ومن الأدعية الواردة في هذا:
عن علي رضي الله عنه أن مكاتبًا جاءه، فقال: إني عجزت عن مكاتبتي فأعنِّي، فقال: ألا أعلمك كلمات علمنيهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل صِير[23] دينًا أداه الله عنك، قل: (اللهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ) [24].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ألا أُعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أُحد دينًا، لأداه الله عنك، قل يا معاذ: (اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة مَن سواك) [25].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحدًا قَطُّ همٌّ ولا حزن، فقال: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: (أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهنَّ) [26].
ومن الآداب أيضًا: أن يبدأ الورثة بقضاء دين الميت قبل توزيع الإرث، ولهذا نجد أن الله تعالى حينما ذكر قسمة المواريث في سورة النساء ذكر البداءة بقضاء دين المورِّث قبل تقسيم الميراث بين الوارثين، وقد ذكر ذلك في أربعة مواضع من الآيتين الواردتين في نصيب الورثة، فقال تعالى بعد ذكر نصيب الأولاد والوالدين: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11]، وقال بعد ذكر نصيب الزوج من زوجته: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، وقال تعالى بعد ذكر نصيب الزوجة من زوجها: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، وقال بعد ذكر نصيب الإخوة لأم: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إن المعروف بين الناس نعت صالح تحبه النفوس الأبيَّة، وتتسابق إليه الهمم العليَّة، ومجاله رحب لا تحيط به الأمثلة، بل كل خير يُبذل، وكل شر يُدفع هو الجامعة التي تحيط بذلك المصطلح الكريم، وإقراض الناس هو من أمثلة المعروف، فمن كان ذا قدرة على نفع أخيه بالدين فليفعل؛ فإن ذلك من الصدقة والبر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل قرض صدقة) [27]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يقرض مسلمًا قرضًا مرتين، إلا كان كصدقتها مرة) [28].
قال الشوكاني رحمه الله: "وفي فضيلة القرض أحاديث وعمومات الأدلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة، وقضاء حاجة المسلم، وتفريج كربته، وسد فاقته شاملة له" [29].
والزمان لا يبقى على حال؛ فرُبَّ وقت يمر بالناس يصير فيه الدائن مدينًا، والمدين دائنًا، فالزمان متقلب، فعلى الإنسان أن يحسن في الحاضر حتى يُحسَن إليه في المستقبل، ولا عيب على الإنسان الوفي الأمين أن يذهب إلى أخيه المسلم، فيطلب منه أن يسلفه مالًا، قال بعض أهل العلم: "ولا نقص على طالبه، ولو كان فيه شيء من ذلك، لما استسلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم" [30].
أيها الأحباب الفضلاء، من الآداب المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها الدائن:
أولًا: توثيق الدين؛ فإن ذلك أحفظ للحقوق، وأبعد عن التنازع والخلاف، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في آية الدَّين والتي بعدها، ويكون ذلك التوثيق بالكتابة والإشهاد، أو بالرهن، وهذا ليس واجبًا لكنه أولى وأفضل، وليس على الدائن لوم لو طلبه؛ فالآجال بيد الله تعالى، فربما مات الدائن أو المدين فنُسي الدين أو جحد أو زِيدَ فيه، وأمانة الناس قد تضعف مع تغير الأزمنة والأحوال، فكان التوثيق طوق نجاة من تلك المكاره.
ثانيًا: على الدائن أن يعلم أن إقراضه عمل خير، وبرٌّ خالص؛ فلا يجوز أن يطلب من وراء دينه مصلحة مالية كالزيادة عند القضاء، أو منفعة دنيوية ينالها من المدين جزاء تسليفه؛ فإن ذلك من الربا الذي نهت عنه الشريعة الإسلامية.
ثالثًا: على الدائن ألا يلحَّ ولا يكثر المطالبة بالدين قبل حلول أجلِه، بل عليه أن يُنظِر المدين المعسر ولو حلَّ أجلُ دَينه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]، يعني: "وإن كان المدين غير قادر على السداد، فأمهلوه إلى أن ييسِّر الله له رزقًا، فيدفع إليكم مالكم" [31].
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل إنظار المعسرين ما يحث ذوي الإيمان من الدائنين على تأخير المدينين إلى أن يستطيعوا القضاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يُنجيه الله من كرب يوم القيامة، وأن يظله تحت عرشه، فليُنظر معسرًا) [32].
وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنظر معسرًا فله كل يوم مثله صدقة)، ثم سمعته يقول: (من أنظر معسرًا فله كل يوم مثليه صدقة)، فقلت: يا رسول الله، سمعتك تقول: (من أنظر معسرًا فله كل يوم مثله صدقة)، ثم سمعتك تقول: (من أنظر معسرًا فله كل يوم مثليه صدقة)، قال: (له كل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة) [33].
وأما إذا سامَحه من دينه، وتصدق به عليه، فهذا أفضل وأكمل؛ ولهذا قال تعالى في الآية السابقة: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]، "أي: إن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة؛ لأن فيه تفريجَ الكرب، وإغاثة الملهوف"[34].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان تاجرٌ يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) [35].
