عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-04-2021, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,722
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قارون وسكرة المال

وفي سورة القلم ذكر قصة أصحاب الحديقة المثمرة الذين منعوا حق الله فيها، فصارت بعد نية السوء إلى ليل أليل من الهلاك والاحتراق؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 17] إلى قوله: ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 19، 20].









عباد الله، إن النماذج القارونيَّة ما زالت منتشرة في كل زمان، وقد توجد في كل بلاد، غير أن القارونيِّينَ المتأخِّرين لم يعتبروا بنهاية قارونهم الأول! فكأن بطر النعمة يغطي أسماعَهم عن سماع المواعظ، وأبصارَهم عن رؤيتها، وقلوبهم عن وصولها إليها؛ قال تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].









أيها الأحِبَّة الفضلاء، في هذه القصة يبرز لنا دور النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه الدعوة للعصاة معذرة إلى الله لعلَّهم عن عصيانهم يرجعون؛ إذ قال قوم قارون لقارون هنا: ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 76، 77]، وكذلك وجهت النصيحة إلى المتشوِّفين إلى ما عند قارون الذين غبطوه على ما أُوتي، قال: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].









إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي صِمَام الأمان للمجتمعات، وسبب من أسباب رحمة الله بأهلها وبقاء الخير فيها، أما إذا نُهي عن المعروف، وأُمر بالمنكر، فذلك الحبل الذي تستنزل به صنوف البلايا والنقم، فالمنكرات لا تقل ولا تذهب إلا بقيام النصيحة والناصحين، فإذا ولَّتِ النصيحةُ عن مجتمع، فستحل فيهم اللعنةُ، والغضب، والشقاء.









قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].









قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم))[6].









أيها المسلمون، في هذه القصة إشارة لطيفة إلى مسألة ترشيد المال في الإسلام وكيفية التعامل الصحيح معه، فالمال الحلال نعمة عظيمة على صاحبه حينما يستغله في طلب الآخرة بمساعدة ذوي الحاجة والنفقة في وجوه البر والاستعانة به على إصلاح الدين والدنيا.









والإسلام لا يطلب من رب المال إنفاقه كله ولو في وجوه الخير؛ بل يأمره أن يُبْقي لنفسه منه ما يحتاجه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]. قال كعب بن مالك رضي الله عنه: "يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك بعض مالِكَ، فهو خيرٌ لك)) [7].









فمن المال المتبقي بعد أداء حق الله تعالى ما ينفقه المسلم على نفسه وأولاده وأهله في المباحات من غير إسراف؛ ولذلك قال تعالى هنا: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77].









معشر المسلمين، في هذه القصة ذكر سبب من أسباب الفساد في الأرض وهو المال، فالمال إذا لم يُسخَّر في المباح والخير كان من أكبر دواعي الفساد الخاصة والعامة؛ يقول تعالى هنا: ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].









وفي هذه القصة يبدو الكِبر والغُرور مانِعًا سميكًا من موانع قبول الحق، والاستجابة لداعي الرشاد والهدى، فالنفس المتكبِّرة أرضٌ صُلْبة جدباء، لا تقبل غَيْثَ النصيحة وكلمة الحق، إلَّا أنْ يشاء الله، خصوصًا إذا كان الناصح أقلَّ شأنًا ومالًا وقدرًا من المنصوح، فرَفْضُ الحق وعدم الإذعان له صفةٌ من صفات المتكبِّرين، وبهذا عرَّفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهذا، فقال: ((الكبر: بطر الحق وغمط الناس))[8]، فقارون لما سمِعَ النصيحة من ناسٍ لم يصلوا مرتبته ردَّها، وأبدى استحقاقه الذاتي للنِّعْمة، ولم يعتبر بما جرى لأسلافه من أمثاله، فقال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78].









وفي هذه القصة - أيُّها الأحِبَّة - شنشنة تعرف من أخزم، وعادة تظهر على أهل الكبر هي أنهم يحبون الظهور بمظاهر العلوِّ وسرقة الأنظار إليهم، ظانِّين أنهم يزدادون جلالًا وجمالًا، والحقيقة أن الأمر على خلاف ظنِّهم؛ فإنهم إذا كانوا ينظرون إلى الناس من الأفق البعيد، ويرونهم صغارًا في أعينهم، فالناس كذلك إليهم ينظرون، فالطائر الكبير المحلِّق في السماء يرى تحته الأشياء صغيرةً جدًّا، وكذلك الناس يرونه في السماء نقطةً دقيقةً، وقد لا يرونه لصِغَرِه.









