
19-09-2020, 05:12 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,970
الدولة :
|
|
رد: جهود العلماء القدامى في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها
جهود العلماء القدامى في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها
هاني إسماعيل محمد
فَتًى زَادَهُ السُّلْطَانُ فِي الوُدِّ رِفْعَةً 
إِذَا غَيَّرَ السُّلْطَانُ كُلَّ خَلِيلِ 
قال: فكان يجعل السِّين شينًا، والطَّاء تاء فيقول: "فتًى زاده الشُّلتان"[12].
فتصدَّى العلماءُ لِهذه الظَّاهرة الفاشية بأن تَناولوا مَخارج الحُروف وصفاتها بالشَّرح العميق، والوصف الدقيق، وكان لهم السَّبْق في هذا المِضْمار، ومِمَّا قاله الخليلُ بن أحمد صاحبُ أوَّلِ معجمٍ عربي: إنَّ "أقصى الحروف كلها العين، ثُمَّ الحاء، ولولا بحَّة في الحاء لأشبهَت العين؛ لِقُرب مخرَجِها من العين، ثُمَّ الهاء، ولولا هتَّة في الهاء لأشبهَت الحاء؛ لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حيِّز واحد، بعضها أرفَعُ مِن بعض"[13].
ويُعدُّ كتاب "أسباب حدوث الحروف" لابن سينا مصدرًا مهِمًّا في هذا الباب؛ إذْ تناولَ مَخارج الحروف والأصوات وصفاتها؛ شارِحًا مكوِّنات الحنجرة واللِّسان، واصفًا العمَلِيَّة العضويَّة للأصوات والحروف، كما خصَّص فصلاً للحروف الشَّبيهة بالحروف العربيَّة في اللغات الأخرى، فقال:
"وها هنا حروفٌ غير هذه الحروف [العربيَّة] تحدث بين حرفَيْن حرفَين فيما يُجانس كلّ واحد منهما بشركه في سببه، فمِن ذلك الكاف الخفيفة التي ذكَرْناها، وحروف تشْبِه الجيم، وهي أربعة: منها الحرف الذي ينطق به في أوَّل اسم البئر بالفارسيَّة، وهو "ﭼاه"، وهذه الجيم يَفْعلها إطباقٌ من طرَفِ اللِّسان أكثر وأشد، وضغط عند القلع أقوى، ونسبة الجيم العربيَّة إلى هذه الجيم هي نسبةُ الكاف غير العربيَّة إلى الكاف العربيَّة، ومنها حروف ثلاثة لا توجد في العربيَّة والفارسيَّة، ولكن توجد في لغاتٍ أخرى"[14].
كما ذكر فاء تكاد تُشْبِه الباء، وتقع في لغة الفُرْس، عند قولهم: "ﭭـزوني"، وتُفارق الباء بأنَّه ليس فيها حبسٌ تام، وتُفارق الفاء بأنَّ تضييق مخرج الصَّوت من الشِّفة فيها أكثر، وضَغْط الهواء أشدّ، حتَّى يكاد يَحْدث منه في السَّطح الذي في باطن الشِّفة اهتزاز، ومن ذلك الباء المشدَّدة الواقعة في لغة الفرس عند قولِهم: "ﭙـيروزي"، وتحدث بشدٍّ قويٍّ للشَّفتَيْن عند الحبس، وقلع بعنف، وضغطٍ للهواء بِعُنف"[15].
جهود العلماء على مستوى الرَّسم الإملائي:
ومن الوسائل العمَليَّة التي استخدمَها علماءُ الإسلام لتعليم اللُّغة العربيَّة لغير أبنائها النَّقط والتَّشكيل، ويبدو أنَّ الرائد في هذا الأمر أبو الأسود الدُّؤلي الذي قام بهذه المهمَّة بعدما قال زيادٌ له: "إنَّ هذه الحَمْراء [يقصد العجَم] قد كثرت، وأفسدَتْ من ألسُنِ العرب، فلو وضَعْت شيئًا يُصلح به النَّاس كلامهم، ويعربون به كتاب الله تعالى"[16]، فما كان من أبي الأسود إلاَّ الإذعان بعدما سمع مَن يقرأ: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، بالجَرِّ بدَلاً من رفع ﴿ رسولُه ﴾، واختارَ كاتِبًا ماهرًا، وقال له:
"خُذ المصحف وصبغًا يُخالف لونَ المداد، فإذا فتحتُ شفتَيَّ فانقُط واحدةً فوق الحرف، وإذا ضمَمْتُها فاجعل النُّقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسَرْتُهما فاجعل النُّقطة في أسفله، فإن أتبَعَتْ شيئًا من هذه الحركاتِ غنَّةٌ فانقُطْ نقطتين، فابتدأَ بالمصحف حتَّى أتى على آخرِه"[17].
