قارون وسكرة المال
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن أصْدَقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هَدْيُ نبيِّه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص 76-83].
أيها الناس، إن في حديث الغابرين عبرةً للمعتبرين، وموعظةً بالغةً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمْعَ وهو شهيد من الخالفين؛ لأنه حديث يسوق الذكرى، ويكشف النهاية والعقبى؛ ليكون درسًا لمن خلف في سلوك دَرْبِ مَنْ سلَفَ أو في عدم سلوكه.
فهي موعظةٌ للإنسان الحي بالإنسان الميت؛ ليُصحِّح المسير، ويستشرف المصير؛ وكم أحيا الله بأموات القبور أمواتًا يعيشون في الدُّور والقصور.
فمن كان واعيًا مستقيمًا، ازداد جدًّا وتشميرًا في سبيله المستقيم، ومن كان معوج الطريق وعقل الموعظة، أعاد خطى مسيره إلى ربِّه عبر دَرْبِ النجاة بعد أن انحرفَ عنه، والموفَّق من جعل الله له في غيره عِبْرةً، والمخذول من جُعل عبرةً لغيرِه.
عباد الله، في هذه القصة القرآنية عِبَرٌ وعِظاتٌ، وآياتٌ مُنيراتٌ، تُوضِّح للسالك صورةً عن الطبيعة البشرية وتعلُّقها بالفاني العاجل والمظهر الزائف الخادع.
وتُصوِّر لها بعضَ المشاهد الناتجة عن جحود النِّعْمة ونسيان المنعم، وانتصار الهوى على العقل، والجهل على الإصابة والحكمة.
تأتي هذه الآيات الكريمة مرغبة ومرهبة، مرغبة في العمل على بناء الحياة الناجحة المطمئنَّة التي تقوم على صلاح الدنيا والدين، جاعلة الهمَّ الأكبر هو التعلُّق بالدار الآخرة وعدم الاغترار بزينة الدنيا الزائلة، ومرهبة أيضًا من ركوب الغرور والجحود والتباهي الممقوت، ومرهبة كذلك من الغفلة عن الآخرة وما فيها، ومن الإغراق في لهْوِ الدنيا وأعراضها الذاهبة.
أيها المسلمون، فحوى هذه القصة وحديثها عن قضية المال ونظرة الناس إليه، وفيها نموذج للغني البطر الذي غرق في النِّعْمة وسكر فيها، ونسي المنعم عليه بها، وفيها تعريج للحديث عن تشوُّف الناس واستشرافهم إلى النعمة التي يرفل بها قارون، ثم العظة ببيان الخاتمة السيئة للمغرور بنعمة الله ورجوع الناس إلى رشدهم بعد أن سباه منظر قارون في فَخْرِه وبطره.
تبدأ القصة بذكر اسم الرجل المغرور وانتسابه إلى قوم موسى، وبيان معصيته الكبرى بين قومه، وقيام بعض الناصحين منهم بنُصْحِه، لعلَّه يعود عن غيِّه وبَغْيه بعد أن طمس الأشرُ والبطرُ رؤيةَ الحقيقة عنده، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76].
عباد الله، إن المال هِبةٌ من الله تعالى يبسطه على مَنْ يشاء ويقدره على مَنْ يشاء، وكل ذلك بعلم وحكمة العليم الخبير، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، وليس للعباد مع هذا التقدير والقسمة إلَّا الرضا والتسليم من غير تسخُّط وتضجُّر؛ لأنه قدر العليم الخبير، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وارْضَ بما قسم اللهُ لكَ، تَكُنْ أغْنَى الناس))[1].
لكن هذا الرضا بالفقر لمن قدر عليه رِزْقه لا يعني البُعْد عن أسباب الغنى التي بمقدور الإنسان الصالح تحصيلها؛ لأن الإسلام لا يُحبِّذ لأهله أن يعيشوا فقراء وهم بمقدورهم أن يصيروا أغنياء غنى لا يطغيهم ولا يُلهيهم.
