يستطيع أن ينقذ الأدب العربي من وهدة التقليد والتبعيَّة والفـوضى، فالأدب العربي - كما يقرر الأستاذ "محمد قطب" - يـعيش اليوم بلا هدف ولا غاية، ولا ذاتيَّة ولا قواعد، ولا منهجٍ مرسوم.
ولقد أصبح كثير من النِّتاج الأدبي المعاصر يقوم على مُهاجمة العقيدة الإسلاميَّة صراحة، وعلى التهجُّم على مَقام الألوهية، وتصوير الإسلام مرادفًا للتخلُّف، وفي هذا المجال يقول الأستاذ محمد قطب: "لا نجد في الأدب العربي المزوَّر أن الحياةَ مرسومة من خلال العقيدة، بل نجد تعمُّدًا في إغفال العقيدة، وعدم ذِكْرها إلا أن يكون الأمر سُخرية بالدِّين والمتديِّنين".
ولم يدرك كثيرٌ من المشتغلين بالأدب العربي أنَّ تغريب الحياة الفنية والأدبيَّة لا يَختلف عن تغريب الحياة الفكرية والاجتماعيَّة، والاقتصادية والسياسية.
وأما مُجاراة موجة الجنس فقد جعلت "توفيقًا الحكيم" في قصة "الرِّباط المقدس" يسوِّغ الزنا، ويزين خيانة المرأة لزوجها، وسرت هذه الموجة في معظم قصص "نجيب محفوظ" ورواياته، حتى تساءل الناقد الأستاذ "أنور المعداوي": "لماذا يتعرَّض نجيب محفوظ للجنس؟ ويهدف عامدًا إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ كما يفعل غيره من الكتَّاب؛ بُغْية الرَّوَاج؟ أم أن له اتجاهًا معينًا يتَّسم بالمنهجية التي يلتزمها كلونٍ من ألوان التعبير عن وجوده العقلي؟...".
ثم يضيف "المعداوي" قوله: "هناك قطاعات عريضة قليلة تخرج عن نطاق البُعد الموضوعي الرئيسي للمشكلة في خطوطها العامة؛ وذلك حين يعمد نجيب محفوظ إلى التفصيلات الجزئية لما يدور أحيانًا من أحداث ذاتية في الجو العائلي لآل شوكت، أو في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات، من أمثال زبيدة، وجليلة، وزنُّوبة".
وتبقى قصص "نجيب محفوظ" على قدر من الرَّصانة أمام موجة القصَّاصين والقصاصات الجديدة، من أمثال "كوليت خوري" و"غادة السمان" و"سلمى الأمير"، اللواتي جاءت قصَصُهن تقليدًا مشوّهًا للكاتبة الوجدانية "فرانسوا ساغان"، وأصبح الجنس في كثير من قصصهن محورًا اتجاهيًّا للسلوك، إن لم نقل: المحور الأول في البناء القصصي.
وتأتي أخيرًا في عالمنا العربي الحداثةُ الفكرية الشاملة؛ لتكون الفتنةَ الحالقة لكلِّ شيء، وهي حداثة توسَّلَت بالدعوة إلى التجديد، وهي تريد التهديم، وبدأَتْ بدعوى تحديث الشكل؛ لتنتهي إلى إفساد المضمون، بل إنها مضت - في إطار الشَّكل - تدعو إلى تفجير قواعد اللغة النَّحوية والصرفية، وإلى الهجمة على الشِّعر التُّراثي، وفيه شواهد اللُّغة، وتفسير القرآن الكريم.
وما من شكٍّ في أن سُنَّة الحياة تقتضي التطوُّر والتجديد، وإلاَّ أصبحت الحياة مستنقَعًا راكدًا لا حياة فيه، وما أظنُّ أحدًا يرفض التجديد؛ لأنه جديد، ويتمسك بالقديم لمجرد أنه قديم؛ ولكن المشكلة تتَّضِح فيما يمكن أن يتم التجديد فيه بألا يكون في ثوابت العقيدة، وما يُعرَف من الدِّين بالضرورة، وفي كيفيَّة التجديد؛ حتَّى لا ينقلب إلى نوعٍ من الفوضى والتخريب، وفي أهداف المجدِّدين بألا تكون مدخولةً أو مشبوهة.
