فتى من قريش
(قصة إسلامية للأطفال)
سيد مبارك
خالد يكتم إيمانه:
مر على هذا الموقف وقت طويل، وظل "خالد" خلالها يكتم إيمانه؛ فقد كان يرى الكثير من المسلمين يعذبون من المشركين، بسبب إيمانهم بالله، وكفرهم بالأصنام، فخاف على أبيه وأمه أن يظهر عليه شيء فيؤذيهما بسببه.
وكان يتابع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما سمع من الناس بوجوده في مكان يسرع ليراه ويسمعه، ولم يشك فيه أحد لصغر سنه، وفي مرة من المرات التي كان يسمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم وينظر إليه ويملي عينه منه حبًّا وإجلالًا له، حدث ما لم يكن في الحسبان.
دس رجلٌ بجواره رقعة من الجلد في يده، فنظر إليه، فإذا به يبتسم له ويقول: وضعت في يديك رقعة فيها كلامٌ لا تقرأه إلا في مكان لا يراك فيه أحد.
قال خالد متعجبًا: ولماذا أنا؟
ابتسم الرجل وهمس في أذنيه وقال: انظر في عيون الناس تدرك السر.
نظر خالد في وجوه الناس يتأمل عيونهم ثم قال للرجل: لا أفهم ماذا تعني! وما علاقة الرقعة بما في عيون الناس؟ وماذا كتبت فيها؟
ابتسم الرجل وقال: رويدك يا فتى، هل تخبرني باسمك؟!
قال خالد: اسمي خالد بن قيس.
ابتسم مشجعًا وقال: شرفني التعرف بك يا خالد، ثم همس في أذنيه مرة ثانية حتى لا يسمعه أحد وقال:
أترى كيف ينظرون لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يخبرهم بأمر ربه نظرات مختلفة ما بين التهكم والسخرية والشك والريبة مما يقول؟
أومأ خالد برأسه موافقًا على كلام الرجل الذي أردف وقال له هامسًا:
أما أنت فقد رأيت في عينيك نظرة مختلفة، لا يعرفها إلا من جربها وأدرك مغزاها ومعناها!
قال خالد مستغربًا في حدة: أي نظرة رأيتها في عيني؟
قال الرجل وهو يلتفت خشية أن يكون هناك من يتابع حديثهما، ثم قال: إنها نظرة محب، إنك تنظر لمحمد بحب، وهذا لا يكون إلا من قلب صادق يبحث عن الحق واليقين.
هذا ما يميزك عن الناس، وبالمناسبة أسمى "وليد"، ومن أتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، تذكرني، ومن يدري لعلنا نلتقي مرة ثانية في ظروف أفضل إن شاء الله تعالى.
ثم ضغط على يديه وفيها الرقعة وقال له: ضعها في جيب قميصك، واحرص عليها بحياتك، وانصرف وسط الحشود العائدة حتى غاب عن بصره، ودس "خالد" الرقعة في جيب قميصه، وأسرع إلى البيت وكله شوق لمعرفة ما فيها.
خالد والإله المزعوم:
دخل "خالد "منزله فوجد أباه يركع على ركبته يبتهل ويتضرع لربه، ولما شعر بوجوده دعاه.
تعال يا خالد، اجلس هنا بجواري، واركع على ركبتيك، فلما فعل ذلك وضع يديه على كتفه في حنان أبوي وقال:
اسمع يا بني، عندما ولدتك أمك أقسمت للآلهة أن تكون مميزًا، وأعظم رجال قريش، ومن يدافع عنها ويكرمها، وأنت أهل لذلك، فلا تخيِّب أملي يا خالد!
ثم نظر لصنمه وقال: انظر يا بني لهذا الإله الذي صنعته لك ولولدتك كي نعبده؛ فهو ولي نعمتنا، وله علينا السمع والطاعة، هل تفهم ما أقوله؟!
قال خالد في شك: نعم أفهم.
قال أبوه: أحسنت يا بني، وأراد أبوه أن يقول شيئًا لولا أن صوتًا خارج البيت ينادي عليه: هل من أحد في المنزل؟ يا "قيس بن رباح" هل تخرج على الفور بالله عليك؟
قال قيس لابنه خالد: نكمل حديثنا فيما بعد، يبدو أن هناك من يريدنا، لعله يريد شراء سيف، ثم ابتسم لخالد مشجعًا وقال:
والآن أتركك في خلوتك مع إلهك، فهناك عمل أريد أن أنتهي منه، وحاول أن تتضرع إليه يا ولدي؛ فهو يستجيب ويعرف ما تقول، وهو قادر على كل شيء!
