تحذير الأحبة والإخوان من الكذب والبهتان
أحمد عماري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
نتابع حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال، وحديثنا اليوم عن خصلة ذميمة، وصفة قبيحة، وظاهرة اجتماعية انتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم، عن خلق ابتلي به كثير من الناس في منتدياتهم ومجالسهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم... إنه الكذب، وما أدراك ما الكذب؟ مرض خطير، ومنكرٌ فاحشٌ في حقيقته، علقمٌ في نتيجته.. خطره على الأفراد شديد، وللمجتمعات مقوضٌ ومبيد..
♦ مفهوم الكذب وحقيقته:
قال ابن حجر رحمه الله: "الكذب: هو الإخبار بالشّيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأ".
وقال النووي رحمه الله: هو "الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل".
♦ خطورة الكذب والافتراء:
الكذب: ظاهرة مستشرية، وسمة غالبة، وداء عضال، ومرض فتَّاك، وخُلُقٌ ساقطٌ بغيضٌ إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى ذوي الفِطر السليمة، يأباه الشرفاء، ويمقته العقلاء، وتمجُّه أنفس النبلاء، يُهين أصحابه، ويُذل أربابه، ويزري بمروجيه..
وهل النفاق إلا معتقَدٌ أساسه الكذب؟ وهل الرياء إلا عمل غُلِّفَ بالكذب؟ وهل البِدَع والخرافات إلا ثمرة للكذب على الله ورسوله؟ وهل التجني على الوحي، والنيل من الصحابة، والانحراف في المعتقد، إلا بسبب الكذب؟ وهل شوه الدين، ونُفر من الإسلام إلا بالكذب؟ وهل الحمَلات الضارية اليوم على المسلمين، والتخويف منهم، والاتهامات لهم إلا بسبب الكذب؟ وهل استبيحت بلدان، وانتهكت أعراض، ونُهبت مقدسات، واحتُلَّت الأوطان، وسلبت خيرات إلا بالكذب؟.. وهل فسدت المودة وضاعت الثقة بين المسلمين شعوبًا وأفرادًا إلا بالكذب؟ فأصبح المسلم يمسي ويصبح وهو لا يكاد يصدق أحدًا، أو يثق بأحد، حتى بأقرب الناس إليه...
فالكذب بريد المعاصي والمنكرات؛ فالكفر والنفاق والرياء والفجور، والبهتان والخديعة والمكر، والظلم والخُلف والغش، والتحايل والغيبة والنميمة، كلها أمراض أستاذها الكذب، ولو بحثتَ وراء كُلِّ مُصِيبة، وتحتَ كُلِّ خطيئة، فستجد أنها مُتَلَطِّخة بالكَذِب، مغلَّفَة به، أو هو أساسُها وبنيانُها وعِمَادُها.
الكذب: مفتاح النفاق وأساسه، وهو من أخص صفات الأراذل من الخلق، لا يستوطن إلا في النفوس العقيمة والأرواح السقيمة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». (متفق عليه).
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 8 - 10].
وقال سبحانه: ﴿ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].
يقول ابنُ القيم رحمه الله: "والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر".
الكذب: سبيل إلى كل قبيح وفاسد من أقوال أو أفعال، قال ابن القيم رحمه الله: "كل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدها ومضارها بمثل الكذب".
قال مالك بن دينار رحمه الله: "الصدق والكذب يعتركان في القلب، حتى يُخرج أحدهما صاحبه".
الكذبُ: مدخل من مداخل الشياطينِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ [الشعراء: 221 - 223].
فالكذب سلاح يصد به الشيطان العباد عن طاعة الله. فلقد بيَّن الله تعالى لنا في كتابِه العزيز أنّ الكذبَ أعظم سلاحٍ استطاع بِه إبليس إغواءَ أبينا آدم وأمِّنا حوَّاء، فزين لهما بكذبه وافترائه الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها، ولم يكن الكذب معروفا قبل ذلك؛ ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21].
الكذب: داء لا يصلح منه جدّ ولا هزْل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك به الحرمات، ويهدي إلى الفجور والفساد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه.
الْكَذِبُ:جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ؛ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ، وَالنَّمِيمَة تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ، وَالْبَغْضَاءُ تؤول إلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ.
الكذب: صفة من صفات الجاحدين الملحدين المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105].
أي (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق، الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس).
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكذب سيفشو ويكثر بشكل لم يسبق له مثيل في آخر الزمان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيّها النّاس إنّي قمت فيكم كمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا. فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب، حتّى يَحلِف الرّجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشّاهد ولا يُستشهد. ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة؛ فإنّ الشّيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيّئته فذلك المؤمن». أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وقال الألباني في الإرواء: وهو كما قالا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر الزّمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يُضِلّونكم، ولا يَفتنونكم»..
فلقد انتشر الكذب في هذا الزمان حتى كاد أن يكون بضاعة التجار والأزواج والأولاد والكُتاب والإعلاميين وغيرهم... وحتى فقدت الثقة بين العباد، وأصبحوا يتعاملون فيما بينهم على حَذر ووجل، لكثرة الكذابين والأفاكين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أنواع الكذب:
للكذب أشكال عديدة، ومظاهر كثيرة، نُجْمِلها في ثلاث: كذب على الله، وكذب على رسول الله، وكذب على عباد الله.