وهكذا اختلط مصطَلحُ التجديد لدى الكثيرين بِمُصطلح الحداثة الفكريَّة الشاملة، فلم يبق تجديدًا أو تحديثًا خالصًا، وقد طرحت الدعوة إلى الحداثة الأدبيَّة في الوطن العربي، فكانت كلمةَ حقٍّ أريدَ بها باطل؛ إذْ أريد بالحداثة استغواءُ الشعراء والأدباء الناشئين، أو التستُّر بها لإخفاء ما يبطنه الدُّعاة إليها من نشر مذهب الحداثة بمعناها الفلسفيِّ الشامل... وإلا فمَن يرفض الحداثة بمعنى الجِدَّة، والتحديث بمعنى التجديد، وبمعنى رَبْط الأصالة بالمعاصرة ومواكبة ركب الحياة المتطوِّرة؟
ومن هنا أقول: إن الباطل المستخفي وراء ما أسميه بمصيدة الحداثة: كونُها مذهبًا فلسفيًّا هدَّامًا، يتناول جوانب المعرفة الإنسانية كلَّها، حتى ليبدو جانِبُ الأدب فيها جزئيًّا، ولا أقول: هامشيًّا، وإن قراءة كتب "أدونيس" وأمثاله، وأولها كتابه عن الثابت والمتحوِّل تدلُّ على أن هؤلاء المُغْرِضين لا يريدون لهذه الأمَّة أن يبقى لها قرآنُها، ولا عقيدتها، ولا إسلامها، ولا تراثها، بالإضافة إلى أنهم - سعيًا وراء تحقيق غاياتهم المدخولة - يوالون الإشادة بكلِّ ملحد وزنديقٍ في تاريخ المسلمين؛ كالحلاَّج، والسهروردي، وتعظيم الحركات الهدامة؛ كثورة الزنج، وحركة القرامطة، مع إعلاء شأن الذين قاموا بها؛ على أنهم أبطال الأمة ورموز التحرُّر.
وقد بيَّن الناقد الكبير الدكتور "محمد مصطفى هدارة" خطر الحداثة الفكريَّة الشاملة؛ إذْ قرَّر أنها "في الحقيقة أشدُّ خطورةً من اللِّيبرالية والعلمانيَّة والماركسية، وكلِّ ما عرفَتْه البشرية من مذاهب واتِّجاهات هدَّامة؛ ذلك أنَّها تتضمَّن كل هذه المذاهب والاتِّجاهات، وهي لا تخصُّ مجالات الإبداع الفنِّي، أو النقد الأدبي، ولكنها تعمُّ الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء"[12].
(5) واقع الأدب في العالم الإسلامي:
لا يكاد واقع الأدب لدى شعوب العالم الإسلامي يختلف عمَّا هو عليه في العالم العربي؛ من سيطرة الاتجاهات اليساريَّة، وغياب الهوية الإسلامية، مع الدعوة إلى قصيدة النَّثر؛ لتحلَّ محل شعر التُّراث، ومع غلبة موجة الجنس على القصَّة والرواية، والفتنة بالحداثة الفكريَّة الشاملـة التي تجد مسارَها في فنون الشِّعر والأدب.
(6) تيار التغريب:
ما من شكٍّ في أن الأدب الإسلاميَّ يمثِّل ردَّة فعل ضد تيَّار التغريب الذي تناول أصقاع العالَمين العربي والإسلامي، "ومثلما تنبَّه المسلمون إلى خطورة تغريب الحياة الفكريَّة والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية عن الإسلام، تنبَّهوا إلى خطورة تغريب الحياة الفنية والأدبية... وكما بدؤوا محاولات جادةً لصياغة نظريات إسلامية في الفكر والاقتصاد، والاجتماع والسِّياسة، وبدؤوا محاولات جادةً لصياغة نظريَّة إسلامية في الفنِّ والأدب، فالثقافة وَحْدة متكاملة، يؤدِّي بعضها إلى بعض، والفنـون والآداب تتفاعَلُ مع ميادين الحياة الأخرى، فتتأثَّر بها بأقدارٍ متفاوتة"[13].
