
06-09-2020, 04:06 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة :
|
|
جنة الدنيا الإيمان بالقدر
جنة الدنيا الإيمان بالقدر
أحمد الجوهري عبد الجواد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فيا أيها الإخوة! لا يتم إيمان عبد حتى يجمع في إيمانه ذاك ستة أركان هي تلك التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الجامع العظيم الذي جمع خير الدنيا والآخرة وكان بمثابة الفهرس للدين كله وذلك هو حديث جبريل وأحب -أيها الإخوة- أن أسوق الحديث بتمامه، فإن جزء الحديث الأول ربما لم يسمعه كثير منا قبل هذا، وأيضًا فإن حديثنا اليوم يتعلق بهذا الجزء، والحديث أخرجه مسلم من حديث يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِى الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِىُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِى الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِى أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِى سَيَكِلُ الْكَلاَمَ إِلَىَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ - وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّى بَرِىءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّى وَالَّذِى يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ». قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى «يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».[1].
هذا الحديث أيها الإخوة هو الدين كله فينبغي على كل مسلم أن يحفظه ويفهم معناه، ويهمنا منه الآن الشاهد بأن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، فلا يتم إيمان عبد حتى يجتمع إلى إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر الإيمان بالقدر فما معنى الإيمان بالقدر؟ وما أهميته؟ وما مراتبه؟ وما فوائده؟ وكيف يوقن العبد بالقدر؟ وما هي منافيات الإيمان بالقدر؟
أيها الإخوة.. معنى الإيمان بالقدر أن يعلم العبد أن الله تعالى"علم مقادير الأشياء وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته".[2] هذا هو معنى الإيمان بالقدر -أيها الإخوة- فلابد وأن يوقن العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما لم يكن قد شاء الله أن لا يكون ولله در الشافعي إذ يقول:
فما شِئتَ كان وإن لم أشأ
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكنْ
خلقتَ العباد على ما علمتَ
ففي العلم يجري الفتى والمُسِنْ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ
وهذا أعنتَ وهذا لَمْ تُعِنْ
فمنهم شقي ومنهم سعيد
ومنهم قبيح ومنهم حَسنْ
فعلى كل موحد أن يؤمن بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميعَ أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، ((فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))، فما أصاب الإنسانَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج:70] وقال:﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد:22].
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونحو ذلك. فعند ربنا سبحانه العلم بذلك كله من قبل أن يخلق الخلق ويوجده.
وعلى الموحد أن يؤمن بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، وأنه -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
ومن طريف ما قرأت ما ذكره العلامة الحميدي في كتابه جذوة المقتبس عن الأستاذ المعروف بابن البشتنى من آل الوزير أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفى، عن الوزير أبيه -رحمه الله-: أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر، محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن أبي عامر حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكرتنى والله به! وأخذ القلم يوقع، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، ورمي الكتاب إلى الوزير، قال: فأخذ أبوك القلم، وتناول رقعة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرط، فقال له ابن أبي عامر ما هذا الذي تكتب؟ قال: بإطلاق فلان، قال: فحرد وقال: من أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت، والله ليصلبن، ثم خط على ما كتب، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، قال: فأخذ والدك الرقعة، فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتاب، فقال: ما تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا؟ فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، فأخذ والدك الكتاب، فنظر ما وقع به، ثم تمادى فيما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب؟ فقال: بإطلاق الرجل، وهذا الخط ثالثاً بذلك، فلما رآه عجب، وقال: نعم يطلق على رغمى، فمن أراد الله إطلاقه، لا أقدر أنا على منعه[3].
أيها الإخوة! نظرت امرأة يومًا إلى زوجها الذي غاب مدة عنها فإذا هو مبيض العارضين شاب شعره فتعجبت وقالت متسائلة: ما الذي حدث لك بعدي شيب شعرك وحوله من أسود إلى أبيض؟ فأجاب على البديهة قائلًا:
نظرت مبيض فودَيّ فبكت
ثم قالت: ما الذي بعدي عراه
قُلتُ: هَذي صِبغة ُ الله، وَمَن
يصبغ الأسود مبيضا سواه[4]
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلاّ والله سبحانه خالقه، فلا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة؛ والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير:28-29].
فهذه - أحبتي - أربع مراتبٌ:
الأولى: العلم.
الثانية: الكتابة.
الثالثة: المشيئة.
الرابعة: الخلق والتكوين.
فأما مرتبة العلم فهي كما قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ اله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الحشر:22].
فهو سبحانه عالم بالسرّ والعلانية في الدنيا والآخرة، وعالم بكل الأشياء المعدوم منها والموجود".
وأما مرتبة الكتابة فهي كما قال تعالى: ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال:68].