وعن عبدالله بن أبي قتادة أن أبا قتادة طلب غريمًا له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه) [36].
وقال عليه الصلاة والسلام: (من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ) [37].
والتيسير على المعسر يكون بإبراء أو هبة أو صدقة أو نظرة إلى ميسرة، وإعانة بنحو شفاعة"[38].
فيا عباد الله، على الإنسان أن يبتعد عن الدين ما استطاع، فلا يلجأ إلى الدين إلا في الأمور التي لا بد منها، فإن استدان فعليه الحرص الشديد على قضاء الدين في الوقت المتفق عليه.
وعلى المدين ألا يسرف في شراء الأشياء الكمالية والترفيهية التي قد تُعجزه عن قضاء دينه، بل إن كان لديه مال يكفيه للحج وعليه دين حالٌّ، فعليه أن يبدأ بقضاء دينه قبل حج بيت الله الحرام، إلا أن يأذن له الدائن، فإذا كان هذا في ركن من أركان الإسلام، فكيف بأمور دنيوية غير ضرورية؟! وكذلك إن كان عليه مال للزكاة، فليبدأ بقضاء الدين.
ومن الأشياء التي قد يتساهل فيها بعض الأزواج تأخير ما تبقى من مهر الزوجة مع قدرة الزوج على قضائه، فبعضهم قد يماطل في دفعه، وبعضهم قد يجحده ظلمًا وعَدوًا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تزوَّج امرأة على صداق وهو ينوي ألا يؤدِّيه إليها فهو زانٍ، ومن ادَّان دينًا وهو ينوي ألا يؤديه إلى صاحبه، أحسبه قال: فهو سارق) [39].
وعلى المرء الموسر ألا يمتنع من إقراض الوفي من الناس، وأن تكون عنده مروءة وحرص على الخير، فيدفعه ذلك إلى إنظار المدينين والتجاوز عن المعسرين، ومتى أحاله المدين على قادرٍ على الوفاء، فليقبل الحوالة.
ومن الأمور التي قد يَجهلها بعض الدائنين أن يجد من أقرضه معسرًا، فيقتطع دينه من مال زكاته، وهذا غير صحيح؛ لأن الزكاة يشترط فيها نية سابقة، وذلك المال إنما خرج على سبيل القرض، فمن أسقط دين مدين على أنه من الزكاة، فليخرج زكاته مرة أخرى.
وعلينا - معشر المسلمين - أن نعلم أن من وجهات البر التي ينبغي المسابقة إليها: قضاء ديون المدينين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا) [40].
وعلى من كانت عليه زكاة أن يعلم أن الغارمين - وهم الذين استدانوا مالًا في أمور مباحة، ولم يستطيعوا قضاءه - هم صِنف من أصناف الزكاة، فمن قضى دين مدين من زكاته صحَّ ذلك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البشر...
[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني، في 18/ 10/ 1440ه،21/ 10/ 2019م.
[2] استفيد بعض معاني الآيتين من: التفسير الميسر (295-296).
[3] متفق عليه.
[4] رواه أحمد والبيهقي والحاكم، وهو حسن.
[5] رواه مسلم.
[6] رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح.
[7] صحيح البخاري (2/ 841)
[8] قاله ابن المنير، فتح الباري (5/ 55).
[9] التحرير والتنوير (3/ 122).
[10] رواه الترمذي والنسائي، وهو صحيح.
[11] رواه البخاري.
[12] رواه الحاكم، وهو صحيح.
[13] السويق: طعام يُتخذ مِن مدقوق الحنطة والشعير، سُمي بذلك لانسياقه في الحلق، والقَتُّ: الفِصْفِصَة وهي الرَّطْبة من عَلَف الدَّواب.
[14] رواه البخاري.
[15] فيض القدير (6/ 41).
[16] رواه أحمد، وهو حسن.
[17] متفق عليه.
[18] رواه ابن ماجه، وهو صحيح.
[19] متفق عليه.
[20] رواه البخاري.
[21] قال ابن التين: معناه: أنهم إما صحابي متأول فهو مظلوم، وإما غير صحابي قاتل لأجل الدنيا فهو ظالم؛ فتح الباري (6/ 229).
[22] رواه البخاري.
[23] صِير: هو جبل بأجأ في ديار طيئ.
[24] رواه الترمذي وأحمد، وهو حسن.
[25] رواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد.
[26] رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح.
[27] رواه الطبراني والبيهقي، وهو حسن.
[28] رواه ابن ماجه وابن حبان، وهو صحيح.
[29] نيل الأوطار (5/ 284).
[30] نيل الأوطار (5/ 284).
[31] التفسير الميسر (1/ 293).
[32] رواه الطبراني بإسناد صحيح.
[33]رواه الحاكم، وهو صحيح.
[34] التحرير والتنوير (2/ 562).
[35] متفق عليه.
[36] متفق عليه.
[37] رواه مسلم.
[38] فيض القدير (6/ 243).
[39] رواه البزار، وهو صحيح.
[40] رواه الأصبهاني وابن أبي الدنيا، وهو حسن.