غير أن ضِعافَ النفوس وذوي النظرة الدونيَّة يرون ذاك الازدهاء، وذلك الشموخ الفارغ للغني المتكبر حقيقةً؛ فيتمنون ذلك الحَظَّ المنتفخ! مع أن الحقيقة تقول لهم: إن المظاهر لا تحكي الضمائر غالبًا؛ ولهذا قال تعالى عن المنافقين: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ [المنافقون: 4]، وفي هذه القصة قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79].









أحبابي وإخواني، إن العلماء العاملين هم حُرَّاسُ الملَّة اليقظون على أعتابها، الذي يعيشون بين الناس كالشمس للدنيا، والعافية للأبدان، فإذا رأوا الناس مُقْبلين على الفتنة، أخذوا بحجزهم حتى لا يتقحَّموها، وإذا رأوهم مُدْبرين عن الهُدَى والخير، نادوهم أن هلمُّوا إلينا ندلكم على سعادة الدنيا والآخرة.









وفي هذه الآيات يقول تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]، هذا هو المشهد الأول في هذه القصة، مشهد النعمة والزَّهْو بها، وتبقى المشهد الأخير منها.




أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.









الخطبة الثانية




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومَنْ والاه، أما بعد:




أيها المسلمون؛ يقول تعالى: ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [لقمان: 24]، ويقول: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 45،44].









نعم، لقد تمتَّع قارون بالمال ما تمتَّع، وأخذ من الزهو والغرور ما أخذ؛ لكنه لم يخلد، فساعة الرحيل بقيت تنتظره حتى أدركَها، ولم تكن ساعةَ سرورٍ؛ بل كانت ساعةً أليمةً فاضِحةً، إذ أخذه الله أخْذَ عزيز مقتدر، فبعد النعمة نزلت النقمة، وبعد المهلة فاجأتْهُ الأخْذة السريعة، وبعد زهوة العلوِّ صدمته عقوبة الخَسْف، والجزاء من جنس العمل، لقد عاش مُتكبِّرًا على قومه، فصارت نهايتُه تحت أقدامهم، وساخ في الأرض التي يسيرون عليها، جزاءً وِفاقًا.









قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشَر المتكبِّرون يومَ القيامة أمثال الذَّرِّ في صُورِ الرجال، يغشاهم الذُّلُّ من كل مكان، يُساقُون إلى سَجْنٍ في جهنم يُسمَّى بُولسَ، تعلوهم نارُ الأَنْيارِ، يُسقون من عُصارة أهل النار طِيْنة الخَبال))[9]؛ قال تعالى: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81].









أيها المسلمون، بعد السكرة صحت الفكرة، وانتبه غافل لم يستفد من يقظته بعد فوات فرصته؛ وهو قارون عندما لقي ربَّه على حالته، وانتبه غافلون استفادوا من هذا الانتباه؛ وهم قوم قارون؛ قال تعالى: ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82].









هذا هو المشهد الأخير، الذي أسدل الستار على بغي باغٍ، ونهاية بائسة بعد التعالي والتباهي؛ ليعلِّم العالَم أجْمَعَ أن طغيان المال إلى زوال، والمتكبِّرين إلى سفال ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].









فيا من أنعم الله عليه نعمة أيًّا كانت، اشكُر النعمة قبل أن تبغتك النقمة، فأدِّ حقَّ الله وحقَّ خَلْقِه منها بلا زَهْوٍ ولا لهْوٍ، ولا إمساك ولا غرور، ولتكن نعمتُكَ سائقةً لك إلى مرضاة الله، لا إلى سخطه فعقابه.









ولهذا ختم الله هذه القصة بقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].




نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين المتقين، هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد وآله.








[1] رواه أحمد والترمذي والبيهقي، وهو حسن.




[2] رواه أحمد والترمذي، وهو حسن.




[3] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح.




[4] رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح.




[5] رواه ابن حبان وابن ماجه، وهو حسن.




[6] رواه أحمد، والترمذي، وهو حسن.




[7] متفق عليه.




[8] رواه مسلم.




[9] رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وهو حسن.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.77 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]