(7) أدب عقَدِي لأكثر من مليار مسلم:
والإسلام عقيدة متميِّزة لأكثر من مليار وربع المليار مسلم، منهم أكثر من 200 مليون عربي، وينبثق عن هذه العقيدة تصوُّر إسلامي كاملٌ للكون والحياة والإنسان، والأمَّة الإسلامية - كما يقول الأستاذ "محمـد قطب" – "أمَّة متميـزة؛ ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ï´¾ [البقرة: 143]، فما بالنا نتدنَّى عن هذه الدرجة حتى نتسوَّل سموم الجاهلية، ونتسوَّل فتات الغرب ومذاهِبَه؟! وعزة المسلم تأبى هذا التدنِّي والتسوُّل، لا في السياسة والاقتصاد فحَسْب، بل في الفنِّ والأدب، وفي كلِّ شيء".
(8) صياغة الوجدان الإسلامي:
والأدب الإسلامي أمرٌ لا بد منه؛ لصياغة الوجدان الإسلامي دون انفصام بين الوجدان والعقل، أو بين الدِّين والأدب، وهو أمرٌ لازمٌ لتنشئة جيلٍ ملتزم بالإسلام، مُعتز بتُراثه، واثق من نفسه، مُنفتح على عصره، دون شعور بالنقْص، ودون فقدان للهُويَّة والأصالة.
"وإذا كان الأدب - كما يقول الدكتور أحمد محمد علي[14] - تجسيدًا لعواطف الأُمَّة ومشاعرها وأحاسيسها، وتصوُّراتها وأخيلتها، فإنه في المجتمع الإسلامي لا بدَّ أن يكون إسلاميًّا، وإلاَّ كان المجتمعُ زائفًا؛ إمَّا في إسلامه، وإمَّا في أدبه، أو على أقل تقديرٍ يكون مُصابًا بمرض الانفصام ما بين عقله ووِجْدانه!
وإذا كان الأدب تعبيرًا عن ذات الأديب، فإنه عند الأديب المسلم لا بد أن يكون إسلاميًّا، وإلاَّ كان الأديبُ زائفًا؛ إمَّا في إسلامه، وإمَّا في أدبه، أو على أقل تقدير يكون مُصابًا بمرض الانفصام ما بين دينه وأدبه".
(9) عالَمية الأدب الإسلامي ورسالته:
ونظرية الأدب الإسلامي ضرورية لإبداع أدبٍ يتَّخذ لغة القرآن لغتَه الأولى؛ لأنها اللغة التي يتعبَّد بها المسلمون ربَّهم آناءَ الليل والنهار، ولكن الأدب الإسلامي يمثِّل آداب الشعوب الإسلامية كلها على مُختلف لُغاتها وأجناسها...، ومِن هنا تتحقَّق للأدب العربي عالَميَّته ما دامت اللغة العربية هي اللغة الأولى للأدب الإسلامي، كما تتحقَّق للأدب الإسلامي عالَميَّته ما دام هذا الأدب يمثِّل في مضمونه العَقَدي وتصوُّره الإسلامي أدبَ الأُمَّة الإسلامية كلها، وهي الأمة التي وصَفهـا الله - تعالى - بقوله: ï´؟ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ï´¾ [الأنبياء: 92].
ومن هنا أيضًا تكون نظرية الأدب الإسلامي ورسالته ضرورة لتوحيد الآلام والآمال للشعوب الإسلامية، حين تصدر في أدبها عن نظرية أدبيَّة متكاملة، وحين تنقل آدابها إلى لُغاتها المختلفة.
والأدب الإسلامي ضروريٌّ لرفْع الأُمَّة الإسلاميَّة إلى معركة المصير التي لا يَنتصر فيها المنهزمون نفْسيًّا، ولا ينتصر فيها المقلِّدون، والمعارك الإسلامية عبر التاريخ رافَقها الشعر والنثر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيَّد من السماء - اتَّخذ الشعر سلاحًا في المعركة، واتَّخذ الخطابة أداةً للدعوة، وكل الدعوات الإصلاحية والفكرية، والاجتماعية والسياسية، عبر تاريخنا القديم والحديث، اتَّخذتْ من الكلمة وسيلة مؤثِّرة في القلوب والعقول، وفي حشْد الأتْباع والأنصار، وتلك شهادة التاريخ فيما قاله صلاح الدين الأيوبي: "ما فُتِحت البلاد بالعساكر، بل أخذتُها برسائل القاضي الفاضل".
