« القياس » المصدر الرابع للتشريع
متولي البراجيلي
الحلقة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
تحدثنا في اللقاءين السابقين عن تعريف القياس وحجيته وضوابطه، ثم ذكرنا أقسام القياس وأدلته من القرآن، ونواصل البحث – إن شاء اللَّه -:
ثانيًا أدلة السنة: وفي السنة آثار كثيرة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه إلى القياس ودل على صلاحيته لاستنباط الأحكام ومنها:
1- حديث معاذ المشهور - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عُرض عليك قضاء؟ ».
قال: أقضي بكتاب اللَّه.
قال: «فإن لم تجد في كتاب اللَّه؟ ».
قال: فبسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب اللَّه؟ ».
قال: أجتهد رِأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله». [أبو داود والترمذي]
وقد صحح الخطيب البغدادي الحديث قائلاً: على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم. [الفقيه والمتفقه]
إلا أن من المحدثين من ضعفه من جهة السند مع القول بصحة معناه، وقد ذهب الشيخ الألباني -
- رحمه الله - إلى ضعف الحديث سندًا وأن في متنه مخالفة لأصل مهم، وهو عدم جواز التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة ووجوب الأخذ بهما معًا. [السلسلة الضعيفة ح881].
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: وهو الحجة في إثبات القياس عند جميع الفقهاء القائلين به.
2- أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، ولدي غلام أسود [منكرًا لونه الأسود]، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : «هل لك من إبل؟ » قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال:
«هل فيها من أورق؟ » (الأسود غير الحالك) قال: نعم. قال: فأنَّى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق». [متفق عليه]
3- وعندما سألت الخثعمية عن الحج عن أبيها الذي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم – مستخدمًا القياس: أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيته؛ أكان ينفعه؟ قالت: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: «ودين اللَّه أحق أن يُقضى». [البخاري]
4- وعندما قال عمر: يا رسول اللَّه، لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخدمًا القياس: أرأيت لو تمضمضت بالماء؟ فقال: لا بأس، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «فمه» (أي فماذا عليك). [أحمد وأبو داود] .
5- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ » قالوا: لا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا. [البخاري]
فالقياس: كما أن الماء مطهر من الأدران الحسية فالصلاة مطهرة من الأدران (السيئات) المعنوية. إلى غير ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي استخدم فيها القياس.
ثالثًا: أدلة الصحابة:
1- كتاب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في القضاء، وفيه: اعرف الأشباه
والأمثال وقس الأمور، ثم الفهم الفهم، فيما أُدْلِيَ إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى اللَّه وأشبهها بالحق.
2- ولما بعث عمر - رضي الله عنه - شريحًا على قضاء الكوفة، قال له: انظر ما تبين لك في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب اللَّه فاتبع فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك.
3- وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: من عَرَض له منكم قضاءً فليقض بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاء أمر ليس في كتاب اللَّه ولم يقض فيه نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب اللَّه ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي.
4- وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا سُئل عن شيء، فإن كان في كتاب اللَّه قال به، وإن لم يكن في كتاب اللَّه وكان عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم- قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ولا عن أبي بكر وعمر، اجتهد رأيه.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: هذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - وهم من اشهر
الصحابة بالفتيا والقضاء. [مجموع الفتاوى 19/201]
5- ومن ذلك أيضًا: تقديم الصحابة لأبي بكر - رضي الله عنه - إمامًا للمسلمين وجعله خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قياسًا على تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة، فقالوا: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمر ديننا، أفلا نرضاه لأمر دنيانا؟!
رابعًا: أدلة المعقول:
1- إن اللَّه - سبحانه - ما شرع حكمًا إلاَّ لمصلحة، وإن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة التي لا نصَّ فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة المصلحة، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقًا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع.
ولا يتفق وعدل اللَّه وحكمته أن يحرم شرب الخمر لإسكاره محافظة على عقول عباده، ويبيح نبيذًا آخر فيه خاصية الخمر، وهي الإسكار، لأن مآل هذا هو: المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب
بمسكر آخر.
