علاج العقم بالوسائل الحديثة ... نظرة شرعية(7)
د. محمد بن هائل المدحجي
التصرف في البويضات الملقحة الفائضة من عملية التلقيح الصناعي
الحلقة السابعة
ما زال الحديث مستمراً مع التلقيح الصناعي وأحكامه ، ومن ذلك الأحكام المتعلقة بالتصرف في البويضات الملقحة الفائضة من عملية التلقيح الصناعي .
والبويضات الملقحة الفائضة هي : البويضات الملقحة التي يتم تجميدها لاستخدامها في حال فشل التلقيح الصناعي في المرة الأولى.
والأصل أن لا يكون هناك فائض من البويضات الملقحة، وقد نصت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية على أن الوضع الأمثل هو أن لا يوجد فائض منها، بل إن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي أوجب ذلك، حيث جاء في قراره رقم ( 55 ) بشأن (البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة) ما نصه: "في ضوء ما تحقق علمياً من إمكان حفظ البييضات غير الملقحة للسحب منها، يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة، تفادياً لوجود فائض من البييضات الملقحة" .
ومما يستدل به على الأصل المتقدم ما يلي:
[1] أن منع وجود البويضات الملقحة الفائضة فيه احترام للحياة الإنسانية، ومنع للأطباء الذين لا يلتزمون بالقيم الدينية والخلقية من العبث بهذه البويضات.
[2] أن الزوجة قد تطلب نقل البويضات الملقحة لها بعد وفاة زوجها، مع حرمة ذلك؛ لأن وفاة الزوج تنهي الحياة الزوجية.
[3] حتى لا يوجد فائض يحتار الفقهاء في كيفية التصرف فيه.
[4] أن وجود هذه البويضات الملقحة الفائضة يجعلها عرضة للاختلاط الذي يترتب عليه اختلاط الأنساب.
وقد أشار قرار مجمع الفقه الإسلامي السابق إلى البديل الذي يتحقق به المقصود، وهو حفظ البويضات غير الملقحة للسحب منها عند الحاجة، فيقوم الطبيب المعالج حينئذٍ بتلقيح العدد الذي يحتاجه في كل عملية تلقيح صناعي خارجي.
إلا أنه إذا وجد فائض من البويضات الملقحة لأي سبب من الأسباب، فلا خلاف بين الفقهاء المعاصرين في تحريم استخدام البويضة الملقحة لتحقيق حمل لغير صاحبة البويضة، وأنه لابد من اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالحيلولة دون استعمال البويضة الملقحة في حمل غير مشروع.جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي رقم (55)بشأن (البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة) ما نصه: "يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى، ويجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالحيلولة دون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع " .
وفيما عدا ذلك اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم تجميد البويضات الملقحة عند قيام الحاجة لذلك، مدة من الزمان، ووفق ضوابط محددة تمنع من اختلاطها :
فالقول الأول: أنه يجوز تجميد البويضات الملقحة بأربعة شروط هي:
[1] أن يكون هناك حاجة لتجميد البويضات الملقحة.
[2] أن يشرف على حفظ البويضات الملقحة جهة مركزية موثوقة، تعتمد إجراءات موثوقة ومضمونة تكفل عدم اختلاط الأنساب، ويشرف عليها أشخاص ثقات في دينهم وعلمهم.
[3] أن يصدر قانون من الدولة ينظم هذه العملية بحيث يترتب على المخالفين والمتلاعبين عقوبات رادعة.
[4] ألا تطول مدة التخزين خشية وقوع طلاق أو وفاة الزوج أثناءها.
وإلى هذا القول ذهبت جمعية العلوم الطبية الإسلامية المنبثقة عن نقابة الأطباء الأردنية، وهو قول بعض الباحثين.
والقول الثاني: أنه يحرم تجميد البويضات الملقحة، وإليه ذهب مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو قول أكثر الباحثين.
والراجح والله أعلم هو القول الأول القاضي بجواز تجميد البويضات الملقحة بشروطه التي تقدمت ، وسبب الترجيح هو:
[1] أن الشروط التي اشترطها أصحاب هذا القول كفيلة بتفادي المحاذير التي من أجلها ذهب أصحاب القول الثاني إلى التحريم.
[2] أن الحاجة ملحة لتجميد البويضات الملقحة بسبب نسبة الفشل العالية لعمليات التلقيح الصناعي والتي تزيد عن (70 %) ومن ثم نجد أن كل مراكز علاج العقم في العالم تقوم بتجميد اللقائح، ومن حرم تجميد البويضات الملقحة إنما حرمه من باب سد الذريعة، والقاعدة أن " ما حرم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة " لكن بالتأكيد مع اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة لمنع وقوع المحظور، والله تعالى أعلم.
