الفرار (2)
د. خاطر الشافعي
استجمع الرجل قُواه الخائرة مِن همِّ الحاضر، واستحضر معنى الفرار، واعترَت مُحيَّاه ابتسامة أمل وهو يستشعر جمال فراره؛ فما يَعرفه أن المرء يفرُّ من وليس إلى؛ فالكلمة مُرتبِطة في وجدانه بالخوف والهلَع، وهو يتذكَّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفرَّ من المجذوم كما تفرُّ مِن الأسد))[1]، وقارَن بين فرار المذعور هربًا من براثن مرض أو مَخالب أسد، وبين فراره من جحيم المعاصي وجبال الذنوب؛ وسأَل نفسه: أيهما أولى بالحرص عليه: الدنيا أم الآخرة؟! وإذا كان الفرار من المجذوم أو الأسد حرصًا على الحياة، فكيف لا يفرُّ إلى الله حرصًا على الآخرة؟!
إذًا ما أجمله من قرار؛ قرار الفرار إلى الله!
"هل تظن الفرار إلى الله سهلاً؟!"؛ و"هل كل فارٍّ يَصِل؟!" هكذا دارت الأسئلة في خلده؛ فهو يُدرِك أن هناك من الشياطين جنسًا يَتراءى للناس، ويتغوَّل لهم تغولاً[2]، ليُضلَّهم عن الطريق ويُهلكهم، فشمَّر الرجل عن ساعديه، وتوضَّأ، فهو يؤمن أن طريق الطاعة مليء بالأشواك، وأن النار محفوفة بالشهوات، وتذكَّر قول الحق - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الأحزاب: 16]؛ جاء في تفسير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الأحزاب: 16] يقول تعالى ذِكرُه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يَستأذنوك في الانصراف عنك، ويقولون: ﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾: ﴿ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ﴾ يقول: لأنَّ ذلك أو ما كتب الله منهما، واصلٌ إليكم بكل حال، كرهتُم أو أحببتم، ﴿ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾، يقول: وإذا فررتُم من الموت أو القتل لم يزد فرارُكم ذلك في أعماركم وآجالكم، بل إنما تمتَّعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، ثم يأتيكم ما كتب لكم وعليكم، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكر من قال ذلك:
• حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثَنا سعيد، عن قتادة: ﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 16]، وإنما الدنيا كلها قليل.
• حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رَزين، عن ربيع بن خيثم: ﴿ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ قال: إلى آجالهم.
• حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبدالرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، عن ربيع بن خيثم: ﴿ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ قال: ما بينهم وبين الأجل.
• حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبدالرحمن قالا: ثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش، عن أبي رَزين، عن الربيع بن خيثم مثله، إلا أنه قال: ما بينهم وبين آجالهم.
• حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي رزين، أنه قال في هذه الآية: ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا ﴾ [التوبة: 82]، قال: ليَضحكوا في الدنيا قليلاً، وليبكوا في النار كثيرًا، وقال في هذه الآية: ﴿ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 16] قال: إلى آجالهم، أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خيثم.
• حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خيثم: ﴿ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 16] قال: الأجل، ورُفِع قوله: ﴿ تُمَتَّعُونَ ﴾ ولم يُنصَب بـ: "إِذًا"؛ للواو التي معها؛ وذلك أنه إذا كان قبلها واو، كان معنى "إذًا" التأخير بعد الفعل، كأنه قيل: ولو فروا لا يُمتَّعون إلا قليلاً إذًا، وقد يُنصَب بها أحيانًا، وإن كان معها واو; لأن الفعل متروك، فكأنها لأول الكلام.
"إذًا، الرحلة ليسَت سهلة، ولا بد من استيعاب معنى الفرار ومغزاه، مدلوله ومعوقاته، سبله ومغزاه"، هكذا تُحادث الرجلَ نفسُه المهمومة، وهو يَغوص في تفسير الفرار، ويدوس جمر الواقع بما يختزن من مفهومٍ لجدوى مقاومة العجز والتقصير، ويُقاوم بكل ما يمتلك من قوة إيمانية محاولات تغريبه عن دينه، وقيمه ومبادئه، وهو يرى مخالب القهر تنهَش فيها بلا هوادة ولا رحمة، ومن دون وازع من ضمير أو دين، وهو يقارن ما هو كائن بما هو مُفترَض أن يكون!
ترى ماذا سيَفعل وقد أخذ قراره بالفرار؟!
[1] - صحيح البخاري في الطب 5707.
[2] - يتلوَّن لهم تلوُّنًا.