مقاصد سورة الفرقان
أحمد الجوهري عبد الجواد
في سورة الفرقان ذكر الله تعالى أيضاً هذه القضية، ضياع عمل الكافرين وضلال سعيهم، فقال سبحانه وتعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، فكأن سورة النور وصفت أعمال الكافرين في الدنيا، هي خيال كالسراب أو ضلال كالظلمات، وحال أعمالهم في الآخرة أنها لا أثر لها أبداً {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، الهباء جمع هبابة، ما يقول عنه الناس الهبابة وتسمى هباءة وهي تلك الغبارة الصغيرة التي نراها في شعاع الشمس، من أراد أن يمسكها أو يمسك ببعض هذا الهباء لا يجد شيئاً في ديه، لا يشعر به ولا يحس به، فلا يقدرون على عملٍ من أعمالهم يوم القيامة، ولا يجدون له ثواباً نعوذ بالله.
وهكذا تترابط سور القرآن الكريم وتتواصل فيما بينها حتى وأنت تقرأ أو تسمع تشعر أن السورة كلها سورةٌ واحدة، وأن القرآن كما هو فعلاً حديثٌ واحدٌ لرب واحد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ليس فيه دَخَلٌ من كلام بشر ولا من كلام غيره، كله من كلام الله.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، ونعوذ به من علم لا ينفع، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
♦♦ ♦♦ ♦♦
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، من أراد أن تستضيء حياته وتنير حياته بنور الله تبارك وتعالى فعليه بالقرآن، املئوا حياتكم، املئوا قلوبكم وقلوب أولادكم، املئوا بيوتكم، اشغلوا أوقاتكم هنا وهناك بالقرآن الكريم، بهذا يتحقق لكم الفرقان، فمن عرف القرآن فقد ملك الفرقان وسار به في حياته، ومن حُرم القرآن قراءةً أو سماعاً أو حفظاً فقد حُرم الفرقان وتختلط عليه الأشياء وتشتبه عليه الأمور فلا يعرف إن كان على حقٍ أو إن كان على باطل، وكثيرٌ ما هم أولئك الذين جهلوا القرآن واستهانوا بالقرآن لا يلجئون إليه إلا إذا ظُلِموا راحوا يقرئون عدية يس لكي يقصم الله ظهر من فعل ذلك أو يخرِّب عليه بيته أو يُهلك ماله أو ما إلى ذلك، فما عرفوا القرآن إلا عند حاجتهم وعرفوه ليظلموا به الناس أو يعذبوا به الناس، مع أن الله قال {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، إذاً أنزلنا عليك القرآن لتسعد، أنزل الله القرآن رحمة، أنزل الله القرآن سعادة، ونحن نُشقي به الناس، لو قرأنا القرآن لعرفنا أن من ظلمنا سوف يعاقبه الله تعالى وينتقم منه، وأن ظلمه لنا إنما هو حسناتٌ ندَّخرها لأنفسنا عند الله أو نستقضيها يوماً من الأيام بإرادة الله سبحانه وتعالى، لعلمنا أن الأشياء التي تضيع منا لا تؤتى بعدية يس ولا يُكشف عنها غطاؤها بقراءة سورة يس وإنما علمنا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون، وأيقنا من خلال آيات القرآن أن الله تعالى يُخلف الأشياء بعد فواتها، أو يعوض غيرها وأحسن منها، القرآن ينير قلوبنا وينير عقولنا، ويعدِّل تفكيرنا ويجعلنا كما وصفنا القرآن أمةً وسطاً، وسطاً بين هذا الطرف وذاك الطرف لا نتطرف يميناً ولا شمالاً، لا نميل إلى شيءٍ دون شيء بدون حجة، إنما وسطٌ في كل شيء وسطٌ بين من أنكروا الألوهية وقالوا لا إله والحياة مادة كالشيوعية والعلمانية، وبين من يقول الآلهة كثيرة كالفراعنة والمشركين وغيرهم، إنما نقول هناك ألوهية ولكنها لإلهٍ واحد لا إله إلا الله، وهذا هو الاعتدال بين الطرفين، الذين قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء، والذين عظموا الأنبياء والرسل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، نحن أمةٌ وسط لا ننفي الرسالات ولا نكذِّب بالرسل، بل نثبتها ونؤمن بالرسل ونعلم أنهم صفوة الله من خلقه، ولكن لا نصعد بهم إلى مكان الإله ولا مكان ابن الإله، فليس لله ابناً ولا بنتاً ولا ولداً ولا والداً ولم يكن كفواً أحداً.
