عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21-10-2020, 01:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي اللغة العربية وتحديات الازدواجية اللغوية ( الواقع والحلول )

اللغة العربية وتحديات الازدواجية اللغوية ( الواقع والحلول )



د. بن يحيى الطاهر ناعوس


(الواقع والحلول)



توطئة: اللغة صورة وجود الأمَّة:
بداية فإن واقعَ أية أمَّة من الأمم يعكس واقع لغتها قوة وضعفًا، ونهضة وسقوطًا، ومدًّا وجَزرًا، فإذا كانت الحياة العقلية والفكرية والثقافية للأمَّة في مسار النهوض والتصاعد والرُّقِي، كانت اللغة على قدرِ ذلك؛ نهوضًا ورُقيًّا واتساعًا وخصوبة، ومما هو معلوم بالضرورة لدى كلِّ غَيُور على أمَّته، والحريص عليها من كلِّ زيغ وتيهان: أن "للغة قيمةً جوهرية كبرى في حياة كلِّ أمَّة؛ فإنها الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقُلُ المفاهيم، فتُقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمَّة الواحدة، وبها يتم التقارُبُ والتشابُهُ والانسجام بينهم"[1].


ومن هنا، فإن الأفكار والعواطف لا تنفصم عن القوالب اللغوية التي توضَع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف؛ ولهذا فإن اللغة هي الترسانة الثقافية والمعرفية التي تبني الأمَّة وتحمي كيانها، وهي التي تجعل من "الأمَّة الناطقة بها كلاًّ متراصًّا خاضعًا لقوانين، إنها الرَّابطة الحقيقية بين عالَم الأجسام وعالم الأذهان"[2].


ولهذا إذا نظرنا إلى أعمال الثورة الفرنسية نجد عجبًا؛ فقد كرَّست مبادئ الاهتمام بالدِّين واللغة القومية، وفي هذا يقول أحد الرهبان الفرنسيين: "إن مبدأ المساواة الذي أقرَّته الثورة يقضي بفتح أبواب التوظُّف أمام جميع المواطنين، ولكنَّ تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا يُحسِنون اللغة القومية يؤدِّي إلى محاذيرَ كبيرة، وأما ترك هؤلاء خارج ميادين الحُكم والإدارة فيخالف مبدأ المساواة، فيترتب على الثورة - والحالة هذه - أن تُعالَج هذه المشكلة معالجةً جدية؛ وذلك بمحاربةِ اللهجاتِ المحلية، ونشرِ اللغة الفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين"[3].


وهذا يدفعنا للقول بأن اللغة القومية "وطن روحي يؤوي من حُرِمَ وطنَه على الأرض"، كما يقول فوسلر، بل إن اللغة "مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمَّة، كيفما قلَّبت أمرَ اللغة - من حيث اتصالها بتاريخ الأمَّة واتصال الأمَّة بها - وجدتها الصفةَ الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية، وانسلاخ الأمَّة من تاريخها"[4].


وعلى ما سبق، فإن اللغةَ هي الأداة المعبِّرة عن منجَزات العقل وإبداعاته، وعن نمو الثقافة وامتداداتها، وهي وعاء الحضارة، ومِرآة القِيَم ودليل الحياة، وهذا ما فهِمته الشعوب الأوروبية؛ فاعتنت بلُغَتها، وجعلتها وسيلتَها لفتح الشعوب وقهرِها ثقافيًّا، وغزوها فكريًّا، وكسب مودتها وولائها وتقليدها في أنماط حياتها ومعايشها.


وهذا ما تجاهلته أمتُنا العربية والإسلامية في أوضاعها الراهنة، فلم تجعل لُغتَها وسيلة للتلاقح الحضاري والتواصل الاجتماعي، ومظهرًا لعزَّتِها وقوتها وكرامتها، ولعل هذا ما جعَل لغة القرآن الكريم تُعاني المهانةَ والإعراض والاحتقار، لا من قِبَل أعدائها فحسب، بل الأدهى والأمر، أنها تعاني ذلك من قِبَل أبنائها كذلك، فكم هي مهمَّشة على مستوى الإدارات والمؤسسات، وكم هي مُبعَدة على مستوى الجامعات والكليات، وكم هي مُهمَلة على مستوى الأقسام والتخصصات، وكم هي منسيَّة على مستوى الوظائف والتعيينات.


وفي سبيل التقرُّب من واقع اللغة العربية عند الناطقين بها وبغيرها وتحديات الازدواجية اللغوية، تُطرَح هذه الورقة التي ترصد واقع اللغة العربية في الأنظمة التعليمية العربية والإفريقية، وواقع اللغات الأجنبية في أروقة البحث العلمي العربي والإفريقي في القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.