(10) امتداد الأدب الإسلامي:
لقد مضَى على امتداد الإسلام "14" أربعة عشر قرنًا، ورافَقه امتِدادُ الأدب الإسلامي الذي لَم يتوقَّف عطاؤه أبدًا؛ سواء في أغراض الشعر المتنوعة، أو في فنون النثر الكثيرة، مما أشرنا إليه في مقدمة هذا البحث.
(11) توافر النصوص والنقاد:
وإذا كانت النظرية الأدَبيَّة أو المذهب الأدبي يحتاج كلٌّ منهما إلى توافُر النصوص التي ينتجها المُبدعون، وإلى توافُر النُّقاد الذين يُنظِّرون هذا الأدب، ويَستظهرون منهجه في النقد، كما يستظهرون سِماته وخصائصَه المميزة، فإنَّ نصوص الأدب الإسلامي مُستمرَّة ومُتواصِلة عبر العصور والقرون، وإلى يومنا المشهود، ونحن نجد في الساحة الأدبيَّة في كل قُطر عربي أو إسلامي كَثْرةً من الشعراء والقَصَّاصين، والكُتَّاب والنُّقَّاد الإسلاميين...، وكل ذلك يعني أن قضيَّة الأدب الإسلامي قد رسَّخَت جذورَها منذ انبلاج فجر الإسلام، وامتدَّت جذورها عبر الزمان والمكان؛ حتى أصبحت اليوم دَوْحة سامقة، سوف تزداد عطاءً وثباتًا إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها؛ ï´؟ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ï´¾ [الرعد: 17].
"فإذا دعونا إلى أدب إسلامي، عنينا به مذهبًا أدبيًّا له خصائصه الفكرية والفنية التي تعبِّر عن شخصيَّتنا الإسلامية وتُراثنا، وقاعدته الفكرية التي ينطلق منها هي الإسلام، وهو أرْقَى وأشمل في نظريَّته للكون والإنسان والحياة من كلِّ الفلسفات المثالية والعقلية والماديَّة التي قامتْ عليها المذاهب الأدبيَّة المختلفة، وهو لا ينبع من تعصُّب فكري، ولا يؤمن بالمفارَقة بين ما تدعو إليه العقيدة من التزامٍ ديني، وما يدعو إليه الفنُّ من انطلاق وتحرُّر؛ لتحقيق الجمال ومُتعة الذوق"[15].
"إنه ليس بعثًا لأدبٍ قديم ارتبَط بظروفه وعصره، ولكنَّه أدبٌ جديد فيه نبْضُ العصر ورُوحه وقضاياه، من خلال تصوُّر إسلامي يُعلي قيمة الإنسان، وحريَّة إرادته، ولا يَبتعد عن الواقع ولا عن القِيَم الجمالية...، إنه أدبٌ لا يعبِّر عن سقوط الإنسان وخَوائه الرُّوحي، وصَمْته وقلقه، وانقطاع صِلته بالخالق، وغُربته في الكون والمجتمع، أدب ليس مُنبتَّ الجذور عن قِيَمه وأُصوله، وعقيدته وشخصيَّته، بل يعبِّر أصدقَ تعبيرٍ وأجمله عن أُمَّته التي قال فيها - جل وعلا -: ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110].
[1] منهج الفن الإسلامي، ص 30.
[2] العمدة، ص 5، مطبعة هندية بالقاهرة، سنة 1344هـ.
[3] منهج الفن الإسلامي، ص 208.
[4] الأُسس الجمالية في النقد العربي؛ د. عز الدين إسماعيل، ص 181.
[5] منهج الفن الإسلامي، ص 132.
[6] طبقات ابن سلام، 1 / 215.
[7] منهج الفن الإسلامي، ص 20.
[8] البيان والتبيين، 3 / 273.
[9] العصر العباسي الأول، ص 452.
[10] المصدر السابق، ص 456.
[11] نظرات في الأدب، ص 34 "من منشورات رابطة الأدب الإسلامي".
[12] محاضرة بعنوان: "الحداثة والتُّراث"، ص 2، محاضرات مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض.
[13] مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي؛ د. عبدالباسط بدر، ص 9.
[14] الأدب الإسلامي ضرورة، ص 93.
[15] محاضرة التغريب وأثره في الشعر العربي الحديث؛ للدكتور/ محمد مصطفى هـدارة، ص 9، من محاضرات رابطة الأدب الإسلامي، مكتب القاهرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|