قال ابن زيد في قوله: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]، فقال لها: وما عِلمُك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته، فإنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان، وكان لا يكشفها دون سبعة نفر، وأما أمانته، فإني لما جئت أدعوه قال: كوني خلف ظهري وأشيري لي إلى منزلك، فعرفتُ أن ذلك منه أمانة.
4- يوسف عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 54 - 56].
صور الأمانة:
أولاً: المحافظة على المجتمع:
من الأمانات المهمَّة التي ينبغي أن يتحمَّلها المجتمع أجمع: المحافظةُ على المجتمع وحمايته من الفساد، فلم يعد أحد من المسلمين اليوم يشك في أن مجتمعات المسلمين مستهدفة، وأنه يراد لهذه المجتمعات أن تغوص في أوحال الرذيلة والفساد، وأن تتخلَّى عن دينها، كيف لا نشك في ذلك ونحن نقرأ قول الله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، وقوله: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، وقوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]؟
فما دام هناك يهود ونصارى فلن يَرضَوْا عن هذه الأمة حتى تتبع ملتهم، وارتماء الأمة في أوحال الفساد والرذيلة، وتخلِّيها عن دينها، واختيارها للشعارات الأرضية الباطلة - لن يكون كافيًا لديهم، فلا بدَّ أن يسُوقوا الأمة إلى أن تتنصر أو تتهود، وها نحن نرى صور الفساد وتيارات الهدْم والفتن تتوالى على مجتمعات المسلمين، ولستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم بذكر الأمثلة والصور والتناقضات، ويكفي أحدَنا دلالةً على ذلك أن يخرج إلى شارع من شوارع المسلمين، أو سوق من أسواقهم، ليرى نتائج هذا الغزو ونتاج هذا التدمير الذي يراد لهذه الأمة، فما دامت هذه المجتمعات مستهدفة يراد لها أن تتنكب الطريق، فمن المسؤول عن الحفاظ على المجتمع؟ ومن المسؤول عن الدفاع عنه؟ ومن الذي ينبغي عليه أن يقف في خندق الدفاع عن هذا المجتمع: عن عقيدته ودينه، وخُلُقه وسلوكه؟ أليس أبناء المجتمع أجمع؟ أليس المسلمون أجمعون كلهم ينبغي أن يقفوا صفًّا واحدًا في الميدان؟
فالواجب علينا جميعًا أن نقف في خندق الحماية والدفاع عن حرمات هذا المجتمع ودينه وعقائده، أن نقف في وجه هذه الحملة.
ولو أن المسلمين أدركوا الأمانة والمسؤولية، لما استطاع الأعداء أن يصنعوا شيئًا، ولارتدَّت سهام أولئك في نحورهم.
ثانيًا: نشر العلم والدعوة للدين:
لئن كانت مسؤولية نشر العلم والدعوة للدين تعني أهل العلم بصفة أخص، فهذا لا يعني أننا نُعفى من المسؤولية، فبعضنا لا يملك علمًا لكنه يملك المال الذي يستطيع من خلاله أن يُوظِّف من يعمل على نشر هذا الدين، ويملك الخدمات التي يمكن أن يقدِّمها لأولئك الذين ينشرون العلم ويقدمونه للناس جميعًا.
إننا بحاجة إلى أن نعلم الناس عقائدهم وأحكام دينهم، أن نعلم الناس أن يعتقدوا أن الله واحد لا شريك له، أن يعتقدوا أن الله متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلا، وأن يعتقدوا أن أنبياء الله ورسله هم أفضل الناس وأبر الناس وأصدق الناس، وأن يعتقدوا أن أبر الناس بعد رسله هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، وإلى أن نعلِّم الناس أحكام العبادة والطهارة، وإلى أن نعلم الناس ما يحل وما يحرم عليهم في معاملاتهم وفي بيعهم وشرائهم، وفي حديثهم ومنطقهم وفي سلوكهم.
وهي مهمة يمكن أن يقوم بها الجميع من خلال عقد حِلَقِ العلم، من خلال المساهمة بالمادة وبالرأي، والمساهمة بالتشجيع والتأييد.
ثالثًا: بيان الحق والدين:
إن من حق الأمة أن تسمع كلمة الحق واضحة، وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا العلم بأن يبينوه للناس؛ ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، لقد عاب الله عز وجل على أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ﴾ [البقرة: 159، 160]، فلا تُقبل توبتُهم إلا إذا بيَّنوا، والذين يسكتون عن بيان الحق مقابل نصيب عاجل من الدنيا لن يكون لهم نصيب يوم التغابُن؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، إذًا مع هذا الوعيد الشديد على كتمان ما أنزل، مع هذا الذم لأولئك الذين أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا للناس دين الله، لا يبقى لأحد من هذه الأمة عذر أن يعلم أمرًا مما أنزله الله فيكتمه.