قال العلامة ابن سعدي: "﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ ﴾ به القضاء والقدر، أنه أحلّ لكم الغنائم، وأن الله رفع عنكم أيتها الأمة العذاب، ﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾".
فكل شيء عنده سبحانه مسطور في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض وكل شيء.
روى البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة))، قال: ((وكان عرشه على الماء)).[5].
قال النووي: "قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله ((وعرشه على الماء))أي: قبل خلقه السموات والأرض".
أما مرتبة المشيئة فهى كما قال الله تعالى: ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير:28، 29].
قال الإمام القرطبي: "فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرًا إلا بتوفيق الله، ولا شرًا إلا بخذلانه، وقال الحسن: والله، ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها، وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر.قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ [الأنعام:111]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [يونس: 100].
قال الحافظ ابن كثير: "أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية: ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾ قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾".
وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)) [6].
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((لا مستكره له))أي: لأن التعليق يوهم إمكان إعطائه على غير المشيئة، وليس بعد المشيئة إلا الإكراه، والله لا مكره له".
هذا وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد"باب: في المشيئة والإرادة"، قال ابن بطال: "معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى".
وأما مرتبة الخلق فهى كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات:95-96].
وعن حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنة؟))فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل: لا حول ولا وقوة إلا بالله)) [7].
قال النووي في بيان سبب كون هذه الكلمة كنزا من كنوز الجنة: "قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وإن العبد لا يملك شيئاً من الأمر"[8].
تلك أربعة كاملة -أيها الإخوة- العلم والكتابة والمشيئة والخلق فمن آمن بهذه المراتب فقد آمن بالقدر، ومن كذب بشيء منها فقد كذب بالقدر. وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول كما في حديث ابن عباس الذي قال فيه: "كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» [9].
وهذا الإيمان -أيها الإخوة- - كما قدمنا- واجب فلا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره فإنكار القدر كفر بالله تعالى وينافي أصل توحيد الله -عز وجل- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
فقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الإيمان بالقدر أحد أركانه وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ الله لم يكن فمن لم يؤمن بهذا فإنه ما آمن بالله حقيقة.
قال الله تعالى: ﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾. وقال تعالى: ﴿ وخلق كل شيء فقدره تقديراً ﴾.
وقال صلى الله عليه وسلم: كما في البخاري قال قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن مسعود: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»[10].
ثم إن الأمة بأسرها من مئات بل آلاف الملايين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من علماء وحكماء وصالحين وغيرهم مؤمنين بقضاء الله تعالى وقدره وحكمته ومشيئته وبأن كل سبق به علمه وجرى به قدره وقلمه يكون كما قدر وأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأن القلم جرى بمقادير كل شيء إلى قيام الساعة كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره وصححه العلامة الألباني من حديث عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة. يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني» [11].
وفي رواية لأحمد: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم. فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» [12].
بل إن النار -أيها الإخوة- واجبة لمن لم يؤمن بالقدر ففي رواية لابن وهب في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار بل في المسند والسنن عن ابن الديلمي والحديث صححه الألباني عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت: في نفسي شئ من القدر فحدثني بشئ لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم "[13].
فمن لم يؤمن بالقدر عمله حابط ذاهب لا يثاب عليه ولا يؤجر بل ومع ذلك يدخل النار، لأنه كذب الله ورسوله والنبي صلى الله عليه وسلم منه براء وأستطرد فأقول: تأمل أخي هذه النكتة اللطيفة في حال هذا التابعي الجليل: كيف جالت الشبهة في صدره فأسرع من فوره إلى العلماء يسألهم ليزيلها، فزالت بعلم عن الله ورسوله، وهذا من بركة العلم وأهله والجد في طلب الحق فوا أسفاه على الكسالى.
الشاهد -أيها الإخوة- أن الإيمان بالقدر من واجبات أصل التوحيد الذي لا يتم الإيمان إلا به والقدر بعد هذا كله له ثمرات يانعة وقطوف مثمرة وحصاد حلو شهي من حقق القدر كان في جنة في الدنيا قبل الآخرة، ومن ثمرات الإيمان بالقدر نحيط بهذه النقاط على وجه السرعة نسأل الله أن يذيقنا حلاوة الإيمان به.
فمن ثمرات الإيمان بالقدر -أيها الإخوة-: أن يعرف الإنسان قدر نفسه فلا يتكبَّر ولا يتبطر ولا يتعالى أبدًا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائمًا. وهذا من أسرار خفاء المقدور.[14].
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: أنه يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لأنه سبحانه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور. وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحب لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل مالم ينله؛ لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق فيعطي ويمنع، وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه – سبحانه وتعالى– لخلقه.[15].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|