ومِن المُلاحَظ أنَّ أبا الأسود الدؤلي استخدمَ النقط للدلالة على الحركات الإعرابيَّة، وليس للتمييز بين الحروف، حتَّى جاء تلميذُه نصر بن عاصمٍ لِيُزيل اللَّبْس بين الحروف بوضعِ النُّقط على مُتشابِهها، وذلك عندما أمرَ الخليفة الأمويُّ عبدُالملك بن مروان الحجَّاجَ بن يوسف الثقفيَّ والِيَ العراق أن يضع علاجًا لمشكلة تفَشِّي العجمة، وكثرة التَّصحيف، فاختار كلاًّ من نَصْرِ بن عاصم، ويحيَى بنِ يَعْمر لهذه المهمَّة؛ لأنَّهما أعرَف أهل عصرهما بعلوم العربية وأسرارها، وفنون القراءات وتوجيهها[18].
وتَرْوي لنا المصادرُ التراثيَّة أنَّ رجلاً روميًّا أتى إلى الحجَّاج، وألقَى عليه بعض الأبيات الشعريَّة بطريقة مضحكة؛ لأنَّها لَم تكن منقَّطة، ونقطَها على هواه، فتغيَّر المعنى تمامًا، فغضب الحجَّاجُ وأمَرَ بِجَلده، فتوسَّط لدى الحجَّاجِ العالِمُ نصرُ بن عاصم؛ لِيَعفو عنه، فقَبِل الحجاج شفاعةَ نصر، وطلبَ منه أن يجد طريقةً؛ كي يتلافَى الناسُ - خاصة الأعاجم - الوقوعَ في الخطأ واللَّحن في اللُّغة، فكان أنْ وضَعَ نصرٌ النِّقاط فوق الحروف وتحتَها على الصُّورة المُتداوَلةِ حتَّى يومنا هذا.
وعندما اختلطَ الأمرُ بين نقط الإعراب الذي وضَعه الدُّؤلي ونقط الإعجام الَّذي وضَعَه تلميذُه نصر، جاء الخليلُ بن أحمد الفراهيديُّ، فوضعَ أشكال الحركات المشهورة حتَّى الآن[19]؛ فقد جعلَ الحركاتِ حُروفًا صغيرةً بدل النقط، وابتكر لكلِّ حركةٍ ما يُناسِبُها في الشَّكل من الحروف؛ فالفَتْحة ألِفٌ منبَطِحة فوق الحرف، والضمَّة واوٌ صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياء مُردَفة تحت الحرف، والهمزة رأسُ عينٍ مقطوعة؛ لِقُرب مخرجها منها، والشَّدة رأسُ شين اختصارٌ لـ"شديد"، والسُّكون رأس خاءٍ اختصار "خفيف"، وبهذه الطريقةِ أمكنَ أن يَجمع بين كتابة الحروف وتمييزها بعضها من بعض، وضَبْطها بالشَّكْل، بِلَونٍ واحد.
طُرق ووسائل التدريس:
تتميَّز اللُّغة العربيَّة بِتَجربةٍ فريدة من نوعها في انتشارها بين الشُّعوب غير النَّاطقة بها، وتَحوُّلِها إلى لغةٍ أُولَى لأبناء هذه الشُّعوب في زمنٍ قياسيّ، وبالرغم من ذلك فإنَّه ليس لدَيْنا مَصادِرُ أو معلومات مُوثَّقة عن الطريقة التي اتَّبعَها المسلمون الأوائل في تعليم هذه اللُّغة المقدَّسة في البلاد التي فتَحوها؛ هل كانت عبر الانصِهار والاختلاط المُباشر بين العرب الفاتحين والمسلمين الجُدد، أم كان عن طريق تعليم منظَّم من خلال مَدارس أو كتاتيب، أو حلقات العلم بالمساجد، كما كان متَّبعًا في باقي العلوم بِما فيها علوم اللُّغة.
وإن كانت هناك إشاراتٌ - مجرَّد إشارات - تُشير إلى دَور الاختلاط المُباشر في تعليم اللُّغة العربية لغير الناطقين بها؛ يقول ابنُ خَلدون[20] - وهو يؤكِّد على دور العجَم في تصنيف النَّحو: "فكان صاحب صناعة النَّحو سيبويه والفارسي من بعده، والزَّجَّاج من بعدهما، وكلُّهم عجم في أنسابهم، وإنَّما رُبُّوا في اللِّسان العربي فاكتسَبوه بالمَرْبَى ومُخالطةِ العرب، وصيَّروه قوانين وفنًّا لمن بعدهم".
