تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله...)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].إذاً: خلقنا للذكر فقط، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، سواء كنا في الصلاة أو في الجهاد، فإذا اطمأننا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ يدخل فيه كل مؤمن ومؤمنة، فإذا فرغ من الصلاة فيذكر الله عز وجل وإن كان يمشي، وإن كان يقود سيارته، بل يقود طيارته وهو يذكر الله، إذ إن ذكر الله غذاء روحي يزيد في طاقة إيمانك، ويزيد في طاقة صبرك، ويزيد في طاقة كمالك، ويدخل فيه الدعاء وأنواع الذكر؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ أيضاً يدل على أنه إذا اشتدت المعركة نصلي على أي حال، فلك أن تصلي وأنت جالس والرشاش في يدك؛ لأنك إن قمت ضربك الآخر برصاصة، بل ممكن أن تنام على جنبك حتى تتقي الرصاصة، وثم أنت تذكر الله وتصلي. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، وزال الخوف والإعياء والمرض، فإذا اطمأننتم ماذا تصنعون؟ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: أقيموها كما تقام في حال الأمن والصحة والعافية، وأتموها على الوجه الذي نزل به جبريل وعلم رسول الله كيف يصلي، فيقوم ويقرأ ويطمئن في الركوع وفي السجود وفي الجلوس. فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، يعني: زال الخوف وسكنتم فأقيموا الصلاة، وإن قلت: لم يا الله؟ والجواب: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: كتاب مؤقت، صلاة مؤقتة، فلا تستطيع أن تصلي أي صلاة في غير وقتها، إذ إن الصلاة مؤقتة بأوقاتها المحددة من قبل ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فلا تصح صلاة قبل وقتها أبداً إلا ما أذن فيه عز وجل، وذلك كالجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقد نزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح عند الكعبة في أول وقتها، ثم جاء الظهر فصلى بالرسول عند الكعبة في أول وقتها، وجاء كذلك في العصر وفي المغرب وفي العشاء، ثم جاء اليوم الثاني فصلى به جميع الصلوات في آخر الوقت، ثم قال له: ما بين هذين وقت، أي: ما بين صلاتنا أمس وصلاتنا اليوم وقت، فمثلاً: يؤذن للظهر على الساعة الثانية عشرة وربع، وهو في اليوم الثاني جاءه في الثالثة فصلى به، والعصر في الثالثة والربع، فهذه الربع الساعة ما بين هذين وقت، وهكذا صلى العصر عند الساعة الثالثة والربع، وفي اليوم الثاني الخامسة والربع صلى العصر، وقال: ما بين هذين وقتين، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم...)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].ثم قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: يا أولياء الله! يا جيش الرحمن! لا تهنوا ولا تضعفوا، والوهن هو الضعف والانهزام والخور. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: في طلب العدو وأنتم تجاهدون. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لجراحات أو تعب أو مرض أصابكم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: هم، فإذا تألمنا نحن للتعب وللجوع وللمرض وللحرب الدائرة من ساعات طويلة، فالعدو هو أولى بهذا الألم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، وشيء آخر: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فرق ما بينكم وبينهم، فأنتم ترجون المغفرة والعزة والنصر وهم آيسون من هذا لا يرجونه؛ لأنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا بلقائه. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فاقبلوا إرشاداته وتوجيهاته بل وأوامره؛ لأنه عليم بما يقنن ويشرِّع، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلو جاء من يقول: لا داعي لصلاة الخوف! والله ما نقبل كلامه؛ لأن المشرع ما كان جاهلاً فأخطأ، ولا كان أحمقاً ما يدري الأول من الآخر فوضع أشياء وهي خطأ، إنه عليم بخفايا الأمور وظواهرها، عليم بما بين أيدينا وما خلفنا، عليم بما في صدورنا، حكيم في كل شرعه وعمله، فلا يضع الشيء إلا في موضعه، والحكمة ما عرفناها إلا منه، إذ هو واهبها ومعطيها.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هيا نتلو عليكم الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وقد زال الخوف وبقيت هذه الرخصة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله عمر: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فبقيت هذه السنة إلى يوم القيامة.ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] أي: للصلاة، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون من ورائكم يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، أي: بعد صلاة الركعتين، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، أيها القائد صلى الله عليه وسلم، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] فهذه هي صلاة الخوف. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فماذا يتركون لهم لو مالوا عليهم ميلة واحدة؟ يأكلونهم، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وقد تقدم أنه يصلي والسلاح، لكن إذا كانت حالة مطر شديد أو كان الرجل مريضاً ما يقوى على حمل السلاح والصلاة به، فقد أذن له الشرع بأن يضع سلاحه بين يديه، وهذه رخصة من الله تعالى، ولكن وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، لم؟ قال: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، ومعنى هذا: أنكم منتصرون أعزاء، وأما عدوكم فقد هيأ الله له الذل والهون والدون؛ لأنهم كفروا به، إذ إنه يطعمهم ويسقيهم وهم يجهلونه ولا يسألون عنه، ولا يحمدونه ولا يشكرونه.ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، ماذا نصنع؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذه عامة إلى يوم القيامة، إذ لا يوجد مؤمن منا يقول عند الانتهاء من صلاته: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم يخرج ولا يذكر الله أبداً! أعوذ بالله، ولذلك إن كان هناك وقت متسع فيجلس على الأقل فيقول: استغفر الله ثلاث مرات، ثم يقول: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )، ثم يقول: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ثلاث مرات، ثم يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين، ثم يختم المائة فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم يقرأ آية الكرسي، والمواظبة عليها ضمان له بالجنة بإذن الله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو الله ويسأله حاجاته، وإن كان مضطراً أن يخرج فليس هناك ما يمنعه أن يسبح الله وهو يمشي أو وهو على دابته، فهل فهم الصالحون هذا أو لا؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، حتى الصلاة أيضاً تتضمن هذه الآية، فإذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم فيصلي وهو قاعد، أو ما استطاع أن يصلي وهو قاعد فيصلي على جنب، أو ما استطاع أن يصلي على جنبه فيصلي وهو مستلقٍ ويومئ برأسه أو بعينيه.وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ [النساء:103]، وما زالت عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:103]، أي: المؤمنين الصادقين، كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: محدد الوقت، فالكتب تأكيد والوقت معين.ثم قال عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو أيها المجاهدون، ونخشى أن يسمع التائهون والضائعون فيقولون: الشيخ يقول: المجاهدون، نعم، المجاهدون الذين قادهم إمام بايعته الأمة فقادهم إلى دار الكفر ليدعو أهلها إلى الدخول في الإسلام، أو ليفتحوا المجال لتعليم تلك الأمة وإنقاذها من الكفر والخبث والشر والفساد، فإن أبوا إلا القتال فالقتال، وذلكم هو الجهاد، أما عصابات تتعنتر وتخرج عن الإمام وتلتحق بالجبال وتختبئ ويقولون: هذا جهاد! فبئس الجهاد، ووالله ما هو بالجهاد، إنما هي الفتنة العمياء والضلال المبين، وممكن واحد من الجالسين يقوم يتعنتر ويبين لنا، دلونا ماذا أنتجت تلك الطفرات؟ هل أوجدت دولة إسلامية؟! من إندونيسيا إلى بريطانيا ثلاثة وأربعين دولة ما استطاعت دولة واحدة أن تقيم الصلاة فقط أبداً، أو أن تجبوا الزكاة، أو أن تشكل فيها لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك لأن الأمة هابطة جاهلة لاصقة بالأرض. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي قوم؟ الكفرة المشركون الذين يحاربونكم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فهم أيضاً يألمون، إذ إنهم بشر مثلكم، وبالتالي ما داموا يألمون وأنتم تألمون فأنتم أولى بالثبات والوقوف في وجوههم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وهذا هو الفضل العظيم، فنحن نرجو إذا متنا أن نموت شهداء نبيت في دار السلام، وهم يبيتون في جهنم، وإذا انتصرنا نشرنا العدل والخير والطهر والصفا، وهم إذا انتصروا نشروا الخلاعة والدعارة والكفر والشر والفساد.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.