لمحة 5
مصطفى صلاح محمد
ترك الذنب أيسر من الاعتذار
أحيانًا نُخطِئ في حقِّ أحد أصدقائنا، وقد يَقَعُ تَبَعًا لذلك الخطأ مُشاحنةٌ أو مُباغضةٌ أو مُلاسنةٌ، وقد تنقَلِبُ شجارًا وخِصامًا وفراقًا، وقد يتبعُ ذلك الخصام مفاسد أخرى كثيرة، ويتجشَّمُ المرء في نهاية الأمرِ عناءَ إصلاحِ ذلك كلِّه، وأحيانًا يكونُ إرضاءُ ذلك الشخص صَعبًا جِدًّا، كأنَّك تتسلَّقُ جبلاً وعرًا أعيَتْك صُخورُه وأدمَتْك بروزُه، وفي النِّهاية وبعد كلِّ هذا العناء جرح القلوبِ المتنافرة يستحيلُ أو لنَقُلْ: يصعبُ أنْ يلتئمَ تمامًا، بل يُخلِّفُ وَراءَه أثرًا غالبًا ما يُترَك للزمنِ مهمَّة طمسِه رُوَيدًا رُوَيدًا، ويبقى ذلك الأثرُ ثلمًا في جِدارِ المحبَّة، أو ضَعفًا فيه يُهيِّئُه لانهيارٍ آخَر عند زلَّةٍ أخرى.
وقد يكون هذا الخطأ في حقِّ الله - عزَّ وجلَّ - فيقعُ الواحدُ في ذنبٍ تدومُ لذَّته ثَوانٍ، وربما دقائقَ، وربما - إنْ طالتْ - ساعات، ثم تذهبُ اللذَّة وتزوي كمَا يزوي الصَّدَى في أحضان الفَراغ، ويَتبقَّى بعدَها تَبعاتُها؛ سَوادٌ في القَلب، واضطِرابٌ في النَّفس، وظَلامٌ في الوَجْه، وتأنيبٌ في الضمير، وخَوْفٌ من المستقبل، وارتِباكٌ في الحِسابات، ومن ثَمَّ يُحاوِلُ المرءُ بَعدَها أنْ يُصلِحَ مِن نفسه، وأنْ يَترُكَ ذلك الذنبَ، لكن قد يكون قلبُه متعلِّقا به، أو يكتَشِف أخيرًا أنَّه قد غرق فيه حتى أذنَيْه، فيَتجشَّم عَناءً ما بعدَه عَناء، ويلتَمِسُ لذلك سُبُلاً عِدَّة، ويظلُّ تائهًا ضالاًّ يَتَسَوَّلُ نصيحةً مِن هنا، ودُعاءً من هناك، ومساعدةً من أخٍ، ومساندةً من كتاب، والنتيجة أنَّه قد ينجَح وقد لا ينجَح.
فماذا لو فكَّر الواحد فينا في كلِّ هذه العَواقِب قبل أنْ يُخطِئ في حقِّ صَدِيقه، فتَرْكُ الخطأ يُوفِّر عليه شَقاءً وعَناءًً طويلَيْن مُرَّين، وكذلك الذنوبُ التي نعلَمُ يقينًا زوالَ لذَّتها بانقِضاءِ وقْتها، ومع ذلك نصرُّ على الوقوع فيها، لو ترَكناها لكان ذلك أيسرَ ممَّا بعدَها مِن مشقَّة؛ راحةً في القلب، وطمأنينة في النفس، وانشراحًا في الصدر، وضِياءً في الوجه وإرضاءً للرب - سبحانه وتعالى.
وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في "صيد الخاطر": "مَن عايَن بعين بَصِيرته تَناهِي الأمور في بِداياتها، نالَ خيرَها، ونجا من شرِّها، ومَن لم يَرَ العواقبَ غلبَ عليه الحسن، فعادَ عليه بالألم ما طلبَ منه السلامة، وبالنّصبِ ما رجَا منه الراحة.
وبيانُ هذا في المستقبل يتبيَّنُ بذكرِ الماضي؛ وهو أنَّك لا تخلو أن تكونَ عصيتَ الله في عمرِك أو أطعتَه، فأينَ لذَّة معْصيتِك؟ وأين تعبُ طاعتِك؟ هيهاتَ رحلَ كلٌّ بما فيه!
فليتَ الذنوبَ إذ تخلَّت خلَّت!
وأزيدُك في هذا بَيانًا: مثل ساعة الموت، وانظُر إلى مَرارةِ الحسَرات على التَّفريط، ولا أقولُ: كيف تغلب حلاوة اللذَّات؛ لأنَّ حَلاوة اللذَّات استَحالَتْ حَنظَلاً، فبقيَتْ مَرارة الأسى بلا مُقاوِم، أتراك ما علمتَ أنَّ الأمرَ بعَواقبِه؟ فراقِب العَواقِب تَسلَم، ولا تمل مع هوى الحسن فتندم".