1- الكذِب على الله تعالى؛ فمن الناس من اعتاد الكذب وجعله لباسا يرتديه في كل وقت وحين، يختلق الأكاذيب، ويخترع الأباطيل، حتى تجرأ بالكذب على خالقه ومولاه. وأخطر أنواع الكذب مِن دون استثناء أن يَكذبَ المرء على الله تعالى، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾. ومن صور الكذب على الله تعالى:
• أن يَصِف العبدُ ربّه بما لا يليق به سبحانه؛ فالله تعالى متصف بكل جلال وكمال، مُنزّه عن كل عيب ونقصان، ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾. وقدْ ذمّ الله تعالى مَن يَنسُبُ إليهِ ما هو مُنزّه عنه، فقال سبحانه: ﴿ وَيَجْعَلونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أنّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنّهُمْ مُفرَطونَ ﴾ [النحل: 62]. وقال سبحانه وتعالى رَدّا على الذين يزعمون كذبا وزورا أنّ لله ولدا: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95].
• أن يتلاعب المرء بدين الله تعالى؛ فيُحِلّ لنفسه ما حرّمه الله، أويُحرم ما أحله الله:
قال تعالى: ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
وقال سبحانه: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59].
فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، ولا يحل لأحد أيّا كان أن يُحل ما حرّمه الله ورسوله، أو يُحرم ما حرّمه الله ورسوله.
• التكذيب بآيات الله، والتشكيك في صلاحيتها لكل زمان ومكان؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
فقد أصبحنا اليوم نسمع ونرى من يُشكك الناسَ في دينهم، وفي كتاب ربهم، ويزعم أن الحاجة إلى القرآن قد انتهت، ومنهم من يدعو بكل وقاحة إلى تعطيل الأخذ بأحكام بعض الآيات البينات، ومنهم من يدعو إلى حذف بعض الآيات من كتاب الله... تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]. قال تعالى مُحَذرا من الإعراض عن كتابه والاستهزاء بآياته: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[الجاثية: 7 - 10].
2- الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعاقبة الكذب على رسول الله صلى الله عيه وسلم ليست كعاقبته على أي أحد من الخلق، لأن كلامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدين وفعله وتقريرَه تشريع للأمة، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4] وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ﴾[الأعراف: 203]، ومن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب جُرما كبير وإثما مبينا؛ لأنه قد أوْقعَ الناس في الضلالة ودعاهم إلى البدعَة، وشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ﴾ [العنكبوت: 68].
ومِن صُوَر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
• نسبة الأحاديث المكذوبة والموضوعة إليه عليه الصلاة والسلام؛ فمِن الناس من يخترع الأكاذيب وينسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرضاء لنفسه واتباعا لهواه، أو إرضاء لغيره من الناس، أو ترويجا لبدعته أو ضلالته..
والنبيّ عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث المتواتر: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مَقعَده من النار». متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ كذبا عليّ ليس ككذِب على أحَد. مَن كذبَ عليّ متعمّدا فليتبوّأ مَقعده من النّار». متفق عليه.
فمِن الكبائر أن يَكذب المرءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَنسُبَ إليه ما لم يقله، ومن الكذب عليه أن يُرَوّجَ للأحاديث الموضوعة وينشرَها بين الناس على أنها من أقواله عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أنها أقوال مُصطنعة مَكذوبة. ففي صحيح مسلم عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وسمرة بن جندب رضي الله عنهما أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين»..
• اتهام الأنبياء والرسل بالكذب على الله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ﴾ [الفرقان: 4].
وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَوَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [المؤمنون:38].
وقد أخبر الله عز وجل أنّ اتهامَ الأنبياء والرسل بالكذِب هو دأبُ الأمَم السابقة، فقال عز وجل: ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [الحج: 42 - 44].
وقال سبحانه: ﴿ ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ق: 12 - 14].
تقول أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: "ما كان خُلُقٌ أبغَضَ إلى أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجلُ يَكذِب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكِذبة، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلَمَ أنْ قد أحدَث منها توبة"؛ رواه الإمام أحمد، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
3- الكذب على العباد؛ ما زال حديثنا عن الكذب؛ ذلكم الخلق الذميم، والذنب الكبير، والوصف القبيح، الذي أوقع الناس في الضيق والحرج، وقادهم إلى المهلاك والمفساد والمضارّ...
وبعد أن تحدثنا في الجمعة الماضية عن خطورة الكذب على الله ورسوله، نتحدث اليوم عن خطورة الكذب على العباد؛ فما أشقى الحياة وما أصعبها حين يغيب الصدق وينتشر الكذب بين العباد، حين تفقد الثقة بين الأقارب والأصحاب، حين ينتشر الكذب فيعم الفساد والخراب، فلا يهنأ للناس بعد ذلك بال، ولا يستقيم لهم حال..
فكم من مؤسسة خربت بخبر كاذب! وكم من أسرة شرّدت بخبر كاذب! وكم من عداوة ظهرت بخبر كاذب! وكم من حرب قامت بخبر كاذب! وكم من مقتول قُتِل بخبر كاذب! وكم من معتقَل غُيِّب بخبر كاذب!.
كم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وفسدت به من مصالح، وغرست به من عداوات، وقطعت به من مودات...
وللكذب على العباد صور عديدة، ومظاهر كثيرة، وهذه أبرزها:
♦ الكذب لإضحاك الناس:
فمن الناس من يختلق الكذب ليضحك الناس، وينال إعجابهم، يَكذِب في مجامع الناس ومجالسهم؛ فتراه يأتي بالغرائب، ويغرب في العجائب، ويسمون هذا النوع من الكذب تسلية، أو مزاحا، أو تشدّقا، وهو كذب وافتراء وهراء. وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هذا الخلق الذميم بالخسران والإبعاد والحرمان يوم القيامة. فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للّذي يُحدّث بالحديث ليُضحِك به القوم فيكذب، ويل له ويل له» رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود والدارمي والحاكم. وقال الترمذي هذا حديث حسن. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
يتبع