شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (77)
صـــــ(11) إلى صــ(20)
[حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة]
قوله: [أو ترك منها تشديدة].
في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (رب)، (الرحمن)، (الرحيم)، (الدين)، (إياك)، (وإياك)، (الصراط)، (الذين)، (الضالين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (رب) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرف واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفا من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمره الله، وإنما يعتد بقراءة وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يخل بالألفاظ إخلالا يخرجها عن المعنى،
كأن يضم التاء من: (أنعمت)،
أو يكسرها: (أنعمت)، فإنه حينئذ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحنا يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذورا، أما إذا كان معذورا فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.ومن ذلك أيضا الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى
كما لو قال: (أهدنا)،
فإنه غير قوله: (اهدنا)،
وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمت)،
فإنه حين يقول: (أنعمت) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغ لله عز وجل.فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يذهب به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذورا كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم.
قوله: [أو حرفا].وهكذا لو ترك حرفا،
كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفا،
أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمت)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.قوله: [أو ترتيبا].
أي: لم يرتب آياتها، فذكر آية قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف.
وقوله: [لزم غير مأموم إعادتها].أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم،
ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناء على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم،
فقال: (لزم غير مأموم إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحد من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفا، أو تشديدة أو لحن لحنا يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.
[قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم]
قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية].
التأمين معناه: (اللهم استجب)،
فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شرع التأمين جهرة لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به،
ولذلك قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له،
فيقال: أصبح،
أي: كاد أن يصبح،
ومنه قوله: أصبحت أصبحت،
أي: كدت أن تصبح،
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذ: (إذا أمن فأمنوا)،
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)،
وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين،
ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر،
لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمى قولا، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.كذلك أيضا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.فالسنة أن يرفع الصوت،
وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.
[قراءة سورة بعد الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه،
والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه،
فقيل: سميت سورة لارتفاعها وعلو شأنها،
وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحال أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة،
وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه.
فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورة كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملة، وجزأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة،
ففي فريضة الفجر قرأ: {قولوا آمنا} [البقرة:136]، و: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.وكذلك أيضا ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضا ولا يقتصر على سورة واحدة،
فقد ثبت في الحديث أن رجلا كان يقرأ ثم يختم بـ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة،
فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور،
وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة.
فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورة كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات
[القراءة في الصبح بطوال المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل].
أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذ من فصل الشيء،
قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يحال بينهما بحائل.
قالوا: وصفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن.
والوجه الثاني: سمي المفصل مفصلا لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع.
والوجه الثالث: سمي المفصل مفصلا من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة.وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل.والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق).ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره،
فيقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل.فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل.
فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه،
ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة،
قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة.
وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين،
وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طول في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرج على الناس وأذية بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريض وأراد أن يخفف فهي السنة؛
لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)،
وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطول فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس.وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفق يحسن النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خطاب للأمة.وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجودة تعطى فيها الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالة أن يحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيدا عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضا لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءة مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته.فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضا، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولاية في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة.
[القراءة في المغرب بقصار المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره].
أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل،
وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمام كان يصلي به)،
وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح،
قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد.وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفا)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحيانا يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصة في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحيانا بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك.
[القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه].
أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {والسماء والطارق} [الطارق:1] وسورة: {والليل إذا يغشى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى،
حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)،
وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى.أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها.وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذا رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلا قرأت بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] {والليل إذا يغشى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل،
ولا حرج أن يقرأ: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة.
[حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان].والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة.
لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءة صحيحة ثابتة،
كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف،
فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكما؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة.
وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليما لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات.
وقال بعض العلماء أيضا: يستثنى من هذا أن يكون بين قوم جهال، فلو قرأ بقراءات غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قوم يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب،
فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة.فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءة لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون،
قال صلى الله عليه وسلم: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علم وبيان للناس وتوضيح وإرشاد لهم.
فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورة ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها،
أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصا لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا.
الركوع وصفته قولا وفعلا
[رفع اليدين عند الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبرا رافعا يديه].
أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)،
وقد أمر الله بالركوع فقال: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]،
وقال: {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مكبرا،
أي: جامعا بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع.
وقوله: [رافعا يديه]،
لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).