وأمَّا آية {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} فمرجع الضمير فرعون وملؤه، الذين شأنهم أن يحضروا في علم السامع متى ذكر فرعون؛ إذ رئيس القوم كفرعون لا تقع صورته في الذهن غالبًا إلا مصحوبة بما يحف به من رجال، وقد بسطنا لك القول في أن الإتيان بضمير الغيبة لا يتوقف على أن يكون مرجعه مذكورًا لفظًا؛ بل يكفي فيه أن يحضر في ذهن السامع، ولو من غير طريق الألفاظ الموضوعة للدلالة عليه.
رأي المحاضر في الضمائر غير المطابقة
قال المحاضر: "فعدم المطابقة إذًا ليس من خصائص الضمير، ولا هو من خصائص الأسماء الموصولة، وإنما هو أسلوب من أساليب القرآن، إذا أمكن ضبطه وتحديده، فقد أمكن حل مسألة الضمائر غير المطابقة، أو التي لا مرجع لها، ويتلخص هذا الأسلوب في أن القرآن يستعمل أحيانًا أسماء عامة أو خاصة، وهو يريد أن هذه الأسماء تدل على أصحابها أولاً، وتمثل جماعات أخرى ثانيًا؛ أي أن هؤلاء الأشخاص ممتازون، لهم من المكانة في حياتهم الاجتماعية ما يجعلهم عنوانًا لقومهم". قال المحاضر هذا وأراد تطبيقه على الآية الأولى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} بناء على أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وعلى الآية الثانية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} زاعمًا أنَّ فرعون يمثل المصريين!
قد أريناك أن ليس في القرآن ضمير لا يطابق مرجعه، وأن مرجع الضمير قد يكون مذكورًا، وقد يستغنى عن ذكره بما يدل عليه من قرينة لفظية أو غير لفظية، والآية من هذا القبيل، ولا يشترط في مطابقة ضمير الجمع لمرجعه المذكور قبله أن يكون لفظه جمعًا؛ بل يكفي فيه أن يكون مدلوله الجنس، وهو يتناول أفرادًا كثيرة، والآية الأولى واردة على هذا السبيل، ونزولها في أبي بكر الصديق لا يمنع من إرادة جنس الإنسان المتصف بالمعنى المحكي عنه، فيتناول أبا بكر وسائر من يتحقق فيه ذلك المعنى.
عدم اكتفائه بهذا الرأي في دفع مشكلة عدم المطابقة
قال المحاضر: "هذا الحل واضح في نفسه، وهو مفهوم من النحو المنطقي الصرف، ولكنه لا يزيل المشكلة؛ لأن مسألة المطابقة بين الضمير وبين مرجعه المذكور لا تزال قائمة".
ليس في الآيات إشكال ما دام العرب ينطقون بالضمير من غير أن يذكر مرجعه في نظم الكلام، وما دام علماء العربية يصرحون بجواز هذا الاستعمال، ويسوقون عليه الشواهد الكثيرة، وليس في الآيات إشكال ما دام العرب يجرون الكلمات التي تدل على معانٍ عامة، ولم يكن في لفظها علامة جمع - مجرى ما يجيء في صيغة جمع تكسير أو جمع سلامة، فيعيدون عليها ما شاؤوا من ضمائر الجمع أو ضمائر الإفراد، وما دام علماء العربية يذهبون في هذا الاستعمال إلى أنه عربي مبين، ولا يرونه ناقضًا لشيء من قواعدهم، وآفة المحاضر في هذا كله إنما جاءت من ناحية تلك القاعدة التي اصطنعها بلسانه، ورماها على النحاة، وكتبهم تنادي ببراءتهم منها.