ويقول في موضعٍ آخَر: "فإذا تقدَّمَت في اللِّسان ملَكةُ العجمة، صارَ مقصِّرًا في اللُّغة العربيَّة؛ لِما قدَّمناه من أنَّ الملَكَة إذا تقدَّمَت في صناعةٍ بِمحل فقلَّ أن يُجيد صاحبُها ملَكة في صناعةٍ أخرى، وهو ظاهر، وإذا كان مقصِّرًا في اللُّغة العربية ودلالاتها اللفظيَّة والخَطِّية اعتَاص عليه فَهْمُ المعاني منها كما مرَّ، إلاَّ أن تكون ملَكة العجمة السَّابقة لَم تستَحْكِم حين انتقلَ منها إلى العربيَّة، كأصاغِر أبناء العجم الَّذين يُربَّون مع العرب قبل أن تَستحكم عُجمتُهم، فتكون اللُّغة العربية كأنَّها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصيرٌ في فَهْم المعاني من العربيَّة"[21].
فهو يؤكِّد في هذَيْن النصَّيْن على أنَّ المُخالطة والتربية بين العرب هي الَّتي أكسبَتْ هؤلاء العجَم اللِّسان العربِيَّ وساعدَتْهم على إتقانه، بيد أنَّ هذا لا يَمنع أن يكون هناك مَجالس أو مدارس أو وَسائل أخرى؛ لتعليم اللُّغة العربية لغير أبنائها.
ويَذْكر أبو الفرَج الأصفهاني صاحبُ "الأغاني" خبَرًا عن عديِّ بن زيدٍ العبادي وهو شاعرٌ جاهلي معروف، قد تعلَّم الكتابة والكلام بالفارسيَّة، فيقول: "فلمَّا تحرَّك عديُّ بن زيد، وأيفَع، طرَحَه أبوه في الكُتَّاب، حتَّى إذا حذَقَ، أرسلَه المَرْزُبان مع ابنه (شاهان مَرْد) إلى كُتَّاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلَّم الكتابة والكلام بالفارسيَّة، حتَّى خرج من أفهَمِ الناس بها وأفصحهم بالعربيَّة، وقال الشِّعرَ وتعلم الرَّمي بالنشاب"[22].
ففي هذا الخبر دلالةٌ واضحة، وإشارة ساطعة على أنَّ العرب كانوا يعرفون استخدامَ الكتاتيب لتعليم اللُّغات الأجنبية، وليس هناك ما يمنع من أن يكون العرَبُ قد استخدموا نظام الكتاتيب في تعليم اللغة العربية لغير أبنائها، "ومَهْما يكن من نَقْص المعلومات الموثَّقة، فإنَّ الذي لا شكَّ فيه أن العربيَّة انتشرَتْ هذا الانتشارَ في نوعه وفي سرعته؛ لأنَّ الإسلام والعربية كانا شيئًا واحدًا، ولَم يكن أن يُتصوَّر فَصْلُ أحَدِهما عن الآخَر"[23].
[1] "مقدمة في علوم اللغة": د. البدراوي زهران، دار المعارف، ط السابعة، 1999، ص16.
[2] "فقه اللغة وسر العربية": تحقيق مصطفى السقَّا وآخَرين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2008، ص21.
[3] "أثر القرآن الكريم في اللغة العربية": أحمد حسن الباقوري، دار المعارف، الطبعة الرابعة، ص 46.
[4] "عيون الأخبار": ابن قتيبة، المؤسسة المصريَّة للتأليف والنشر، 2/ 17.
[5] "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم": تحقيق د. ناصر بن عبد الكريم العقل، مكتبة الرشد، الرياض، 1 / 469.
[6] "طبقات النحويين واللُّغويين": أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، الطبعة الثانية، ص 12.
[7] انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"، مصدر سابق، 1/470.
[8] "طبقات النحويين واللغويين": مصدر سابق، ص 22.
[9] "العوامل المائة النحوية في أصول علم العربية": عبدالقاهر الجرجاني: تحقيق د. البدراوي زهران، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1996، ص 4.
[10] "لحن العامَّة": الزبيدي، تحقيق د. عبد العزيز مطر، دار المعارف، 1981، ص 34.
[11] "البيان والتبيين"، الجاحظ، ص 1/161.
[12] السابق: 1/73.
[13] "كتاب العين": الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، طبعة الثانية، ص1/47.
[14] "رسالة أسباب حدوث الحروف": لأبي علي الحسين بن عبدالله بن سِينا، تحقيق محمد حسان الطيان، ويحيي مير علم، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، ص86، 87.
[15] السابق: ص91، 92.
[16] "المُحْكم في نقط المصاحف": أبو عمرو الداني، تحقيق: د. عزة حسن، دار الفكر بدمشق، الطبعة الثانية 1997، ص3.
[17] السابق: ص4.
[18] انظر: "وفَيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان": لابن خَلِّكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، ص2/ 32.
[19] انظر: "إتقان علوم القرآن" لجلال الدين السُّيوطي، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1996، ص2/456.
[20] "تاريخ ابن خلدون": تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م، ص748.
[21] السابق: ص751.
[22] "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني: تحقيق، سمير جابر، دار الفكر الطبعة الثانية، ص2/93.
[23] "علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية": د. عبده الراجحي، دار المعرفة الجامعية، 1995، ص115.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|