هذا التتبع يرمي إلى رسم المنحنى التطوري لحركة اللغة العربية في عالَم المعرفة العربي الحديث والمعاصر، من خلال ما قدَّمَت من دراسات عِلمية على مستوى عالَمي، أو نشَرَت من كتب، أو عقَدَت من مؤتمرات.

وتتلخص أهدافُ الورقة بعد أن تشخِّص الداء اللغوي الذي يستشري في بلادنا العربية وذكر أسبابه - في تبيين الدواء الناجع الذي "هو في حوزة أصحاب القرار، إنه يتلخَّص في تبنِّي سياسات تعليمية وإعلامية وثقافية جديدة، تعيد الأمورَ إلى نصابها الطبيعي؛ أي استعمال العربية في جميع مجالات الحياة في بلادنا المسماة بالعربية؛ وذلك باتخاذ القرارات الملزمة.. بنيَّة صادقة"[5]، ومن هنا، الوقوف على أهمِّ الإجراءات التنفيذية لرفع مستوى اللغة العربية في موطنها، وفي العالم.

اللغة العربية وتحديات الازدواجية (العالم العربي):
بداية فإن الحديثَ عن اللغة العربية في العالم يذكِّرني بما صرح به ديغول في مذكراته - بُعَيد استقلال الجزائر - قائلاً: "وهل يعني أننا إذا تركناهم يحكُمُون أنفسهم يترتب التخلِّي عنهم بعيدًا عن أعيننا وقلوبنا، قطعًا لا، فالواجب يقتضي منا مساعدتهم؛ لأنهم يتكلَّمون لغتنا، ويتقاسمون معنا ثقافتنا"[6]، ضمنيًّا نلمس من قول ديغول رغبتَه في تكريس الهيمنة الثقافية في مشروع الاستعماري الجديد، كونه يسعى إلى" أن تبقى الجزائر فرنسية من عدةِ أوجه، وتحافظ على الطابع الذي أُكسِبَتْه"[7].

ويعود سبب هذا الحقد - في تقديري - إلى أن اللغة العربية شهدت خلال تاريخها فترات من الازدهار والانتشار، تخطَّت فيها حدود مجالها العربي إلى آفاق ومناطق واسعة، وذلك في عددٍ غير قليل من البلدان خارج "نطاق العربية، وخاصة في بلدان القارة الإفريقية، وقد تمتعت اللغة العربية بوَضْع ومكانة متميزة على الخريطة اللغوية لإفريقيا؛ حيث استقرت العربية في غالبية أنحاء إفريقيا منذ وقت طويل، يسبق دخول أي لغة من اللغات الأوربية إلى إفريقيا، وتحدث بها عددٌ كبير من الأفارقة، وانتشرت بينهم انتشارًا كبيرًا، وقد ترسَّخت هذه المكانة بشكل خاص في غالبية دول شرق إفريقيا وغربها، بينما تتراجع هذه المكانة تدريجيًّا كلما اتجهنا صوب وسط القارة وجنوبها"[8].

وفي هذا الانتشار الواسع للغة العربية قد كان للإسلام الدورُ الأبرز؛ حيث سارت العربية مع الإسلام جنبًا إلى جنب، وحلَّقت معه أينما حل، وحيثما ارتحل؛ فاستُخدِمت العربيةُ في أداء العبادات والشعائر الدينية لمن يعتنق الإسلام، وازداد إقبال معتنقي الإسلامِ على تعلُّمها؛ رغبةً في التعمُّق في الدِّين، عن طريق الرجوع لمصادره الأساسية عبر قراءة ومدارسة مصنَّفات الفقه والحديث والتفسير وغيرها من العلوم الشرعيَّة، وقد أدَّى هذا الارتباط الوثيق بين اعتناق الإسلام وتعلُّم العربية إلى أنه جعَل للعربية درجةً من الانتشار في كل المناطق التي تضم جماعات مسلمة، كما كان للهِجرات العربية لإفريقيا دورٌ في نشرِ اللغة العربية، كذلك كان للتجَّار وللطُّرق الصوفية وللدعاة وللمعلمين جهودٌ صادقة في نشر الإسلام واللغة العربية في إفريقيا؛ وذلك عن طريق السُّلوك القويم، والقدوة الحسنة، والدعوة الصادقة، والتعليم؛ حيث قاموا بإنشاء المساجد، وفتح المدارس في كثير من البقاع، كما أنهم صاهَروا أهل البلاد واندمجوا فيهم.