زعمه أن القرآن يستعمل ضمير الغيبة اسم إشارة
قال المحاضر: "إنه يرى أن القرآن نفسه يحل هذه المشكلة حلاًّ لا شك فيه، ذلك أن هذه الآيات التي لم تتحقق فيها المطابقة، والتي تبلغ نحو المائة، قد ورد فيها اسم الإشارة سبعًا وأربعين مرة، وورد فيها الضمير ثلاثًا وأربعين مرة، وإذًا فالقرآن يستعمل في هذه الآيات الضمير واسم الإشارة على السواء، وإذًا فالضمير في هذه الآيات بمعنى اسم الإشارة، ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظًا ورتبة، وإنما يجب أن يرجع إلى المشار إليه، وإن لم يطابقه عددًا وجنسًا، سواء ذكر هذا المشار أو لم يذكر"، وقال: "إنه يرى أن هذه القاعدة يجب أن تطبق على كل الضمائر التي لا مرجع لها، أو التي لا تطابق مرجعها، بحيث تؤخذ هذه الضمائر على أنها أسماء إشارات".
لا مشكلة فيطلب حلها، ذلك لأن الآيات التي أوردها المحاضر استوفت مراجعها، وتحققت فيها المطابقة على الوجه الكافي في نظر البلغاء، ودعوى أن الضمائر في هذه الآيات مستعملة بمعنى اسم الإشارة، من الخواطر التي لا داعي إليها، وإنما يحتاج إليها مَن يتوهم أن القاعدة النحوية توجب أن يكون مرجع الضمير مذكورًا يتقدم في اللفظ والرتبة، ويتوهم أن المطابقة بين ضمائر الجمع ومراجعها لا تتحقق إلا أن يكون المرجع من صيغ الجموع، وشيء من هذا لم يلتزمه العرب، ولم يجعله واضعو قواعد اللغة حكمًا مسمطًا.
يقول المحاضر: "ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظًا ورتبة"، وهذا القول من نوع ما يرمى به على غير روية، والحقيقة أن اسم الإشارة قد يشار به إلى محسوس حاضر، وهذا يستغني بالإشارة الحسية عن أن يتقدمه في الكلام ما يشار إليه، أما إذا أشير به إلى أمر معقول، أو شخص غائب عن حضرة الخطاب، فهذا حكمه حكم ضمير الغائب في احتياجه إلى مرجع يفسره.
قال الرضي في "شرح الكافية": واسم الإشارة لما كان موضوعًا للمشار إليه إشارة حسية، فاستعماله فيما لا يدرك بالإشارة الحسية، كالشخص البعيد والمعاني - مجاز، وذلك بجعل الإشارة العقلية كالحسية، واسم الإشارة حينئذٍ يحتاج إلى مذكور قبله، فيكون كضمير راجع إلى متقدم، وقد نقل العلامة السيد كلام الرضي هذا في حواشي الشرح المطول حكمًا مسلمًا.
وهذا أمر معقول بالبداهة لو كان المحاضر ممن رزقوا التؤدة في البحث، فلو قال قائل لقيت بالأمس ذلك، مشيرًا إلى شخص غير حاضر، ولم يجر في الكلام ما يدل عليه؛ لما أتى بشيء من الفائدة، ولما عده السامعون إلا هاذيًا.
وأكثر الآيات التي أوردها المحاضر إنما كني بضمائرها عن معانٍ معقولة؛ كآية: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، أو أشخاص غائبين عن حضرة الخطاب كآية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28]، فلا مفر للمحاضر إذًا من أن يبتغي لهذه الضمائر مشارًا إليه قد تقدم ذكره، إلا أن يدعي أن هذا النوع الجديد من أسماء الإشارة لا يدخل تحت سلطان قاعدة قديمة، وما هذا الادعاء من صاحب هذه المحاضرة ببعيد.
وإذا قال المحاضر: أكتفي في اسم الإشارة بما يدل على المشار إليه، ولو من غير صريح الكلم، قلنا قد اكتفى علماء العربية في مرجع الضمير بمثل هذه الدلالة، فيكون الخلاف بينك وبينهم في أنهم يسمون الهاء في نحو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ .....}[23] ضميرًا، وأنت تسميه اسم إشارة، وتكون رحلتك إلى مؤتمر المستشرقين لم تثمر سوى أنك جئت إلى نوع من الضمير، وقلتَ إني وضعت له اسمًا جديدًا، لم يسمِّه به علماء العربية في القديم.