فالغنى لا يذم لذاته؛ إنما يذم الأغنياء الذين صرفوا هذه النِّعْمة إلى ما لا ينبغي، ولهذا رغَّبَ الإسلام المسلمين في تحصيل الرزق والبحث عنه في مظانِّه المشروعة، ومدح الأغنياء الصالحين الذي استثمروا هذا الخير في سُبُل الخير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي كان له اليد الطُّولى في تجهيز جيش العسرة: ((ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم)) مرتين[2].
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعث إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن آخذ عليَّ ثيابي وسلاحي، ثم آتيه، ففعلت، فأتيتُه وهو يتوضَّأ، فصعد إليَّ البصر، ثم طأطأ، ثم قال: ((يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش، فيغنمُك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة))، قلت: إني لم أُسلم رغبةً في المال؛ إنما أسلمتُ رغبةً في الإسلام، فأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح))[3].
وقد أباح ديننا الحنيف كثيرًا من أنواع البيوع والمعاملات المالية التي يكثُر فيها المال وينمو، وجعل المعاملات المحرَّمة في نطاق محدود وإطار ضيق، وشرع كذلك الأسباب التي يزداد بها المال ويزكو؛ كالزكاة والصَّدَقة، خلافًا لما يظنُّه البخلاء أن الزكاة والصَّدَقة تنقصان المال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصَ مالُ عَبْدٍ من صَدَقة))[4].
أيها المسلمون، إن المال حينما يميل بصاحبه من الشكر إلى الجحود، ومن التواضُع إلى الغرور، ومن اكتسابه من الوجوه المباحة وإنفاقه في الجهات المشروعة إلى أخْذِه من الطُّرُق المحرَّمة، وبَذْله في السُّبُل المحظورة إذا كان الأمر كذلك، فهذا هو الذي ذمَّه الشَّرْعُ في هذه المسألة، وهو الغالب على النفوس البشرية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب))[5].
في هذه القصة يتعالى قارون على قومه بكثرة ماله، فيبدو عليه الزَّهْوُ وازدراء الناس حتى أعرض عن الإسلام لموسى عليه السلام، وأبى قبول نصيحة الناصحين، وركب مركب الغرور الذي ساقَهُ إلى الخسف والهلاك.
وهكذا يفعل المال بصاحبه إذا لم يشكر العطية، ويعرِف حقَّ مُعطيها، فعند ذلك تؤوب النِّعْمة إلى نقمة، والمنحة إلى محنة، وما ظلمهم الله؛ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ليس قارون وحدَه مَنْ صيَّر نِعْمة الله عليه نقمةً على نفسه؛ بل هناك أشرون لا يُحصَون، وفي القرآن الكريم ذكَرَ اللهُ أمثلةً عن بعضهم؛ ففي سورة النحل يضرب الله المثل بقرية أنعم الله عليها بالأمن ورغد العيش؛ لكنها كفَرَتْ ذلك، فأبدلها الله عن تلك النعمة جوعًا وخوفًا ملازمين لها ملازمةَ الثوبِ الجسدَ؛ يقول تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
وفي سورة الكهف ذكَرَ الله قصةَ صاحب الجنَّتَينِ اللتينِ غرَّتاه وأبطرتاه، فتحوَّلتا إلى هلاكٍ وبَوارٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴾ [الكهف: 32]، إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42].
وفي سورة سبأ ذكر تعالى خبرَ قومِ سبأ في مأرب القريبة من ها هنا، الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر وجحود النعمة، وسئموا الاستمرار فيها لما لم يشكروها، فغرقت تانك الجنتان بأموالهم وآمالهم وأُبدلوا عنهما ثمرًا مرًّا لا ينفع، وتفرَّقوا في الجزيرة العربية شذَرَ مَذَرَ حتى ضرب العرب المثل بتفرُّقهم بعد ذَهاب نِعْمَتِهم، فقيل: تفرَّقُوا أيدي سبأ؛ فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 15، 16]، إلى قوله: ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19].
يتبع