2- إن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع والمصالح.
3- إن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى عن شراب لأنه سام، يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه اعتداءً وظلمًا لغيره، يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يُعرف بين الناس اختلاف في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر، ما دام لا فارق
بينهما.
ولعل القياس من أهم الأسباب التي جعلت الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، حيث تتسع لكل ما يطرأ على مصالح العباد وتصرفاتهم.
نفاة القياس
وأدلتهم: ومع أن الجمهور على أن القياس حجة شرعية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية بعد القرآن والسنة والإجماع؛ إلا أنه يوجد من أهل العلم من أنكرالقياس، كأهل الظاهر وخاصة ابن حزم - يرحمه الله -.
وأوردوا أدلة مختلفة من القرآن وآثار الصحابة ومن المعقول تنفي القياس، وسننظر إلى هذه الأدلة وكيف وجهها أهل العلم في الرد عليهم.
أولاً: من القرآن:
1- قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله[الحجرات: 39].
فقال أهل الظاهر إن القياس يعارض هذه الآية لأنه تقدُّم أو تقديم بين يدي اللَّه ورسوله بحكم يقول به في واقعة لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة.
2- قوله - تعالى -: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36].
فقالوا: أي لا تتبع ما ليس لك به علم، والقياس أمر ظني مشكوك فيه، فيكون العمل به بغير علم، ومن قبيل الظن الذي لا يغني عن الحق شيئًا، كما جاء في القرآن الكريم.
3- قوله - تعالى -: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء <<. ففي القرآن بيان كل حكم فلا حاجة معه للقياس، لأنه إذا جاء بحكم ورد في القرآن، ففي القرآن الكفاية، وإن جاء بما يخالفه فهو مرفوض غير مقبول.
ومن مثل ذلك، قوله - تعالى -: ما فرطنا في الكتاب من شيء[الأنعام: 38].
وقوله - تعالى -: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين[الأنعام: 59].
ثانيًا: من آثار الصحابة:
قالوا: وردت آثار كثيرة عن الصحابة بذم الرأي وإنكار العمل به، ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه -:
إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.
وقوله أيضًا: إياكم والمطايلة، قيل: وما المطايلة؟ قال: المقايسة.
وقال علي بن أبي طالب: لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، وهذا يدل على ذم القياس، وأنه ليس بحجة فلا يعمل به.
ثالثًا: ومن المعقول:
قالوا: إن القياس يؤدي إلى الاختلاف والنزاع بين الأمة لأنه مبني على أمور ظنية من استنباط علة الأصل وتحققها في الفرع، وهذه أمور تختلف فيها الأنظار، فتختلف الأحكام، ويكون في الواقعة الواحدة أحكام مختلفة، فتتفرق
الأمة، والتفرق أمر مذموم غير محمود، وما يؤدي إليه مذموم أيضًا وهو القياس.
ثم إن أحكام الشريعة لم تبن على أساس التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، ولهذا نجد في الشريعة أحكامًا مختلفة لأمور متماثلة مثل: إسقاط الصوم والصلاة عن الحائض في مدة حيضها، وتكليفها بقضاء الصوم دون الصلاة بعد طهرها، وإيجاب قطع يد السارق وعدم قطع يد المنتهب، ولا فرق بين الاثنين، وإقامة الحد على القاذف بالزنا دون القاذف بالكفر، مع أن الكفر أقبح من الزنا.
كما نجد في الشريعة أحكامًا متماثلة لأمور مختلفة مثل: جعل التراب طهورًا كالماء، وهما مختلفان.
فإذا كانت الشريعة لم تراع التماثل بين الأشياء في تشريعها الأحكام، فلا حجة في القياس، لأنه يعتمد المساواة والتماثل والشريعة لم تعتبرهما.
مناقشة أدلة نفاة القياس: الأحكام الشرعية معللة، أي أنها بنيت على عللٍ وأوصافٍ اقتضت هذه الأحكام، سواء كانت عبادات أو معاملات، ولكن علل العبادات محجوبة عنا لا سبيل إلى إدراكها تفصيلاً، وإن كنا جازمين بوجود هذه العلل.