قال المحاضر: "فالضمير إذًا في هذه الأنواع الثمانية مستعمل على أنه اسم إشارة، وقد أحس القدماء أنفسهم هذا، فقاله الزمخشري في "الكشاف" كما قدمنا، ورووا أن رؤبة لما سئل عن الضمير في قوله:
كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
أجاب: أردت كأن ذاك".
ذكر صاحب "الكشاف" لإفراد الضمير في آية: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ}[24] وجهين؛ أحدهما: ما أوردناه فيما سلف من أن يكون الضمير راجعًا إلى الصداق، الذي يجده السامع في ذهنه عند ذكر الصدقات؛ لأنه في معنى: وآتوا كل واحدة من النساء صداقها، وثانيها: أن يكون الضمير "جاريًا مجرى اسم الإشارة؛ كأنه قيل عن شيء من ذلك"، ومعنى هذا فيما يظهر أن الضمير في قوله {منه} وهو مفرد، كنى به عن الصدقات وهو جمع، أجراه له مجرى اسم الإشارة المفرد، فإنه قد يشار به إلى الاثنين؛ نحو قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[25]، وقد يشار به إلى الجمع؛ كقوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[26]، فالذي يؤخذ من عبارة الزمخشري أن ضمير المفرد كني به عن جمع، إلحاقًا له باسم الإشارة في أنه قد يشار به إلى جمع، فالإجراء يرجع إلى هذا الوجه، وهو استعمال المفرد للجمع، وهو مستقيم ولو مع بقاء الضمير بحاله، كناية عن شيء تقدَّمه. فصاحب "الكشاف" لا يريد من قوله أجري مجرى الإشارة أنه نقل عن معناه - الذي هو مجرد الكناية عن شيء يفسره - إلى معنى اسم الإشارة، وإنما يريد أن هذا الضمير أعطي حكم اسم الإشارة، الذي هو استعماله للجمع، وإعطاء الكلمة حكم الأخرى لا يتوقف على أن توافقها في المعنى؛ بل يكفي فيه أن يكون بين الكلمتين مشابهة في بعض الوجوه، والمشابهة بين الضمير واسم الإشارة في الإبهام، واحتياج كل منهما في استعماله إلى ما يوضح المراد منه.
ويدلك على أن الزَّمَخْشَرِي إنَّما يريد بإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة إعطاءه حكمه فقط، ولا يقصد إلى أن يكون الضمير بِمَعْنَى اسم الإشارة، أو اسم إشارة - أنه بعد أن استشكل الإشارة بالمفرد المذكور في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} إلى مؤنثين، وهما بكر وفارض، وذهب في دفع الاستشكال إلى أن المشار إليه في تأويل "ما ذكر"، أو "ما تقدم"، قال: وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا.
ورؤبة لا يقصد بقوله: "أردت كأن ذاك" أنه استعمل الضمير اسم إشارة، وإنما يقصد أنه أعاد ضمير المفرد على الخطوط، إجراء له مجرى اسم الإشارة في استعماله لمتعدد، وغير خفي أن اسم الإشارة في هذا الموضع لا يختلف عن الضمير إلا بحكم عدم المطابقة، فقوله "أردت: ذاك" لا يدل على أنه نقل الضمير إلى معنى اسم الإشارة، وإنما هو تنبيه على اللفظ الذي نقل حكمه إلى الضمير، وهذا اللفظ من حيث إنه يشير إلى ما تقدم ذكره - لا يتميز عن الضمير الذي يكنى به عن متقدم، فصح أن يوضع موضع الضمير عند بيان القصد إلى إجرائه مجراه في استعماله لما هو متعدد، وسيقوم لك على هذا من قول السعد شاهد مبين.