وحيث قلنا بجواز تجميد البويضات الملقحة من حيث الأصل لمصلحة تحقيق الإنجاب للزوجين، فإنه لا بد من تقييد ذلك بعدم وجود ضرر في استخدام هذه الأجنة المجمدة ؛ إذ القاعدة الشرعية أنه " لا ضرر ولا ضرار" وتجميد الأجنة ما زال في الحقيقة في مرحلة التجارب، ولم يتبين إلى الآن مدى المخاطر التي يمكن أن تنجم عن استخدام الأجنة المجمدة لمدة طويلة، وعليه فلا بد من قصر الجواز على مدة زمنية يكون استعمال اللقائح المجمدة خلالها مأمون العاقبة، والله تعالى أعلم.
ومن الأحكام المتعلقة بالبويضات الملقحة الفائضة : حكم إتلاف هذه البويضات الملقحة:
وقد اختلف الباحثون المعاصرون في حكم إتلاف الأجنة المجمدة الزائدة عن الحاجة في عمليات التلقيح الصناعي: فمنهم من رأى جواز إتلافها، ومنهم من رأى عدم جواز ذلك وأنه يجب تركها حتى يتوقف نموها وتنتهي حياتها دون تدخل من أحد.
وخلافهم هنا مبني على خلافهم في تحديد بداية الحياة الإنسانية للجنين، فمن رأى أن بداية الحياة الإنسانية تكون من لحظة تلقيح البويضة بالحيوان المنوي مطلقاً رأى أن إتلاف البويضة الملقحة هو إتلاف لحياة محترمة فلا يجوز، في حين رأى أكثر الباحثين أن البويضة الملقحة لا حرمة لها ما لم تكن في داخل جسد المرأة - سواء منهم من يرى أن بداية الحياة الإنسانية بنفخ الروح في الجنين، أو من يرى أن بداية الحياة من الانغراس في بطانة الرحم، أو من يرى أنها من التلقيح إذا كانت داخل جسد المرأة -، ولا شك أن القول الثاني هو الصحيح .
فالصحيح جواز إتلاف الأجنة المجمدة الفائضة ؛ إذ مآلها إلى التلف من جهة، ثم من جهة أخرى إتلافها يسرع في منع عبث العابثين بها ممن لا يخاف الله عز وجل - سواء في تحقيق حمل غير مشروع، أو في تجارب لا تتوافق مع مقاصد الشرع -، في حين أن تركها دون عناية حتى تهلك يعطي بعض الوقت لمثل هؤلاء العابثين يمكن أن يستغلوه في عبثهم، ومن ثَم ّ فقد صرح بعض الفقهاء المعاصرين بوجوب إتلافها فور إنتهاء حاجة الزوجين لها، وهو متجه لما فيه من قطع الطريق على الراغبين في العبث بهذه الأجنة المجمدة.
وقد جاء في توصيات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت في ندوتها التي عقدت في (20-23) شعبان ( 1407 هـ) الموافق (18-21) إبريل (1987م) بعنوان (الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية): " أما إذا حصل فائض، فترى الأكثرية أن البويضات الملقحة ليس لها حرمة شرعية من أي نوع، ولا احترام لها قبل أن تنغرس في جدار الرحم، وأنه لذلك لا يمتنع إعدامها بأي وسيلة " والله تعالى أعلم.
حكم الاستفادة من البويضات الملقحة في الأبحاث والتجارب :
هذا محل خلاف بين الفقهاء المعاصرين ، لكن الصحيح أنه يجــــــوز إجـــراء الأبحاث والتجارب على الأجنــــة المجمــــدة، وإليه ذهب المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي ، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت بالأكثرية: فقد جاء في قرار المجمع بشأن الخلايا الجذعية في الدورة السابعة عشرة المنعقدة في( 19-23/10/1424هـ) الموافق( 13-17/12/2003م) : " يجوز الحصول على الخلايا الجذعية وتنميتها واستخدامها بهدف العلاج أو لإجراء الأبحاث العلمية المباحة , إذا كان مصدرها مباحاً , ومن ذلك - على سبيل المثال - المصادر الآتية: 5- اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب إذا وجدت وتبرع بها الوالدان مع التأكيد على أنه لا يجوز استخدامها في حمل غير مشروع ".
و جاء في توصيات ندوة (رؤية إسلامية لزراعة بعض الأعضاء البشرية) المنعقدة في (23-26) ربيع الأول( 1410هـ ) الموافق (23-26) أكتوبر( 1989م) مانصه: " على رأي الأكثرية (الذي خالفه البعض) من جواز إعدام البييضات الملقحة قبل انغراسها في الرحم بأي وسيلة، لا مانع من إجراء التجارب العلمية المشروعة عليها ".
لكن هذا الجواز له شروط ستة :
[1] أن تتفق هذه الأبحاث مع المقاصد العامة للشريعة، فلا يجوز إجراء التجارب التي يراد بها تغيير فطرة الله، أو استغلال العلم للشر والفساد.
[2] أن يكون المقصود من الأبحاث والتجارب تحقيق مصالح شرعية معتبرة لا تقل عن الحاجيات، ولا تنزل إلى مرتبة التحسينات، فلا يصح أن يكون الغرض من إجراء التجارب على الأجنة استخراج مستحضرات التجميل على سبيل المثال.