أما في المعاملات فإن عللها يمكن إدراكها بطريق سائغ مقبول، لذا يمكن طرد أحكامها في جميع الوقائع التي تشتمل على هذه العلل جريًا وراء نهج الشريعة، في التشريع وأخذًا بقانون التماثل الذي دل عليه القرآن في كثير من نصوصه، والتسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين أمر مشهود له بالصحة والاعتبار، قال - تعالى -:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون[القلم: 35، 36].
وقال - تعالى -: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون[الجاثية: 47].
فالقرآن إذن شاهد على صحة قانون التساوي بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، وما القياس إلا أخذًا بهذا القانون.
أما ما احتج به نفاة القياس: فالآيات القرآنية لا حجة لهم فيها، لأن القياس يؤخذ به حيث لا نصَّ في المسألة،
فلا يكون تقديمًا بين يدي اللَّه ورسوله.
ولأنه يكشف عن حكم اللَّه في الواقعة التي لم يرد بحكمها نص صريح، فهو مظهر لحكم ثابت وليس مثبتًا لحكم غير موجود، فلا يكون مخالفًا لآية: وأن احكم بينهم بما أنزل الله <<.
وأن القياس يفيدنا الظن الراجح في صحة الحكم مع ملاحظة أن من النصوص ما هو ظني الدلالة، والظن الراجح كاف في إثبات الأحكام العملية، فلا يكون مخالفا لآية:
ولا تقف ما ليس لك به علم[الإسراء: 36]، وآية: وإن الظن لا يغني من الحق شيئا[النجم: 28].
- وكون القرآن تبيانًا لكل شيء، يعني تبيانه للأحكام لفظًا أو معنى، وليس معناه النص الصريح
على كل حكم.
- أما الآثار الواردة عن الصحابة في ذم الرأي والقياس، فتحمل على الرأي الفاسد والقياس الفاسد، ونحن نسلم أن من القياس ما هو فاسد، كما أن منه ما هو صحيح، والصحيح هو ما توافر فيه الأركان والشروط التي ذكرناها من قبل، والفاسد ما كان خلاف ذلك، مثل قياس المبطلين الذين: قالوا إنما البيع
مثل الربا[البقرة: 275].
على أن حقيقة البيع تخالف حقيقة الربا.
ومثل ما قصَّ اللَّه علينا من قول إخوة يوسف - عليه السلام -: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل[يوسف: 77].
وكقياس إبليس المبني على أن النار أفضل من الطين، وغيره.
ولكن وجود قياس فاسد لا يقدح في حجية الصحيح منه، فإننا نجد مما ينسب إلى السنة ما هو باطل قطعًا كالأحاديث الموضوعة، ولكن لا يقدح هذا في وجوب إتباع السنة.
وأما قولهم إن القياس مثار اختلاف ونزاع، فالرد عليهم: أن الاختلاف موجود في استنباط الأحكام الشرعية العملية، وهو سائغ طالما لا يوجد نص صريح قطعي الدلالة في المسألة المختلف فيها، بل إن نفاة القياس أنفسهم اختلفوا
فيما بينهم في كثير من الأحكام حتى ولو كانوا من مذهب واحد، والاختلاف المذموم هو ما كان في المسائل الاعتقادية في أصول الدين لا في فروعه، وفي الأحكام القطعية أو المجمع عليها، لا في الأحكام الظنية.
- وأما ما قاله بعضهم من أن الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلات والتسوية بين المختلفات وبهذا فيهدم أساس
القياس، فهو قول غير سديد مطلقًا، فالشريعة لم تأت قط بما ينافي ما هو مركوز في الفطر السليمة من تفريق بين المختلفين وتسوية بين المتماثلين وأحكامها الدالة على ذلك كثيرة.
أما إذا جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفرق بين نظائره، فلا بد أن يختص هذا النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواة غيره به، فليس في الشريعة أحكام تخالف قانون التماثل، وأما الأمثلة التي ضربوها فبيانها:
- أن الحائض بعد طهرها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، فهذا مبني على رفع الحرج في قضاء الصلاة دون الصوم، لكثرة أوقات الصلاة، والحرج مرفوع شرعًا.