أومأ خالد برأسه، فانصرف أبوه راضيًا، وجلس خالد يتأمل الصنم، وتحسسه ثم قال:
إلهي، أنا عبدك الضعيف خالد، أتسمعني؟!
إلهي، أنا أشجع فتيان قبيلتي وأتفاخر بذلك، ولكن قلبي حزين، أتعلم ما في قلبي؟ وهل ترى كم أنا حزين؟!
إلهي أنا أكلمك، وأحتاج كلمة حكمتك، فهل تخبرني ما يجب أن أفعله، فلست راضيًا عن حياتي في اللعب واللهو؟!
توقف خالد عن مناجاة الصنم، وأخذ ينظر إليه، فإذا به صامت، فقال: عجبًا! كيف نعبد إلهًا من الحجَر لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى، متى ينفعني وكيف يضرني؟!
إنه الآن يدرك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه نبي من عند الله تعالى، الذي يحذرنا عذابه وقوته، وأدرك بذكائه وسلامة فطرته أن هذه الآلهة المزعومة التي يصنعها الرجال بأيديهم ليست سوى حجارة، فكيف يعبدها من يصنعها ويكسرها ويعيد تركيبها في أشكال مختلفة كما يحلو له ثم يعبدها لقوتها؟ فقال متعجبًا: أي قوة تملكها هذه الحجارة الصماء؟!
ثم تذكر الرقعة التي أعطاها إياه الرجل، وتذكر نصيحته، لا تجعل أحدًا يراك وأنت تقرؤها.
فنظر عن يمينه وشماله، فلما أحس أنه في خلوة أخرج الرقعة بيد مرتعشة ونظر فيها وقرأ..
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].
ثم نظر "خالد" للصنم وقال في تهكُّم:
أيها الإله، هذا رب محمد يدعوني لعبادته وحده، وأرى كلامه، وأرسل لي رسوله؛ ليحذرنا من عبادة غيره، فماذا عنك؟
أين كلامك خلال هذه السنين؟ وماذا تطلب مني؟ ولماذا نعبدك ونعبد غيرك من الآلهة؟ لماذا لا تغضب؟ ومن الذي خلقني، أنت أم هم؟!
وأين رسولك؟ لا عجب أنك حجر أصم، لا تسمع ولا تنفع.
ثم خطرت على باله فكرة خطيرة، قد تكون سببًا في إثارة غضب أبيه وعقابه الشديد له، ولكنه بعد التفكير لم يبالِ؛ لأنه يريد أن يبين لأبيه وأمه حقيقة هذه الآلهة المزعومة، فماذا فعل؟
• • •
تحطيم الصنم:
عندما خرج "قيس بن رباح " ينظر من ينادي عليه، رأى رجلاً من قبيلته غاضبًا وهو يقول:
يا قيس بن رباح، يا ملك صناعة السيوف، أريد أن أبتاع منك سيفًا حاميًا يقطع الرقاب بضربة واحدة، ولك ما شئت من مال.
قال قيس للرجل: رويدك يا أخي! فإنك غاضب، والغضب لا يؤدي إلى خير، وأخبرني ما الأمر؟ ولماذا تحتاج لمثل هذا السيف؟
قال الرجل: ويحك يا قيس! هذا عيبك، تنشغل دائمًا عما يحيط بك، ألم تسمع ما حدث وقريش كلها قد انقلبت على رأس أبيها؟
قال "قيس" جزعًا: بحق الإله "هبل"، ما الخبر يا رجل؟
قال الرجل: ألم تسمع أن محمد بن عبدالمطلب قد سب آلهتنا، ويدعي أنه مبعوث من إله واحد، وقد وقف على جبل الصفا يهدد ويتوعد القبائل بعذاب أليم.
قال "قيس": بل سمعت وأخبرني الناس، ولم أحضر لانشغالي في عملي و...
قاطعه الرجل قائلًا: والله، إن زوجتي وابني يسألونني عن آلهتنا في شك وريب، وكدت أن أقتلهما، ثم استطرد:
والله يا قيس، من الخطأ أن نترك هذا الرجل يفسد علينا رجالنا وأبناءنا ونساءنا، أعطني سيفًا؛ فقد طفح الكيل.
قال له قيس: خذ ما شئت، ولكن لا تفعل شيئًا تندم عليه، وكن عاقلاً، ولا تظن أن علية القوم من قريش سيتركونه حرًّا طليقًا يقول ما شاء، فانتظر ولا تتعجل، ودَعْ أمره لغيرك؛ فالحكمة مطلوبة، ومعالجة هذه المسألة لا تكون بالغضب والحمية، بل بالصبر والحكمة، حتى لا تكبر وتصير طامة كبرى لا قبل لنا بها، اقتنع الرجل وسكن غضبه لكلمات قيس، وانصرف لا يلوي عن شيء.