ثم إن ما يذكر به اسم الإشارة المفرد من عدم المطابقة أمر ظاهري، والتحقيق أن العرب قد وضعوا ذاك أو ذلك ليشار به إلى المفرد، وذان – مثلاً – للمثنى، وأولئك لما كان جمعًا، فإذا وجدنا اسم الإشارة المفرد؛ نحو "ذلك" مشارًا به إلى متعدد فإنما هو لضرب من التصرف في تصوير المعنى، ذلك بأن تلاحظ المتعدد في صورة الشيء الذي يدلون عليه بكلمة مفردة، فأنت إذا أتيت في صدر كلامك بمثنى أو جمع، فقد جعلت مدلوله، الذي هو الفردان أو الأفراد، مذكورًا في الحضرة، فيأخذ بهذا الذكر عنوانًا آخر هو "ما ذكر"، فيصح لمن يخاطب الأذكياء أن يلاحظه كأنه مصرح به في نظم الكلام، ويشير إليه باسم الإشارة المفرد: ذاك أو ذلك، وقد أحس صاحب "الكشاف" نفسه بالحاجة إلى التأويل في اسم الإشارة المفرد حين يشار به إلى اثنين، فقال في تفسير قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}: فإن قلتَ كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟! قلتُ: جاز ذلك على تأويل "ما ذكر" و"ما تقدم" للاختصار في الكلام.
فالزمخشري يرى أن اسم الإشارة المفرد إذا استعمل في مثنى أو جمع فعلى ضرب من التأويل، فإذا جعل ضمير {منه} العائد على {الصدقات} في الآية الكريمة جاريًا مجرى اسم الإشارة؛ فلأن اسم الإشارة اشتهر باستعماله للمثنى والمجموع على ذلك الضرب من التأويل أكثر مما اشتهر به الضمير، وكذلك يقول السعد التفتازاني: يكنى باسم الإشارة الموضوع للواحد عن أشياء كثيرة، باعتبار كونها في تأويل "ما ذكر" و"ما تقدم"، وقد يقع مثل هذا في الضمير، إلا أنه في اسم الإشارة أكثر وأشهر، ولهذا قال رؤبة: " أردت: ذاك"[27].
وإذ كان اسم الإشارة المفرد إنما يستعمل للمثنى أو المجموع على ضرب من التصرف، فلنذهب بالضمير المفرد إلى ذلك الضرب من التصرف من غير وساطة اسم الإشارة، فنقول: إن الضمير في قوله تعالى {منه} عائد إلى الصدقات، باعتبار العنوان الذي أخذته من ذكرها في صدر الجملة، وهو "ما ذكر".
النوع التاسع
قال المحاضر: "النوع التاسع: من هذه الضمائر ضمير الشأن؛ كقوله تعالى في سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}[28]، فالهاء في أنه لا ترجع إلى شيء، وهي لا تشير إلى شيء أيضًا"، ثم قال: "إن ضمير الشأن هذا قد فقدَ معناه، وأصبح أداة لفظية يراد بها تقوية الجملة في القصص، أو في الوعد والوعيد، لا أكثر ولا أقل، وهذا الضمير شائع على هذا النحو في قديم الأدب وحديثه، لا يدل إلا على تقوية الجمل، وصبغها بشيء من الجلال".
ألقى المحاضر في صدر محاضرته تلك القاعدة المصنوعة، وقال: إنها لا تنطبق على القرآن؛ لأن فيه ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدَّمها لفظًا ورُتْبةً، وفيه ضمائر تعود إلى مذكور، ولكنها لا تطابقه، وقال إنه حصر هذه الضمائر في أنواع تسعة، فالذي يقرأ المحاضرة من أولها حتى يصل إلى قوله: النوع التاسع من هذه الضمائر ضمير الشأن، يسبق إليه بطبيعة البحث أن المحاضر يرى أن ضمير الشأن من الضمائر الواردة في القرآن على خلاف القاعدة النحوية، التي لا تقبل استثناء، والواقع أنَّ تلك القاعدة المزعومة ليس لها في العربية أصل ولا فرع، أمَّا ما يقوله الجمهور حقًّا - وهو أنه يمتنع عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة - فقد وصلوه بالاستثناء كما أسلفنا، ومن جملة هذه المستثنيات ضمير الشأن، ويقولون إذا قصد المتكلم إلى أن يستعظم السامع حديثه قبل الأخذ فيه افتتحه بالضمير المسمى ضمير الشأن، ونصوا على التزام إفراده وتذكيره، إلا إذا وليه اسم مؤنث، أو فعل موصول بعلامة مؤنث؛ كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[29].