- أما وجوب حد القاذف بالزنا دون الكفر، لأن القذف بالزنا لا سبيل للناس للعلم بكذب القاذف، فكان حده تكذيبًا له وتبرئة لعرض المقذوف ودفعًا للعار عنه،لا سيما إن كانت امرأة، أما الرمي بالكفر فإن مشاهدة حال المسلم واطلاع
المسلمين عليه كافٍ في تكذيب القاذف، وباستطاعة المقذوف أن ينطق بكلمة الإيمان فيظهر كذب القاذف، أما الرمي بالزنا، فماذا يفعل المقذوف حتى يظهر كذب القاذف ؟
- وكذلك إيجاب قطع يد السارق دون المنتهب، لأن السارق يهتك الحرز ويكسر القفل وينقب الدور، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فكان لابد من إيجاب القطع على السارق حسمًا لهذا البلاء على الناس، وهذا بخلاف المنتهب فإنه ينهب المال على مرأى من الناس فيمكن مطاردته وانتزاع المال من يده، كما يمكن الشهادة عليه لدى الحاكم فينزع منه الحق، وفضلاً عن ذلك فإن المنتهب يعاقب تعزيرًا، فليست حقيقة السرقة كحقيقة النهب، فافترقا في الحكم.
- وأما التراب لما صار طهورًا ورافعًا للحدث عند فقد الماء، فهذا حكم تعبدي، والأحكام التعبدية لا تعلل.
وما أجمل المناظرة التي جرت بين أبي العباس أحمد بن سريج الشافعي، ومحمد بن داود الظاهري.
قال أبو العباس له: أنت تقول بالظاهر وتنكر القياس، فما تقول في قوله - تعالى -: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره[الزلزلة: 7، 8].
فمن يعمل مثقال
نصف ذرة ما حكمه؟
فسكت ابن داود الظاهري طويلاً، ثم قال: أبلعني ريقي.
قال أبو العباس: قد أبلعتك دجلة.
قال ابن داود الظاهري: أنظرني ساعة.
قال له أبو العباس: أنظرتك إلى قيام الساعة...وافترقا - رحمهما الله -.
ولقد حمل ابن حزم
الظاهري - رحمه الله - على الأئمة حملة شديدة لأخذهم بالقياس وقال: إن كل ما لم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه، فهو مما سكت اللَّه عنه، وهو عفو.
لكن - يقول الشنقيطي - ليس كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو، بل الوحي يسكت عن أشياء ولابد من حلها، ومن أمثلة ذلك مسألة العول (في الميراث)، فأول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين، هذه تركة زوجتي ولم تترك ولدًا، والله يقول في كتابه: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد.... [النساء: 12].
فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق.
فقالت الأختان: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان، والله يقول: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك[النساء: 176]، والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق.
فقال عمر: ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف.
(فهنا الوحي سكت ولا يمكن أن يكون عفوًا، فلم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما، فلا بد من حل، فلا نقول لهم: تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلابد من الاجتهاد).
فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العول لمثل هذا.
فقال له العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، أرأيت هذه المرأة لو كانت تُطالب (مدينة) بسبعة دنانير وتركت ستة دنانير فقط، ماذا كنت فاعلاً؟ قال: أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأعطي كل واحد من أصحاب الدنانير نصيبًا من السبعة، قال: كذلك فافعل.
--------------------------------------------
1- الوجيز في أصول الفقه: د. عبد الكريم زيدان.
2- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة: للجيزاني.
3- علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف.
4- التأسيس في أصول الفقه: مصطفى سلامة.
5- مذكرة في أصول الفقه: للشنقيطي.
6- أصول الفقه: د. شعبان محمد إسماعيل.
7- أقيسة الصحابة وأثرها في الفقه الإسلامي: د. محمود حامد عثمان.
8- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
9- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
10- السلسلة الضعيفة للألباني.
11- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.