ملخص لما جاء في تفسير الآيات
اسمعوا إلى تفسير هاتين الآيتين مرة أخرى وتأملوا، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: في حال الخطأ، إذ إن هذا ممكن وجائز. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً [النساء:92]، فماذا عليه؟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولا يصح تحرير رقبة كافرة، بل لو أعتق ألف رقبة كافرة فلا ينفع؛ لأن الله نص على الإيمان في الرقبة، والسر في ذلك أن الرقبة المؤمنة إذا أعتقها عبدت الله تعالى، فتحررت من رق العبودية لغير الله، وأصبح وقتها كافياً لأن تعبد الله عز وجل، وأما الرقبة الكافرة لما تعتقها فإنها تزيد في الكفر والمعاصي، فأنت تحرر الرقبة المؤمنة لتتمكن من عبادة الله عز وجل، كما أن الرقبة فيها إحياء روح، إذ إن القاتل قد أمات روحاً، وبعتقه هذه الرقبة المؤمنة فقد أحيا روحاً، وهيئ الفرصة لهذه الروح حتى تعبد الله عز وجل.ثم قال: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، والدية بيانها كالآتي: إما أن تكون مائة بعير، أو ألف دينار ذهباً، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، وهذه هي الدية المطلقة، والعاقلة هي التي تقوم بها لا القاتل وحده، وهذا في حال القتل الخطأ، كأن رمى غزالاً فأصاب إنساناً، فيشاركه أقرباؤه في الدية، والآن ممكن يقومونها بالريالات، وأما القتل شبه العمد كأن يضرب إنساناً بعصا، أو يأخذ حجراً فيضربه بها، فالغالب أن الإنسان لا يموت من الضرب بالعصا أو بالحجر، لكن هذه الحال تستدعي أنه أراد قتله، وهنا تغلظ دية شبه العمد. قال: ومن الغنم ألف شاة، ثم قال: وهل الإبل تخمس أو لا؟ قال: في هذا خلاف، ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس، ووجه تخميسها: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكوراً، ففي الحكم الأول مائة من الإبل ولو كانت ابن لبون أو من نوع واحد؛ لأن فيها تخفيفاً، لكن ما دام القتل شبه عمد فيجعلونه بهذه الطريقة: عشرون حقة، والحقة هي الناقة الكبيرة التي تلد، وعشرون جذعة دونها في السن، وعشرون بنات مخاض لها سنة فقط أو سنتين، وعشرون ابن لبون، وهذا عند الشافعي ومالك رحمهما الله.قال: ويغلظ دية شبه العمد، بأن يكون أربعون منها في بطونها أولادها، أي: كلها حبالى حاملات، وشبه العمد ما كان بأداة لا تقتل عادة كالعصا ونحوها؛ لحديث: ( إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ).إذاً: فالتخميس عام، وهو ما ذهب إليه الشافعي ومالك ، أي: عشرون من كذا، وعشرون من كذا، وذلك مطلقاً في غير شبه العمد، أما مع شبه العمد وهو القتل بالعصا ونحوها، فهذا الذي تغلظ فيه الدية، وذلك أربعون منها في بطونها أولادها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
نعود إلى دراسة الآيات في الشرح الذي بين أيدينا.
معنى الآيات
يقول المؤلف: [ لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز، ناسب-إذاً-ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً وبيان حكم ذلك، فذكر تعالى في الآية الأولى أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ، أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن؛ لأن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه، فلذا لا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ، فهذا وارد وواقع ] أي: في حال الخطأ.قال: [ وحكم من قتل خطأ: أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة، وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها-بالمرة-والدية مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92]، فإن كان القتيل مؤمناً ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين، فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ] أي: لا دية حتى لا يستعين بها العدو علينا.قال : [ إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين، وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر-لا فرق بينهما-ولكن بيننا وبين قومه معاهدة، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله، فمن لم يجد الرقبة ] أي: ما قدر على شرائها أو ليست بموجودة.قال: [ صام شهرين متتابعين، فذلك توبته لقول الله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]، عليماً بما يحقق المصلحة لعباده، حكيماً في تشريعه-وتقنينه-فلا يشرع إلا ما كان نافعاً غير ضار، ومحققاً للخير في الحال والمآل ] وهذا شأن العليم الحكيم.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً ] أي: أن الكفارة بالعتق لا تغني عنه شيئاً.قال: [ لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم، إذ قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] ] ولهذا قد تعيش في مدينة أو في قرية مائة سنة فلا تجد مؤمناً قد قتل مؤمناً، بل أسر قديمة منذ القرون ما ثبت عنهم أن فرداً منهم قتل مؤمناً، وذلك لعظم هذه التبعة.قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ] أي: إن قتل عمداً فلا بد من الدية والقصاص أيضاً، والقتل الخطأ فيه الدية، فمن باب أولى القتل العمد، إذ فيه القصاص والدية، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45]، فالقبيلة أو العائلة تدفع الدية وهو يقتل إلا أن يعفوا أولياء القتيل فهذا شأنهم.قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم ] أي: إذا عفا أولياء الدم عن القصاص فلهم ذلك، وإن عفوا عن الدية فكذلك، وهنا أذكر السامعين بقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، يوم القيامة، ومعنى (وسطاً): خياراً عدولاً، وهذه الوسطية لها مثل شائع بين ألسنة العلماء، فاليهود بنو إسرائيل قبل نزول عيسى عليه السلام وقبل نزول الإنجيل؛ كان إذا قتل أحدهم إنساناً فلا دية ولا عفو، بل يجب أن يقتل، فشددوا فشدد الله عليهم، وذلك لغلظ أكبادهم وشدة عنادهم، فأدبهم الله تعالى، ثم جاء عيسى بن مريم عليه السلام في بني إسرائيل ونسخ الكثير من أحكام التوراة بالإنجيل، وفرض الله عليهم أن من قتل لا يقتل ولا يدفع دية، وعلى أهل الميت أن يعفوا عن الدية وعن القاتل، فانظر إلى هذا الإفراط والتفريط عند هؤلاء الناس، فالإفراط عند النصارى، إذ فرطوا فلا دية ولا قتل، والتفريط عند اليهود، ثم جاء المسلمون فخيرهم: إن شئتم خذوا الدية واعفوا، وإن شئتم اقتلوا، فهم مخيرون، فجئنا وسطاً لا إفراط ولا تفريط، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. فإذا قتل الرجل آخر فأهل الميت بالخيار، فإن شاءوا عفوا عن القاتل لله تعالى، وأعتقوه ليعبد الله وأجرهم على الله.، والدية إن شاءوا أخذوها وإلا فلا. قال: [ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]، عليماً بما يحقق المصلحة لعباده، حكيماً في تشريعه، فلا يشرع إلا ما كان نافعاً غير ضار ومحققاً للخير في الحال والمآل ] في الدنيا والآخرة.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً ] أبداً، فلا عتق ولا صيام. قال: [ لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم، إذ قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم، فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها، وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم، وأما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله فالله تعالى رب العبد خصمه، وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها ].أقول: أولياء المقتول بالخيار، إن شاءوا عفوا وإلا فلا، وحق الله تعالى ما هو؟ لنستمع إلى هذه الجملة:قال: [ إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم، فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها، وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم، أما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله فالله تعالى رب العبد-هو-خصمه، وقد توعد بأشد العقوبات وأفظعها والعياذ بالله تعالى وذلك حقه، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] ] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فتناً ستقع، وقال لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( يا عبد الله! كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )، فإذا اشتعلت نار الفتنة في قرية أو في مدينة أو في إقليم، أو في جماعات، فإن الرسول يختار لك أن تكون المقتول ولا تكون القاتل؛ لما علمنا مما توعد الله به، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فذهبت صلاته وجهاده وحجه وعبادته لعشرات السنين.
هداية الآيات
وهنا قال: [ من هداية الآيتين: أولاً: بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن ] واستنبطنا هذا من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، إذاً: بيان أن المؤمن الحق الصادق الإيمان لا يقع منه القتل العمد للمؤمن أبداً، أما قتل الكافر في الجهاد فواجب.قال: [ ثانياً: بيان جزاء القتل الخطأ ] ما هو؟ قال: [ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92].قال: [ ثالثاً: إذا كان القتيل مؤمناً وكان من قوم كافرين محاربين، فالجزاء ] ما هو؟ قال: [ تحرير رقبة ] مؤمنة فقط، ثم قال: [ ولا دية ]؛ لئلا نعينهم بالأموال، ولو نفقه هذه لتخلينا عن كل الكمالات التي نستوردها منهم، سواء في الأكل أو في الشرب أو في اللباس وغيرها، ولو كنا نشتريها من المسلمين فلا بأس، أما نشتريها من اليهود والنصارى والمشركين فنعطيهم أموالنا من أجل ألا شيء إلا للشهوات والأهواء فقد أعناهم، ولو أخذنا بهذه الآية والله ما فعلنا، وهذه الدية ما نعطيهم أبداً، وذلك حتى لا يتقووا بها علينا وهم أعداء لنا. إذاً: هذه الكماليات في الطعام أو في الشراب أو في اللباس أو في المركوب، هذه الزائدة عن الحاجة لا قيمة لها، وبالتالي لا نستوردها من أعدائنا، لكن لو كنا نستوردها من ديار المؤمنين فلا بأس، إذ إنها تقوي إخواننا، أما أن نشتريها من اليهود والنصارى فنعطيهم الأموال من أجل أن نترفه حتى نهبط ونلصق بالأرض فلا.قال: [ رابعاً: إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين مثياق، فالواجب الدية وتحرير رقبة ] فمثلاً إيطاليا أو اليونان بيننا وبينهم عهد وسلم وعدم اعتداء، ومات مؤمن هناك فلا بد من الدية وعتق رقبة، لكن لو كانت الحرب معلنة بيننا وبين اليهود مثلاً فلا دية، وهذا مثال، وإلا فاليهود ما بيننا وبينهم حرب، إذ عندنا معاهدات من الأمم المتحدة فيما إذا أعلنت الحرب.قال: [ رابعاً: إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين ميثاق، فالواجب الدية وتحرير رقبة ]. قال: [ خامساً: فمن لم يجد الرقبة ] ماذا يصنع؟ قال: [ صام شهرين متتابعين ] وهذا التتابع ضروري، فلو حاضت أو نفست فإنها تبني ولا تستأنف، وكذلك إذا مرض الرجل وقد صام عشرين يوماً، فإنه لما يشفى يبني، مثله مثل الطائف إذا طاف ثلاثة أشواط ثم رعف أو تعب، فذهب بعيداً ليستريح، فإنه يبني ولا يستأنف. قال: [ سادساً وأخيراً: القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين: القصاص أو الدية حسب رغبة أولياء الدم ] أي: أن أولياء الدم مخيرون، فإن شاءوا خذوا الدية، وإن شاءوا خذوا الرجل وقتلوه.قال: [ وإن عفوا فلهم ذلك-أيضاً-وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد الله إن شاء الله أنجزه، وإن شاء عفا عنه ] وله الحمد والمنة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.