ولم يكن هذا الضمير مختصًّا بالقرآن، ولا بالقصص والوعد والوعيد؛ بل هو شائع في كلام البلغاء، يبنون عليه أقوالهم حيث يقتضي الحال عرضها في لفظ مجمل قبل إلقائها على وجه من التفصيل.
يقول المحاضر: إن هذا الضمير لا يرجع إلى شيء، ولا يشير إلى شيء.
وهو إن حاول بهذا أن يجعله كحروف الصلة فمدفوع بأنه في صورة ضمير الغائب المذكر أو المؤنث، وشأن ما يجيء في هذه الصورة أن يكنى به عن شيء، وليس في ما ذهب إليه علماء العربية من أنه كناية عن الخير الذي يأتي بعده من بأس.
زعمه أن النحو مُحتاج إلى وضع جديد:
قال المحاضر: "فلا بد إذًا من وضع النحو وضعًا جديدًا، ولكننا نلاحظ أن النحو ليس سيئ الوضع فحسب، ولكنَّه قاصر عن الإحاطة باللغة العربية نفسها، قواعده غير متقنة، منها ما يضيق فيسرف في الضيق، ومنها ما يتَّسع فيسرف في السعة".
قد أدلينا إليك بالحجج المعقولة، والشواهد المأخوذة من أفواه العرب؛ أنَّ ضمائر الغَيبة في القرآن لم تَجِئْ إلا على ما يجري عليه البلغاء في مخاطباتهم، ولم يجئ إلا على ما تجد له عند علماء العربية أصلاً ثابتًا، وليس في هذه الأصول ما ينبو عنه العقل، أو يتجافى عنه الذوق، واستبان لك أن المحاضر وضع لمحاضرته أساسًا خربًا، فكان كل ما بناه عليه متداعيًا إلى السقوط متخاذلاً، فلا بد إذًا من الاعتراف بأن علماء العربية خدموا اللغة؛ فاستنبطوا القواعد، وسردوا الشواهد، وذهبوا في البحث والاستدلال مذاهب بعيدة عن هذا اللغو، الذي أجهد فيه المحاضر نفسه، واقتحم به لُجَجَ البحار ليملأ به آذان أولئك المستشرقين، وحقيق بِمَن يتصور أن النحاة قالوا بوجوب عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة - أن يقول: إن النحو قاصر عن الإحاطة باللغة العربية، وحقيق به أن يقول في قواعده: إنَّها غير متقنة، ولكنهم لم يقولوا هذا الذي نثره المحاضر في مؤتمر المستشرقين، فالذين يقبلون على الكتب العالية لعلماء العربية؛ ككتاب "التسهيل" لابن مالك، و"شرح أبي إسحاق الشاطبي للخلاصة"، و"شرح ابن يعيش للمفصل"، ويطالعونها بذكاء وتثبُّت وإنصاف - لا ينصَرِفُون عنها إلا بإكبار وإعجاب، ولا أنكر أن في كثير من الكتب النحوية شيئًا من الأقوال الواهية، والمذاهب الضيقة؛ فإن هذا شأن كل علم، معقولاً كان أو مسموعًا، والذي أعنيه أن هذه الكتب تحتوي القواعد التي يجري عليها الفصحاء من العرب، فمن الميسور للباحث بإخلاص أن يقف عليها، ويميز منها تلك الآراء الضعيفة والمذاهب الحرجة، ويخرجها في أسلوب حكيم.
يوجد في لغة الألمان مثل لما جاء في لغة العرب من الإتيان بضمير لا يرجع إلى مذكور في نظم الجملة، فتجدهم يقولون: هي تمطر، أو تبرق، أو ترعد، أو هو برد، ولا يزيدون على ضمير الغائب والفعل، فمَن مبلغهم نظرية هذا المحاضر؛ لعلهم يغيرون نحوهم، ويسمون هذا الضمير اسم إشارة؛ حتى لا يقذفهم المحاضر - كما قذف علماء الأزهر - بأنهم قوم لا يقبلون آراء المجددين؟!