وهكذا لو تذكرت في كل شيء وتفكرت فيه وجدت الفرقان الذي علمنا الله إياه في القرآن وفي سنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم وسطاً بين الأطراف المتباعدة يمشي في سواء السبيل، وبذلك نضمن أننا في طريق السلامة لا ننحرف هنا ولا هناك ولا نميل إلى أحد، وإنما نعبد رباً واحداً فوقنا سبحانه وتعالى، ونمضي في طريقنا خلف قدوةٍ واحدة أمامنا هو رسولنا وإمامنا سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، دستورنا واحدٌ لا يتغير ولا يتبدل القرآن والسنة، قبلتنا واحدة البيت الحرام، شرائعنا ثابتة لا تتبدل ولا تتغير {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى.
بهذا نمضي في طريقٍ واسعٍ عن أيماننا وعن شمائلنا ونحن في وسطه ضامنين السلامة خلف إمامنا صلى الله عليه وسلم نضمن الوصول بإذن الله، تحت عين ربنا سبحانه وتعالى نضمن الرعاية والهداية، يراعانا الله بعينه ويهدينا بشرعه وحكمته سبحانه.
وبهذا نضمن الوصول إلى الجنة إن شاء الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، فاحرصوا على الفرقان، واقرئوا سورة الفرقان لتعلموا ماذا قال الكافرون عن نبيكم عليه الصلاة والسلام من كلام باطل، وماذا ضربوا له من الأمثال والأوصاف فضلوا بذلك ولا يستطيعون سبيلاً، ليعرفوا حقيقة ذلك الرجل العظيم الذي ليس في الأمة مثله، بل هو أفضل العالمين عليه الصلاة والسلام.
تعلَّموا ماذا قال الكافرون عن القرآن من كلامٍ لا يُصدق، {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} فلماذا لا تفترون أنتم مثله ولو سورةٌ واحدة؟ حاجهم الله بالحجة وأعجزهم بالبينة فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء ولا يستطيعون هم ولا أربابهم وآلهتهم {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.
ربنا هذا قولنا وعليك هدايتنا وتثبيتنا، ومنك التوفق والهداية يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعل كلامنا وسمعنا ومجلسنا في ميزان حسناتنا نافعاً لنا غير ضار، اللهم اجعله في ميزان حسناتنا، واجعنا به في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اجعلنا من عبادك عباد الرحمن الذين أثنيت عليهم في سورة الفرقان، اللهم إنا نسألك أن ترضى عنا وترضينا عنك يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، واجعلنا من أهله الذين هم أهل الله وخاصته، اللهم وفقنا يا ربنا لاحترام أهل القرآن، ولتقدير أهل العلم والقرآن، إنك أنت الرحمن الرحيم، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، نسألك القبول منا والمغفرة لنا والرضى عنا يا رب العالمين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم... وأقم الصلاة.
[1] سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبيء صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.. الحديث .
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا، والمؤدبون من أهل تونس يسمونها ( تبارك الفرقان ) كما يسمون ( سورة الملك ) تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها ( سورة الفرقان ) لوقوع لفظ الفرقان فيها، ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها. أهـ التحرير والتنوير (19/313).
[2] انظر: لسان العرب (10/ 395).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 92).
[4] أخرجه أحمد (501)، وأبو داود (786)، والترمذي (3086)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (2/330)، وسبق الكلام حول ضعفه، وانظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي: (1/62 ـ 65).
[5] انظر: لسان العرب (10/ 299).
[6] انظر: لسان العرب (10/ 491).
[7] أخرجه مسلم (1305).
[8] أخرجه البخاري (5579)، ومسلم (4169).
[9] أخرجه البخاري (3283)، ومسلم (2766).
[10] أخرجه البخاري (2315).