• • •
عاد قيس إلى داخل الدار حيث ترك خالدًا وهو يضرب كفًّا بكف، والله إن محمدًا قد بالغ في الأمر، وجهر بدعوته بعد أن كانت سرًّا يتناقلها الناس وهم يضحكون، والآن فتح على نفسه بابًا لن يغلق، وغضبًا لن يسكن حتى ينتهي أمره وأمر من تبعه.
ثم وقف مصدومًا وكاد قلبه أن يتوقف من هول ما رأى.
الإله الذي صنعه مقطوع الرأس.
مَن الذي فعل ذلك؟ ورب الكعبة لأقتلنه جزاء ما فعل!
ونظر حوله، ويا للكارثة الكبرى، ابنه "خالد" يجلس بجانب البيت وفي يده دليل إدانته: رأس الإله.
قال قيس لابنه خالد: ويحكَ ما صنعت ولماذا؟
تمالك خالد نفسه، وكان يدرك أن أباه حكيم وعاقل، ولكن لا بد من أن يسكن غضبه؛ لأنه يجعل صاحبه بلا عقل، ويتملكه الشيطان، فيفعل ما يمليه عليه من جرم بعد أن يزينه له.
فقال بهدوء ومبتسمًا: رويدك يا أبي، والله إني وجدت الحق، ووجدت نفسي فيما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إنه يدعونا لرب حي قيوم قادر لا يستطيع أن يؤذيه أحد.
ثم قال وهو يمسك بيد رأس الصنم الذي قطع رأسه ويشير إليه بيده الأخرى وهو يقول: انظر يا أبي، إنه لا يستطيع أن يحمي نفسه، فكيف يحمينا نحن؟!
إنه صنم من أحجار، لا ينفع ولا يضر، صنعته بيديك، وهو أحق أن يعبدك أنت؛ لأنك أوجدتَه!
قال قيس وقد جن جنونه: ويحك يا فتى! أمسك لسانك، واحذر مما تقول!
تتكلم عن الحق، أي حق وقد خنت حبي لك وثقتي بك، وامتهنت حرمة الإله، وكسرت رأسه، ثم تحدثني عن الحق؟ ألم أحذرك أن تستمع "لمحمد" هذا الساحر الداعي؟ تبًّا لك، أعصيت أمري ولم تبالِ بي وبشرفي وعملي عندما يدرك الناس أنك كفرت بإلهك، أيها الابن العاق الجاحد.
ثم أخذ ينادي على أمه: يا أم خالد، أسرعي قبل أن أقتل ابنك، جاءت الأم مسرعة وقد أصابها الفزع وقالت: ماذا حدث؟ أشار قيس للصنم المقطوع الرأس، ثم أشار إلى خالد وهو يحمل الرأس، فأدركت الأمر برمته وقالت: هلكنا ورب الكعبة، ماذا فعلت يا ولدي؟
قال الأب في غضب عارم:
وأنا الذي أقسمت بأن يكون عبدًا مخلصًا للآلهة، يدافع عنها ويحميها، فإذا به يمتهنها ويحتقرها، والله لأجعلنه يندم على فعلته تلك.
ثم أمسك بابنه في قسوة، وأوثق يديه وقدميه وهو يكاد ينفجر من الغيظ والحنق وقال:
حسنًا، سوف انظر في أمرك، وبحق "هبل" لن ترى مني خيرًا أبدًا، ونظر لزوجته وقال لها بغلظة: إياك أن تأخذك به شفقة حتى أعود، وبحق الإله سوف أذهب لمحمد الذي فرق بيني وبين ابني لأنال منه وأقتله بنفسي؛ فهذا وحده يشفي غليلي، ويرضي إلهي.
وحذرها من فك وثاقه مهما كان حاله؛ فهو لا يستحق عطفنا ورحمتنا بعد اليوم.
أومأت الأم المكلومة بابنها وفعلته الشنعاء برأسها، وقالت بحسرة: سأفعل، ولكن تذكر أنه ابننا الوحيد، ولعله مس أصابه في عقله، ففعل فعلته تلك دون وعي، وسيعود إلى رشده ولو بعد حين، قالتها وقلبها يكاد يتوقف حزنًا وخوفًا عليه من غضب زوجها، فجلست على الأرض وقد خارت قواها.
يتبع