زعمه أنَّ النحو لا يكفي لتفسير القرآن
قال المحاضر: "إن علم النحو العربي لا يكفي لتفسير القرآن الكريم وتخريجه من الوجهة النحوية الصرفة"، قال هذا ثُمَّ اقترح "أن يوضع للقرآن نحو خاص؛ كما هو الشأن في الأبيات البيانية في اللغات الأوربية على اختلافها"، وقال: إن هذا النحو الخاص نافع قيم من جهتين؛ الأولى: أن يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يقرؤون القرآن مستنيرين بالنحو القديم، فيرون بينه وبين هذا النحو ضروبًا من الخلاف، فيعجلون ويقضون بأن في القرآن خطأ نحويًّا، والواقع أنَّ القرآن لم يخطئ، وإنما قصَّر النحويون حين وضعوا قواعد النحو، فلم يستوعبوا القرآن والشعر ولم يَستقْصُوهُما، الثانية: أن هذا النحو الخاص سيكون أساسًا صالحًا لنحو آخر جديد للغة العربية كلها، يعتمد على بحث أدق، وأشد استقصاء من بحث المتقدمين".
يقول المحاضر إن النحو لا يكفي لتفسير القرآن الكريم، ولهذا القول نصيب من الصحة لو صدق عليهم ظَنُّ المحاضر في تلك القاعدة، التي عرفتم ما هي، وكيف حملها إلى مؤتمر المستشرقين على غير أمانة، فإن كان يقصد إلى شيء آخر غير ضمائر الغيبة، فليأتنا به ويرنا كيف تقصر القواعد النحوية عن تأويله، أما اقتراحه بأن يوضع للقرآن نحو خاص فرأي لا يخطر على بال أحد، إلا أن تكون له حاجة يحاول الوصول إليها على هذه الوسيلة.
القرآن نزل بلسان عربي مبين، والقواعد النحوية قائمة على الاستشهاد به، وبما يصدر عن البلغاء من منظوم ومنثور، ولا نجد لعلماء العربية قاعدة قرروها شاملة من غير استثناء، وفي القرآن ما ورد على خلافها، وعلى فرض أن نَجِدَ في القرآن تركيبًا لم نستطع إرجاعه إلى شيء من قواعدهم، فإننا نحكم بأن ذلك الضرب من الاستعمال مطابق لاستعمال العرب، وقد غفل عنه واضعو القواعد، ولا يسوغ لنا في حال أن نذهب إلى أن هذا الاستعمال من خصائص القرآن، ونعمل على أن نضع له نحوًا خاصًّا، ذلك ما لا يرضى عنه القائمون على أصول اللغة العربية؛ حتى يحملوا في صدورهم قلبًا كقلب هذا المحاضر، ويضعوا نصب أعينهم الغاية التي وضعها نصب عينيه.
يزعم المحاضر أن هذا النحو الخاص يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يرون ما بين القرآن وبين النحو ضروبًا من الاختلاف، ونحن نعلم أن المستشرقين الذين بلغوا أن يقرؤوا القرآن؛ ليستنيروا بالنحو القديم، هم من التمهل في الحكم، وتقصي البحث من كتب متعددة لا يعلق بنفوسهم شك، ولا يرون أن بين القرآن والنحو القديم ضروبًا من الاختلاف؛ أما من يتصور القواعد مقلوبة رأسها على عقبها، فلا حق له في أن يضع أو يوضع له نحو غير النحو الذي بناه علماء العربية فأحكموا بناءه.
يزعم المحاضر أن هذا النحو سيكون أساسًا صالحًا لنحو آخر يعتمد على بحث أدق من بحث المتقدمين، ولكن المثال الذي قدَّمه في هذه المحاضرة لا يصلح شاهدًا على أن في إمكان من هم إلى العقلية الغربية أقرب منهم إلى العقلية الشرقية - أن يضعوا للغة الفصحى نحوًا يداني نحو المتقدمين، فضلاً عن أن يكون أدق وأشد استقصاء منه، ولا يغرن المحاضر أن طائفة من الغائبين عن علوم اللغة قد ضربوا أيْمانَهم على شمائلهم؛ استحسانًا منهم لما يقول، فإن الذين يسارعون إلى تقليد كل من ينعق باسم الجديد، وإن كان مبطلاً - غير قليل.