[3] عدم وجود البديل عن البويضات الملقحةلتحقيق المصالح المبتغاة بحيث يتعين إجراء التجارب عليها.
[4] عدم نقل اللقائح المستخدمة في البحث العلمي إلى الرحم.
[5] موافقة الزوجين موافقة صريحة.
[6] موافقة الجهـات المختصة، والقيام بالأبحاث تحت إشرافها للتحقق من توفر الشروط المتقدمة.
والأدلة على جواز إجراء التجارب بالشروط السابقة على البويضات الملقحة ما يلي:
[1] أن الأبحاث والتجارب على البويضات الملقحة لا تجرى على جنين ولا على إنسان، وإنما تجرى على مجموعة من الخلايا.
[2] أن هناك مصالح كثيرة مترتبة على إجراء الأبحاث والتجارب على البويضات الملقحة، وهذه المصالح تتمثل في تحقيق الإنجاب للزوجين، ومعرفة قدرة الحيوان المنوي على التلقيح، ومعرفة الأسباب التي تؤدي إلى علوق البويضة الملقحة في جدار الرحم أو عدمه، وغير ذلك من المصالح، والحياة الموجودة فيها مهدرة بالنسبة لهذه المصالح ؛ لأن الاحترام لها إنما يكون بعد نفخ الروح فيها.
[3] أن البويضات الملقحة الزائدة لا تخلو من أحد احتمالين:
(أ) أن تترك في أنبوب الاختبار لتنمو، ومآلها إلى التلف ؛ لأن أقصى مدة سجلت لنموها ستة عشر يوماً.
(ب) أن تحفظ بعد التبريد لإجراء الأبحاث والتجارب عليها.
وفي كلا الاحتمالين يستوي مصير البويضات الملقحة ؛ إذ أن مآلها إلى الموت، ولا شك أن الاحتمال الثاني أولى ؛ لما يترتب عليه من المصالح.
ونأتي الآن لبيان حكم آخر من أحكام التلقيح الصناعي وهو : حكم إتلاف الأجنة الزائدة عن الحاجة بعد نقلها إلى رحم المرأة :
حيث يلجأ الأطباء إلى نقل عدد زائد من البويضات الملقحة إلى الرحم لزيادة نسبة النجاح لعملية التلقيح الصناعي؛ إذ في كثير من الأحيان يرفض الرحم البويضة الملقحة، فبزيادة العدد إلى أربعة أجنة أو خمسة تزيد فرصة النجاح.
لكن يحدث أحياناً أن تعلق هذه الأجنة كلها وتنمو كلها، بحيث يصبح نموها جميعاً يهدد نجاح عملية التلقيح الصناعي على العكس من الغرض الذي وضعت من أجله، فيلجأ الأطباء إلى التخلص من عدد معين من هذه الأجنة والإبقاء على اثنين إلى ثلاثة منها؛ وذلك لأن وجود حمل متعدد يغلب عليه الانتهاء بالإسقاط، أو الولادة المبكرة، أو حدوث مضاعفات للأم أولاً، ثم للأجنة ثانياً،كما أن تخفيض العدد يحسن من فرصة نمو بقية الأجنة واستمرار الحمل.
ويتم تشخيص وجود هذا العدد الزائد من الأجنة بواسطة جهاز الفحص بالموجات فوق الصوتية، ويتم التشخيص ما بين الأسبوع الخامس إلى السادس.
ويتم تخفيض عدد الأجنة عن طريق حقن مادة كلور البوتاسيوم في التجويف الصدري للأجنة الزائدة عن طريق المهبل، بالاستعانة بجهاز الأشعة الصوتية المهبلية، مما يؤدي إلى توقف الأجنة الزائدة عن النمو دون أن تؤثر على باقي الأجنة.
وحكم إجهاض الأجنة الزائدة عن الحاجة بعد نقلها إلى رحم المرأة فينبني أولاً على المرحلة التي يتم فيها إجهاضها، وظاهر مما تقدم أن إجهاضها يكون قبل نفخ الروح فيها، والفقهاء- رحمهم الله - مختلفون في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين - أي قبل تمام أربعة أشهر -، فمن قال بالجواز سيقول هنا بالجواز من باب أولى ؛ لأن الحاجة للإجهاض هنا ظاهرة.
أما على القول بتحريم الإجهاض قبل نفخ الروح - ولو في مرحلة دون مرحلة - فالظاهر أنه من باب تحريم الوسائل، وأنه حرّم سداً للذريعة، وأن المقصود الرئيس هو منع الإجهاض بعد نفخ الروح، وما حرّم سداً للذريعة يباح عند الحاجة، ومن ثمّ أجاز عامة الفقهاء المعاصرين إجهاض الجنين المشوه لهذا المعنى، والحاجة هنا ظاهرة لإجهاض بعض الأجنة للحفاظ على الأم وعلى الأجنة الباقية فيجوز ، والله تعالى أعلم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.