عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-04-2021, 03:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (48)
الحلقة (271)

تفسير سورة النساء (53)


بين الله عز وجل في هذه الآيات حال المنافقين المنتكسين عن منهج الحق، ووجوب قتلهم حيثما ثقفوا، إلا أنه سبحانه استثنى منهم صنفين؛ الأول قوم يرتبطون بمعاهدات مع قوم بينكم وبينهم ميثاق أمان، فهؤلاء لا يقتلون من أجل أولئك، والثاني قوم لا يريدون قتال المؤمنين ولا قتال قومهم، بل هم يريدون الأمان لأنفسهم، فهؤلاء أيضاً لا يقاتلون، وهذا الحال ينطبق على من كان في خارج جزيرة العرب، أما داخلها فقد نسخ هذا الحكم بآيات سورة براءة، فلا يبقى دينان في جزيرة العرب.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا يا ولينا، إذ ليس لنا من ولي سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة، ومع هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا * فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:87-91].فأولاً: أذكركم أن الآية الأولى هي في تحقيق عقيدة الإيمان، بل في تحقيق أعظم أركانها وهو الإيمان بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، والإيمان بالبعث الآخر، أي: للجزاء على أعمالنا هذه في هذه الدنيا، ثم الجزاء إما دار السلام وإما دار البوار، فاللهم اجعلنا من أهل دار السلام.وأما الآيات الأربع بعد ذلك فهي في غزوة أحد، وتذكرون أن ابن أبي رجع بثلاثمائة من المنافقين وضعاف الإيمان من الطريق، ولا شك أن رجوع هذا الرئيس مع ثلاثمائة قد أوجد هزة عنيفة في قلوب المؤمنين، ولا عجب أن يختلفوا فيهم، فمنهم من يقول: يجب أن نقتلهم ونقاتلهم، ومنهم من يقول: لا؛ رجاء أن يتوبوا، واسمع السياق: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ، أي: طائفتين، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ، أي: نكسهم بما كسبوا، فبعد الإيمان عادوا إلى الكفر، وبعد الأمن عادوا إلى الخوف، وبعد الآداب والأخلاق عادوا إلى سوء الأخلاق والآداب، وهذا هو الارتكاس، فأركسهم لم؟ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، فحاشا لله عز وجل أن يركس شخصاً وهو ما فعل ما يستوجب الارتكاس، ولكن بما كسبوا من نفاقهم وكفرهم ومكرهم واحتيالهم وبغضهم لرسول الله وللمؤمنين. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، ما يهتدون، ما تستطيعون، إذ من أذله الله لا تستطيع الخليقة كلها أن تهديه؛ لأن فعل الله لا يقاوم، فكيف أراد الله إضلالهم وأنتم تهدونهم؟! ما تستطيعون، ولماذا أراد الله إضلالهم؟ لأنهم استوجبوا ذلك بالاستمرار على الكفر والكيد والمكر والأذى للمؤمنين والمؤمنات.إذاً: غضب الله عليهم فاستوجبوا عذاب الله، فتأملوا قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، أي: طريقاً إلى هدايته، والخطاب لرسول الله والمؤمنين.بل وزاد من أحوالهم فقال: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، فأطلعهم على ما في قلوبهم، وَدُّوا ، أي: أحبوا أشد الحب، لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقد قلت بالأمس وإني على يقين: إن عامة الكفار من المجوس من اليهود والنصارى والمشركين والوثنيين كلهم يودون أن نكون كافرين مثلهم، بل ولا توجد طائفة تقول: لا، هؤلاء على نور وعلى حق، اتركوهم هكذا، أو شجعوهم على هداية الناس، فهذا رمز لهذا المعنى، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً . إذاً: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، وقد ذكرنا أن بعضاً منهم كانوا في مكة، وقد كانوا يأتون إلى المدينة يعلنون إسلامهم ويعودون إلى مكة فينافقون ويجارون عبدة الأصنام والأوثان، فقال الله في شأنهم: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ، أي: من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مكة وعادوا، حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، وذلك بأموالهم وأهليهم وأولادهم، ويستقيموا معكم في المدينة، أما أن يمسكوا الحبل أو العصا من جانبين أو من وسطه فلا.قال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89]، وأولياء جمع ولي، فمن وليك؟ الذي تحبه ويحبك، وتنصره وينصرك، فلا تتخذوا منهم أحباء تحبونهم وتنصرونهم أبداً؛ لأنهم كفار منافقون، إلى متى؟ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، ويصح أن نقول: يهاجروا في سبيل الله، أي: ينقطعوا عن عبادة الكفر والباطل والشر إلى الإيمان والعمل الصالح، أي: هجرة روحية، فيهجرون الكفر والضلال ويعودون إلى الإيمان والاستقامة، ويصح لفظ الهجرة بهذا المعنى؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والمهاجر بحق -من هو؟- من هاجر ما نهى الله عنه ورسوله )، أي: أن المهاجر الحقيقي ليس الذي ينتقل من بلد إلى بلد، بل الذي يهجر ويتجنب ما يغضب الله ورسوله من الذنوب والآثام.قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا ، عن الإيمان، إذاً فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]، وهذا توجيه الله عز وجل للرسول والمؤمنين إزاء هؤلاء المنافقين، سواء في المدينة أو خارج المدينة.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق...)