[1] قدم المؤلف بحث: "حقيقة ضمير الغائب في القرآن" بالكلمات التالية:
رحل الدكتور طه حسين مندوبًا إلى مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد، وألقى هنالك محاضرة عنوانها "ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة في القرآن"، وقد نشرت مجلة الرابطة الشرقية ملخص هذه المحاضرة، فإذا هي طائشة الوثبات، كثيرة العثرات؛ فرأينا من حق العلم علينا أن ننشر في هذه المجلة ما تراءى لنا فيها من أغلاط، وللقراء الأذكياء القول الفصل، وما خفي الحق عن باحث يتقصى أثره بذكاء وتؤدة.
وقد اعتمدنا في هذا النقد على أن التلخيص مكتوب بإملاء من صاحب المحاضرة، وأخذنا في هذا بأمارات، منها: أنه قد يُعبِّر بضمير المتكلم في مقام لو كان الملخِّص غيره لعبَّر فيه بضمير الغائب، اقرأ قوله: "وقد تقصَّى صاحب البحث هذه الآيات التي لم تتم فيها المطابقة، فرأى أن ضمير الصلة أتى مفردًا في القرآن دائمًا إلا مرتين، وهما قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس، 42]، وقوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82]، فأما ما عدا الصلة، فلم تتحقق فيه المطابقة نحو مائة مرة، غير أنا نجد أحيانًا الضمير كما رأينا إلخ".
فلا يستقيم لملخِّص غير صاحب المحاضرة أن يعبر بالاسم الظاهر؛ فيقول: "وقد تقصَّى صاحب المحاضرة"، ويعبر بضمير الغيبة في قوله: "فرأى"، ثم يعبر بعد هذا بضمير المتكلم؛ فيقول: "غير أنا نجد أحيانًا الضمير كما رأينا"! ولا تأويل لهذا سوى أن الذي أملى التلخيص هو صاحب المحاضرة نفسه، ولكنه تصنَّع في إسناده إلى غيره، ولم يلبث أن أدركته الغفلة عما تصنع له من إسناد التلخيص إلى كاتب آخر، فوردت عليه ضمائر المتكلم منساقة بنفسها، فلم يكن منه إلا نطق بها.
ويضاف إلى هذا أنه يسمي نفسه في التلخيص - الباحث أو صاحب المحاضرة، شأن المتواضع، ولو كان الملخص غيره لعلم أن المحاضر لا يرضى منه إلا بلقب الدكتور أو الأستاذ.
ولم نعن ببيان أن ملخِّص المحاضرة هو صاحب المحاضرة إلا لنرفع عن قلمنا الحرج إذا قلنا عند حكاية جملة أو جمل من هذا التلخيص: قال المحاضر أو صاحب المحاضرة.
[2] يوسف – الآية 2.
[3] فصلت – الآية 3.
[4] النحل – الآية 103.
[5] طه – الآية 67.
[6] البقرة – الآية 124.
[7] القدر- الآية 1.
[8] عبس – الآية 1.
[9] البقرة – الآية 149.
[10] المائدة – الآية 8.
[11] الأنفال – الآية 73.
[12] المائدة – الآية 8.
[13] آل عمران – الآية 180.
[14] النساء- الآية 4.
[15] الأنعام – الآية 29.
[16] البقرة – الآية 229.
[17] النحل – الآية 61.
[18] الزمر – الآية 33.
[19] البقرة – الآية 264.
[20] الأحقاف – الآية 15، 16.
[21]طه – الآيات 24 - 28.
[22] الأحقاف – الآية 17.
[23] الأعراف – الآية 187.
[24] النساء – الآية 4.
[25] البقرة – الآية 68.
[26] الإسراء – الآية 38.
[27] "حاشية الشمني على المغني".
[28] الجن – الآية 1.
[29] الحج – الآية 46.