امتنان الله على رسوله بأن أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، ولم يقل: وأنزلنا، وإنما قال: وَأَنزَلَ اللَّهُ [النساء:113] جل جلاله وعظم سلطانه، عَلَيْكَ [النساء:113] يا رسولنا، الْكِتَابَ [النساء:113]، أي: القرآن الكريم، فهل هناك من يدعي أنه أنزل عليه؟وهذه أعظم آية في كتاب الله تقرر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد تحدى الله عز وجل العرب وهم أولوا البلاغة والفصاحة والبيان على أن يأتوا بسورة كسور القرآن الكريم، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]، إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وهنا لطيفة قرآنية وهي قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، إذ لا يقول هذا إلا الله؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يختم على قلوبهم وألسنتهم، ولا يقدر أحد أن يحاكي أو يماثل الله في ذلك.ثانياً: أن هذه الأنوار القرآنية من أين لغير الرسول أن يأتي بمثلها؟ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، أي: في شك، مِمَّا نَزَّلْنَا [البقرة:23] على عبدنا من هذا القرآن، إذاً: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] من مثل محمد في أميته، فقد قضى أربعين سنة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بهذه العلوم والمعارف التي يحار لها العقل، ويأتي بالقصص وتاريخ البشرية، ولن يستطيع أحد أن يرد كلمة أبداً أو يقول: هذا ما وقع.ثم يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي [البقرة:24]، أي: أسلموا وادخلوا في رحمة الله، لكن قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، و(لن) الزمخشرية تنفي المستقبل، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، واليوم مضت ألف وأربعمائة سنة ما جاءوا بسورة من مثله، بل نقول: اليابان الصناعية اليوم قد تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من آلات الحديد، كسيارة أو غيرها وتقول: نتحدى البشرية لمدة سبعين سنة أن ينتجوا مثل هذه؟ لا يمكن، كذلك أمريكا أو روسيا أو أي دولة صناعية تقول: نتحدى البشرية أن يوجدوا مثل هذا الاختراع لفترة خمسين أو سبعين سنة، لا يمكن ذلك أبداً، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل فعلوا؟ لا والله، كم سنة الآن؟ ألف وأربعمائة وخمسة عشر سنة ولم يفعلوا ذلك، آمنا بالله وحده. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، والحكمة هي معرفة أسرار هذا الكتاب، والحكمة ذلك النور الذي يغشى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الحكمة ويظهرها ويوصي بها ويشرعها للعباد، ولهذا فالحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113]، هل كان الرسول يعلم شيئاً؟ اقرءوا قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:6-7]، ما كان عليه الصلاة والسلام يعلم شيئاً، وإنما مجرد شاب من شبان قريش من بني هاشم حتى بلغ أربعين سنة، ففاجأه الحق في غار حراء في رمضان، وبدأ الوحي ينزل عليه واستمر ثلاثاً وعشرين سنة حتى اكتمل هذا القانون السماوي، وحتى اكتمل هذا القرآن الكريم.
فضل الله العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم
قال: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، إي والله، فقد كان فضل الله على رسوله عظيم، فيا من هم مخدوعون بالدنيا! إن الرسول الذي يقول له ربه: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] ما شبع من خبز شعير مرتين في يوم واحد، فلا تفهموا أن المال والغنى هو رضا الله عز وجل، أو مظاهر إكرام الله للعبد، والله ما هو إلا ابتلاء وامتحان، إما أن تنجح وإما أن تتمزق وتخسر أبداً، فلا التفات إلى أوساخ هذه الدنيا أبداً، فهذه أم المؤمنين تقول: كانت إحدانا -أي: نساء النبي- تتحيض في الثوب الواحد الحيضتين.إذاً: ما فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ حسبه أن يرفعه الله إليه، وأن يجلسه بين يديه، وأن يكلمه شفوياً كفاحاً ومواجهة بلا واسطة، فأي رائد برز في الكون غير محمد صلى الله عليه وسلم ليخترق السبع الطباق مسيرة خمسة آلاف وخمسمائة سنة، وانتهى إلى سدرة المنتهى وإلى ما فوقها، حتى إن جبريل يقف فيقال له: ( تقدم يا جبريل فيقول: ما منا إلا له مقام معلوم )؟!وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرس من المؤمنين، إذ إنهم كانوا خائفين عليه من اليهود والمنافقين والمشركين في العام الأول والثاني من قدومه المدينة، فلما نزل قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال لأولئك الحرس: ( أيه الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله )، فلو اجتمعت الدنيا كلها على أن يقتلوا رسول الله ما قدروا على قتله، مع أنهم كانوا يتربصون به ليقتلوه، فالمنافقون واليهود متعاونون على قتله لكن الله فضحهم. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، فأي فضل أعظم من أن تصبح رسول الله، فتتكلم مع الله ويلقي بالمعارف والعلوم إلى قلبك وينزل عليك كتابه، ثم ماذا؟ اسمعوا! أول من يدخل الجنة دار السلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فهم أول أمة دخولاً الجنة مع أنهم آخر أمة في الوجود.