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90].ثم قال تعالى مستثنياً: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، فمثلاً قبيلة من القبائل أو جماعة من الجماعات مرتبطة بميثاق أو بعقد مع قبيلة أخرى، وتلك القبيلة بيننا وبينهم عهد وميثاق، فهؤلاء لا ننقض عهدنا وميثاقنا معهم من أجل أولئك، وإنما نتركهم فلا نقاتلهم.وتأملوا: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، يصلونهم بماذا؟ بمعاهدة، فمثلاً: خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبني بكر مع قريش، فإذا كانت جماعة مع خزاعة فلا ننصر عليهم لا نقاتلهم، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، وهذا أولاً، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ، أي: ضاقت، أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ [النساء:90]، أي: جاءوكم وصدورهم ضاقت ما استطاعوا أن يقاتلونكم ولا أن يقاتلوا قومهم، إذ إن قومهم لا يريدون أن يسلموا ويدخلوا في الإسلام، وأنتم ما تريدون أن يبقوا في الكفر، فضاقت بهم الحال، فماذا تصنعون معهم؟قال: أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ، اتركوهم، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ إذاً: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ، وهم كفار، وألقوا إليكم السلم، أي: وهو عدم الحرب، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، فلا تقاتلوهم، فهؤلاء مضطرون، فقومهم حاربوهم وأنتم كذلك، وصدورهم ضيقة، فإذا ما حاربوكم لا تحاربوهم، ثم يمن الله عليهم فيقول: ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم، إذاً: فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم فاتركوهم، ولا تنس أن هذا كله قد نسخ بأن الجزيرة لا يجتمع فيها دينان، فقد نسخ بآيات آخر ما نزل من سورة التوبة، فقال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصبحت على الباب، فيموت الرسول ولم يبق في الجزيرة شرك ولا كفر؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، لكن هذه التعاليم يستخدمها أئمة المسلمين في خارج الجزيرة مع الأمم والشعوب، ولهم في ذلك حق، إذ إن هذا تعليم إلهي رباني.قال: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، أي: لتقتلوهم أو تقاتلوهم، وهؤلاء ما يريدون أن يقاتلوكم ولا يقاتلوا قومهم، فماذا يصنعون؟ هم في كرب وفي ضيق، إذاً اتركوهم فلا تقاتلوهم.
تفسير قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم...)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91].ثم قال تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، أي: يريدون أن يمسكوا العصا من الوسط، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: إلى الكفر والشرك، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، فاسمعوا، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء:91]، أي: تمكنتم منهم، وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91]، وهذه جماعة أخرى. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91]، أي: غير الأولين، كيف حالهم؟ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، في وقت واحد، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: فتنة الشرك والكفر، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، وهؤلاء، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:91]، أي: بمعاهدة أننا لا نحاربكم ولا تحاربونا، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ [النساء:91]، بالفعل؛ لأنه قد يعاهدون ويخونون، فهؤلاء، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [النساء:91]، حتى ولو كانوا في الكعبة، إذاً: وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين! ومع شرح هذه الآيات الأربع أو الثلاث، وذلك زيادة في الفهم والعلم إن شاء الله. ‏
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولنا ولكم: [ أما الآيات الأربع الباقية فقد نزلت لسبب معين، وتعالج مسائل حربية معينة، أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين، وقد يكونون في مكة، وقد يكونون في المدينة، فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم والعزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم ]، وفعلاً فقد اختلفوا فيهم، قال تعالى مصوراً ذلك: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88].قال: [ ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإيمان لعلهم بمرور الأيام يتوبون، فلما اختلفوا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88].ومعنى الآية: أي شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام، أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هاد، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة: وَدُّوا [النساء:89] ]، أي: في نفوسهم، ثم قال: [ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، أي: أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم، وفيه لازم وهو انتهاء الإسلام ]، أي: يريدون إنهاء الإسلام، وهذا الذي قلت لكم: لا يوجد فريق في البشر من المشركين والوثنيين والكتابيين يريدون بقاء الإسلام أبداً؛ إذ لو وجدت أمة أعجبها الإسلام ورغبت فيه فإنها تدخل فيه، فلماذا تعيش بعيدة عنه؟ فكلهم يريدون ألا إسلام، لماذا؟ ليستووا مع المسلمين في الهبوط والسقوط وفي جهنم والعياذ بالله.قال: [ ومن هنا قال تعالى محرماً موالاتهم إلى أن يهاجروا ]، أي: يعودون إلى العمل الصالح والاستقامة، أو يعودوا إلى المدينة ولا يبقوا في مكة أو خارجها، قال: [ فقال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ [النساء:89] تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر ]، يعني: يقاتلون معكم، قال: [ وظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة ]، وهذا ظاهر الآية، قال: [ وهو كذلك. وقوله تعالى: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]؛ لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر، فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا، فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح إلى النفاق والكفر فأعلنوا الحرب عليهم، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89]؛ لأنهم بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.ثم في الآية الأخيرة يقول: استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين ]، أي: استثنى الله تعالى لرسوله والمؤمنين صنفين من أولئك المنافقين المذكورين، قال: [ فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم:الصنف الأول: الذين ذكرهم تعالى بقوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، أي: يلجئون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم، فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني: قوم ضاقت صدورهم بقتالكم وقتال قومهم، فهؤلاء الذين لم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم، إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم؛ إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ]، إذاً فاتركوهم، [ وهذا الصنف هو المعني بقوله تعالى: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [النساء:90]. فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم، هذا معنى قوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:90]، أي: المسالمة والمهادنة، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90]، أي: لأخذهم وقتالهم.هذا وهناك صنف آخر: ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة، وهي قوله تعالى: ستجدون قوماً آخرين غير الصنفين السابقين، يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال، كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ [النساء:91]، أي: إلى الشرك، أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، أي: وقعوا فيها منتكسين؛ إذ هم منافقون، إذا كانوا معكم عبدوا الله وحده، وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك-والعياذ بالله-وهو معنى قوله تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:91]، أي: إن لم يعتزلوا قتالكم، ويلقوا إليكم السلام، وهو الإذعان والانقياد لكم، ويكفوا أيديهم بالفعل عن قتالكم، إذاً: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:91] ]، لا شك في الإذن في قتالهم، ثم قال: [ أي: حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم، وعلى أي حال كان، هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة، إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه؛ فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر أبداً، ولكن خارج جزيرة العرب، إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان ].وقد عدنا من حيث بدأنا، إذ هذه الأحداث تمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الله تعالى هذا السلم بين المسلمين والمشركين نهائياً، وله إعلان من قبل أعلن في الجزيرة بكاملها: من كان بينه وبين الرسول عهد، شهر أو شهرين أو ثلاثة إلى أربعة أشهر، فننتظر حتى تنقضي الأربعة الأشهر، فإذا انسلخت فالقتال، واسمعوا هذه الآيات المباركة: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2]، أيها المشركون! أي: عندكم أربعة أشهر، فإما أن تدخلوا في الإسلام أو تخرجون من الجزيرة أو تلتحقون بالهند أو بشرق الدنيا أو بغربها، فهذا شأنكم.لكن فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فالجواب: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5]، فهذه الآية نسخت العفو أو السلم بين الرسول والمؤمنين والمشركين بالجزيرة؛ لأن الإسلام قد انتشر ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أوشكت، إذاً هنا أعلن هذا الإعلان الإلهي وأعلنه حتى في الحج، وهو أن للمشركين فسحة أربعة أشهر، فمن أراد أن يدخل في الإسلام فليتفضل، ومن أراد أن يرحل إلى شرق الدنيا أو إلى غربها فليفعل، أما أن يصر على الشرك والكفر هنا فلا، إذ بمجرد أن تنتهي هذه الأربعة أشهر يقتلون.ويبقى أن هذه الآيات يستعملها إمام المسلمين مع الدول المجاورة، أي: قضية عهود ومواثيق وعدم اعتداء، وكل هذا واسع، أما في الجزيرة فلا يجتمع فيها دينان.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]