إلا أن هذا الرقي الباهر جاء بعده تضعضعٌ للغة العربية وانحدار ليس عائدًا إلى عينِ اللغة، بل إلى المنتسبين إليها، مما جعلها تتقلَّص وتهان حتى في عقر دارها، ولله درُّ حافظ إبراهيم إذ يقول على لسان اللغة العربية:
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتهمتُحَصاتِي
ونادَيْتُ قَوْمِي فاحتَسَبْتُحياتِي

رَمَوْني بعُقمٍ في الشبابِوليتَني
عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِعداتي

وَلَدتُ ولَمَّا لَم أجِدْلعرائسي
رِجالاً وأَكْفاءً وَأَدْتُبناتِي

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِآلةٍ
وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البَحرُ في أحشائِه الدُّرُّكامنٌ
فهل ساءلوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي

فيا وَيْحَكُم أبلى وتَبلىمَحاسِني
ومنكُمْ وإنْ عَزَّ الدواءُأُساتِي

فلا تَكِلُوني للزمانِفإنني
أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي

أرى لرِجالِ الغَربِ عِزًّا ومَنعَةً
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ

أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِتَفَنُّنًا
فيا ليتَكُمْ تأتونَبالكلِمَاتِ

أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِناعِبٌ
يُنادي بِوَأْدي في رَبيعِحَياتي[9]



إن هذا القصورَ الشَّنيع في استعمال اللغة العربية في واقع الناطقين بها يدفعنا لمعرفة مختلف الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية التي أدَّتْ إليه، ونبدأ بـ:
1. قلب موازين القيم:
عاشت اللغةُ العربية - كما أسلفنا - قرونًا من الازدهار والرُّقيِّ؛ لأنها عاشت في قمةِ هرم القِيَم في ميزان الناطقين بها، ولما تغيَّرت الأمور وأصبحت اللغةُ العربية في أدنى المراتب، فإننا "لا نكون منطقيين مع أنفسِنا، وواقعيين مع التاريخ، أن ننتظرَ الازدهار والسيادة للغةِ العربية في وطنها، ونحن وضَعْناها في المرتبة الأخيرة من اهتماماتنا الوطنية والقومية، فنجد مَن يعتبر اللغة - قومية أو غير قومية - مجردَ وسيلة للتفاهم، وإذا حصل التفاهمُ والتعلُّم بين الأفراد بغيرها فقد ثبَت المطلوبُ في نظرهم، وبالتالي يكون من قِبَل "التعصب" المطالبةُ القومية بأن تكون لغة التفاهم بين أفراد المجتمع العربي، وكذلك لغة التعليم بجميع مراحله وتخصصاته هي العربية "[10].


وهذا كلُّه وغيرُه جعَل استعمال اللغات الأجنبية يسير وَفْق هذه القاعدة، كما انطبق أيضًا على استعمال اللهجات الدارجة العربية التي أصبحت تنشر بها الخُطَب الرَّسْمية في بعض الأقطار المشرقية على الخصوص، "مما جعَل الطلاب الأجانب الذين يؤمُّون أقطارنا لدراسة اللغة العربية يُصدَمون بواقع مخجِل، حيث لا يكادون يجدون أثرًا لِلُغة الضاد في الواقع، فينكبُّون على تعلُّم اللهجة المحلية لهذا البلد العربي أو ذاك؛ لكي يفهموا ما يقال في الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، فضلاً عن التفاهم مع أفراد المجتمع الذين يفضِّلون استعمال اللهجات العامِّية إذا تعذَّر عليهم مخاطبةُ الأجنبي بلُغَته الأصلية في بلدانهم، وأبرز مثال على ذلك ما نجده في السوق من تداول للقواميس المُعدَّة باللهجات المحلية مع لغة أو لغات أجنبية؛ (فنجد مثلاً قاموسًا فرنسيًّا تونسيًّا، أو إنجليزيًّا مصريًّا، أو إسبانيًّا مغربيًّا، أو فرنسيًّا جزائريًّا)"[11].


ونتج عما سبق، أننا أصبَحْنا لا نجدُ للفصحى أثرًا في الوقت الحاضر، إلا في أوراق الامتحان الكتابي والكتب المقررة! ونحن الآن إذا وجَدْنا مبررًا للأُمِّيِّين العرب الذين يتحدثون باللهجاتِ المحلية، فكيف نجدُ للجامعيين العرب - طلابًا وأساتذةً - وللمثقفين العرب، في احتقار الفصحى، أو التهوين من قيمة التحدُّث بها - على الأقل - في الحرَم الجامعي، وفي منابر العلم المختلفة، بل أصبح عند بعض المثقفين: أن من علامات الرقي الحديثَ باللغات الأجنبية، مما جعل عامَّة الناس يفرون نحوَ تعلم هذه اللغات في المراكز الثقافية التابعة لبلادها، المنتشرة في العواصم العربية، وما نلاحِظُه في واقعنا الثقافي المعيش يُغنِي عن الحديث...، فكيف ينتظر العربُ أن تنتشر لغتهم في العالَم، وتكون لها قيمة عِلمية وعملية تذكر، وهم يحتقرونها في بلدانهم، ويفضِّلون عليها اللهجاتِ المحلية، ويفرِضون تعلُّم هذه اللهجات المحلية على الأجانب القادمين إلى بُلداننا لدراسة لغتِنا القومية؟!




وللموضوع تتمة




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]