المقام المحمود الذي يعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما أعطى الله رسوله أعظم عطاء، فقد أعطاه الشفاعة العظمى، أتعرفون الشفاعة العظمى؟ إليكم صورتها: لما تقف البشرية كلها على صعيد واحد، على أرض بيضاء كخبز النقي، لا جبل ولا تل ولا انخفاض ولا ارتفاع، وذلك في يوم طوله خمسون ألف سنة، فإذا كان من عهد عيسى إلى اليوم ألفين سنة ما كملت بعد، فأين ثمانية وأربعون ألف سنة أخرى؟ واقرءوا: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:4-5].وهم واقفون ينتظرون القضاء فيهم وعليهم، ومن مظاهر هذا: وإذا بنفخة من إسرافيل فيصعق كل أحد إلا من شاء الله، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أول من يفيق )، أي: أول من يفيق من تلك الصعقة، ( وإذا بأخي موسى آخذ بإحدى قوائم العرش، لا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور فلم يصعق؟ )، وصعقة الطور لما كان في جبل الطور، وذلك لما كلمه ربه كفاحاً بلا واسطة، فلما غمره ذلك الحب وذلك الكمال، هشت نفسه وطلب من ربه أن يريه وجهه، واقرءوا قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، الذي أمامك، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فتجلى الرحمن، أي: ظهر للجبل فاندك الجبل، وما إن رأى موسى الجبل العظيم بصخوره قد تحلل صعق وأُغمي عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعل موسى جزاه الله بتلك الصعقة ) ، أي: ما أعطاه الله صعقة ثانية. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ [الزمر:67-69]، جاء الرب، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69].وبينما هم واقفون وقد طال الزمان والمدة، والحر شديد والهول عظيم، والله من الناس من يلجمه العرق، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى سرته بحسب ذنوبهم وصالح أعمالهم، فيأتون آدم عليه السلام، وقد أخبر بهذا الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وصحيح الأحاديث، وليس معنى هذا أن كل البشرية بالمليارات تأتي آدم، وإنما طوائف منهم تأتي آدم عليه السلام، فيقولون له: يا آدم! لقد خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربنا ليقضي بيننا، فقد طالت مدة الوقوف، فيعتذر آدم ويقول: كيف أكلم ربي وقد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وقد عصيته، فيذكر آدم معصيته، ونحن كم عندنا معصية؟! ألف معصية؟!وأبشركم -ولا تقولوا: الشيخ بهلول- بأني منذ ثلاث ليال رأيت آدم في المنام كأحسن ما يكون، وأنا معه جالس وأتكلم معه، والله سنراه إن شاء الله، ولعلنا نكون ممن يأتون إليه إن شاء الله.فيعتذر آدم لزلة قدمه مرة واحدة عندما نهاه الله وامرأته عن أكل الشجرة، فزين لهما الشيطان وغرر بهما فأكلا منها، فقال: كيف أواجه ربي وأنا قد عصيته؟ فكم زلة قد ارتكبناها؟!ثم قال لهم: أنصح لكم أن تذهبوا إلى نوح أبو البشرية الثاني بعد آدم، كيف لقب بأبي البشرية الثاني؟ لأنه في عام الطوفان ما نجا إلا سفينة نوح وفيها نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، وكل البشرية جاءت من أولاده، فصار مثل آدم أو قريب منه.فأتوا نوحاً عليه السلام فقالوا له: يا نوح! أنت، وأنت، وأنت، اشفع لنا عند الله ليقضي بيننا، فيعتذر ويقول: أما قال آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله؟ ولكن أنصح لكم أن تذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، ويذكر زلته وخطيئته، فيا ترى ماذا فعل؟ هل قتل نفساً؟ هل زنى بامرأة مؤمن؟ هل شرب الخمر والكوكايين؟ ماذا فعل نوح؟ ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يتلقى الضرب حتى يغمى عليه، ما هي خطيئته التي استحى أن يكلم الله؟ هو أنه قال بعد مرور القرون الكثيرة والقوم في زيادة كفر وعناد: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، من لهم؟ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، وما من حقه أن يقول هذا، فاعتبرها خطيئة واستحى من الله أن يكلمه. ثم قال لهم: أنصح لكم أن تأتوا إبراهيم خليل الرحمن، وأول من هاجر في سبيل الله، وابتلي بما لم يبتلى به غيره، ومن مظاهر ابتلائه: أن الله أمره أن يذبح ولده له، فأنت تحبني يا إبراهيم، إذاً اذبح لي إسماعيل، واقرءوا قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، أي: أوامر، فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وقد نال الإمامة بالامتحان، ومن الامتحان أنه وقف في وجه المشركين وعلى رأسهم والده كذا من السنين، حتى حكموا عليه بالإعدام وبالإحراق بالنار، ووالله لقد ألقوه بالمنجنيق في ذلك الأتون الملتهب، ولكن الله استدركه وهو في الطريق إلى النار؛ لأن النار أججوها أربعين يوماً، حتى النساء ينذرن النذور لآلهتهن من أجل إبراهيم، فتأتي إحداهن بحزمة الحطب، فلما أرادوا أن يلقوه جعلوه في مثل المنجنيق أو المعلاق ورموه، وفي الطريق عرض له جبريل فقال له: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم، فقال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوقع فيها فاحترق القيد الذي برجليه ويديه، وخرج وودعهم وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، فكان أول مهاجر في الأرض.فأتى إليه القوم فقالوا له: يا إبراهيم! أرأيت ما بنا من كرب وغم، اشفع لنا عند الله حتى يقضي بيننا، فقال كما قال من قبله: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، فكيف أكلمه؟ وذكر ذنبه عليه السلام، هل قتل؟ هل زنى؟ هل أكل الربا؟ هل عق والديه؟ هل شرب الخمر؟ هل قذف المؤمنين والمؤمنات؟ لا أبداً، كل ما فيه أنه ذكر ثلاث كذبات، وكذبات إبراهيم أحسن من صدقنا نحن؛ لأنه كذب لله لا لنفسه، فالكذبة الأولى: لما أراد أن يبيت القوم ويدمر أصنامهم مروا به فقالوا له: هيا يا إبراهيم! اليوم عيد فلنخرج إلى الفضاء، فلنأكل اللحوم والخضر وغيرها، فنظر إلى السماء فقال: إني سقيم، قال تعالى مصوراً ذلك: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، أي: مريض، وهذه هي الكذبة الأولى، فهو عليه السلام نظر في النجوم لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، فظنوا أنه نظر إلى آلهتهم، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، فتركوه، ولما خلت البلاد من أهلها جاء بفأس أو معول فحطم الآلهة في بهوها، إذ للآلهة بهو عظم، فقد كانوا يضعون الحلويات والأكل الناعم بين يديها، فحطمها وجعل الفأس في أحد الآلهة الكبار وربطه به وعاد، ولما دخلوا في المساء يجرون إلى الآلهة ليأخذوا الحلويات من عندها؛ لأنهم كانوا يضعونها من الليل لتباركها كما يفعل جماعتنا اليوم، فوجدوا الآلهة متناثرة، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، فقال واحد منهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، أي: سمعنا فتى يسمى إبراهيم يذكر هذه الآلهة بغير رضا، فهو ساخط عليها، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، فجيء بإبراهيم، فقيل له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، فأشار إلى يده، فظنوا أنه أشار إلى الصنم، وهذه هي الكذبة الثانية، لكنها أحلى من صدقنا اليوم، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:63-64]، أي: ماداموا يحطمون ولا يعترفون من حطم، ولا ينطقون، فكيف تعبدونهم؟ أي مسخ أصاب هذه العقول؟ وأما الكذبة الثالثة: أنه مشى سائحاً في الأرض مع زوجته سارة، فدخل الديار المصرية من جهة سينا، وكانت سارة جميلة وحسناء، فلما رآها القوادون بلغة أهل المغرب، أتعرفون القوادون؟ عندنا في المملكة نسميهم الجرارون، أي: الذين يجرون ويسحبون، فقالوا لسلطان مصر: إن امرأة حسناء لا نظير لها، لا تصلح إلا لك، فهل فهمتم معنى القواد؟ القواد هو الذي يقود إلى الباطل، والجرار أبشع منه.فقال ملك مصر: ائتوني بها، فعرف إبراهيم، فقال: يا سارة إنه لا يوجد على الأرض من مؤمن إلا أنا وأنتِ، فإذا سألك عني فلا تقولي: زوجي فيغضب ويقتلني، وإنما قولي: أخي، وهو كذلك في الإيمان والإسلام، وهذا ذكاء منه عليه الصلاة والسلام، ولو قالت: زوجي لقتلوه؛ لأنه كيف يتزوج بها الملك وزوجها موجود؟ ثم جيء بها إليه، وحسنوا لباسها وزينتها وأنزلوها إلى السلطان أو الملك أو ذاك الطاغية، فكان كلما أراد أن يمسها بيده يصاب بالشلل الفوري والله العظيم ثلاث مرات، يتكلم معها ويضاحكها ويداعبها، يريد أن يمسها أو أن يمد يده إليها، قبل أن يمسها يصاب بالشلل على الفور، وفي الرابعة قال: أخرجوا عني هذا الشيطان، ومع هذا أحسن إليها وأمتعها بالمال وباللباس وببغلة كما فعل المقوقس مع رسولنا الكريم، فقد أعطاه بغلة تسمى: الدلدل، وأعطاه مارية القبطية، فهذه هي الكذبة الثالثة، وهي في الحقيقة ليست بكذبة، إذ إنه أخوها في الإسلام والإيمان.ثم قال لهم عليه السلام: أنصح لكم أن تذهبوا إلى موسى بن عمران نبي بني إسرائيل ورسولهم، فأتوا موسى فقالوا: يا موسى! ترى ما حل بالبشرية، توسلنا بك إلى الله فادع الله أن يقضي بيننا، فموسى يذكر ذنباً عظيماً فقال: كيف أكلم ربي وأنا الذي قد قتلت نفساً؟! هل قتل عمداً؟ لا والله، وإنما خطأ، وذلك لما تضارب القبطي مع إسرائيلي، وصاح الإسرائيلي يبكي، فوكز موسى القبطي فجاءت في القلب فمات، وهذا كان بقضاء الله وقدره، ثم قال: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] وغفر الله له، ومع هذا ما استطاع أن يكلم الله مع هذا الذنب الوحيد. ثم قال لهم: ولكن عليكم بعيسى، فأتوا عيسى بن مريم فلم يذكر ذنباً قط، فقد قضى ثلاثاً وثلاثين سنة في الفترة الأولى، وسيقضي مثلها في الفترة الثانية عما قريب وستسمعون، ومع هذا قال لهم: عليكم بمحمد، وهذه هي الشفاعة العظمى، فما إن وصل الوفد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا لها، أنا لها )، فقد كان عنده صك قديم في الدنيا بها، أما قال تعالى في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فهذا هو المقام المحمود الذي حمده عليه أهل الموقف بكافتهم، ثم قال عليه السلام: ( فآتي العرش فأخر ساجداً تحت العرش، فيلهمني ربي محامد -ألفاظ حمد وثناء- ما كنت أعلمها، فلا أزال أحمد الله وأثني عليه بها حتى يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واسل تعطى، واشفع تشفع )، فصلوا عليه وسلموا تسلماً.فهذا هو المقام المحمود، وهذه هي الشفاعة العظمى، فهل ذكر رسول الله ذنباً؟ لا أبداً، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. اللهم صل عليه وسلم تسليماً، اللهم اجمعنا معه في دار الكرامة يا رب العالمين.