لماذا أنزل الله عز وجل هذا الدين؟ لماذا أنزل هذه النصوص التي تأمر الناس بالخضوع لله دون سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا ما أنزل الله عليهم؟ أن يعلموا لماذا أنزل الله هذه النصوص التي تأمر بالاحتكام إلى شرع الله سبحانه ونبذ التحاكم إلى ما سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا أن المؤمن يجب عليه أن يبرأ مِن كلِّ كافِرٍ؟ أليس مما أنزل الله على الناس النهي عن أن يأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة؟ أليس من واجب من آتاه الله علمًا أن يبلغ الناس؟ أليس مما أنزل الله أن تَحتشم المرأة وتتحجَّب وأن تبتعد عن مجالس الرجال؟ أليس من واجب من آتاه الله علمًا أن يبلِّغ ما آتاه الله؟
إذًا فكل ما جاء عن الله في كتابه وسنة رسوله، فهو بحق يجب أن يعلمه الناس، ولولا ذلك لما أنزل الله آيات تتلى إلى يوم القيامة، وحين يُكتم عن الناس هذا الأمر، فإننا نستوجب على أنفسنا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، أيحق بعد ذلك لأحد من هذه الأمة أن يكتم شيئًا مما أنزل الله؟
رابعًا: دعوة سائر الناس إلى الإسلام:
ومن صور الأمانة التي تتحملها الأمة أجمع نقل هذا الدين إلى سائر المجتمعات، كم يموت كل يوم على الشرك والكفر؟ كم يموت ممن لا يعلم شيئًا عن دين الله؟ كم يموت من أولئك الذين يعتقدون أن نبيهم هو الميرزا غلام أحمد؟ أو الذين يمرِّغون جباههم عند قبر الحسين؟ وكم يموت من أولئك الذين يطوفون حول قبور من يزعمون أنهم من أولياء الله؟ كم يموت على النصرانية والبوذية وعلى الإلحاد في العالم بأسره ممن لم يسمع كلمة الحق واضحة؟
وواقع هؤلاء مسؤولية من؟ واجب من؟ فهل دعوة هؤلاء واجب فئة أو طائفة خاصة؟ أم هو واجب أمة أجمع؟
في هذا العصر الذي يمتاز بأنه عصر الانفجار الهائل في وسائل الاتصال ونقل المعلومات، والذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كما يقال، مع ذلك يتخلى المسلمون لتبقى قنوات الفضاء ووسائل الاتصال والأجهزة الحديثة وقفًا على دعاة الفاحشة والرذيلة، أو على دعاة الضلال! أما أهل المنهج الحق الذين حمَّلهم الله تبليغ هذا الدين للأمة أجمع كما أخبر قائلهم وقد وقف بفرسه على المحيط: يا ربِّ، والله لو أعلم خلف هذا البحر قومًا لخضته لأدعوهم لدين الله.
مسؤولية من وأمانة من دعوة هذا العالم بأسره إلى عبادة الله؟ أليست مسؤولية المسلمين؟ أليست أمانة المسلمين أجمعين صغيرهم وكبيرهم؟
أسأل الله أن يعلي كلمته، ويَنصر دينه؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
قصص عن الأمانة:
1- صاحب العقار:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهو يَحكي لأصحابه رضي الله عنهم: ((اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرض، ولم أبتعْ منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض (أي: الذي باعها): إنما بعتُك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكِحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدَّقا)).
2- ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل أنه سأل رجلًا من بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار، فقال: ائتِني بالشهداء أُشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فائتِني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمَس مَركَبًا يَركبها يَقدَمُ عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبةً ونقَرها، فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، فقال: اللهمَّ إنك تعلم أني كنتُ تسلفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلًا، فقلتُ: كفى بالله كفيلًا، فرضيَ بك، وسألني شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يَلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهلِه حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثمَّ أقدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنتَ بعثت إليَّ شيئًا؟ قال: أُخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِف بالألف دينار راشدًا.
3- في القادسية: ماذا فعل سعد بن أبي وقاص بكنوز كسرى؟
لما فتح المسلمون القادسية ونصرهم الله، ورفعوا (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) في القادسية، سلم لسعد بن أبي وقاص ذهب وفضة، واستولى على خزائن كسرى، ولما رآها دمعت عيناه وقال: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 29].
فجمع الجيش وقال: هذه أمانة، فما رأيكم؟
قالوا: نرى أن تدفعها لعمر بن الخطاب الخليفة، فما أخذوا منها درهمًا ولا دينارًا.
4- بينما كان الرجل يسير بجانب البستان وجد تفاحة ملقاة على الأرض، فتناول التفاحة وأكلها، ثم حدثته نفسه بأنه أتى على شيء ليس من حقه، فأخذ يلوم نفسه، وقرَّر أن يرى صاحب هذا البستان، فإما أن يُسامِحَه أو أن يدفع له ثمَنَها، وذهب الرجل لصاحب البستان وحدَّثه بالأمر، فاندهش صاحب البستان لأمانة الرجل، وقال له: ما اسمك؟ قال له: ثابت، قال له: لن أسامحك في هذه التفاحة إلا بشرط أن تتزوَّج ابنتي، واعلم أنها خرساء، عمياء، صمَّاء، مشلولة، إما أن تتزوجها وإما لن أسامحك في هذه التفاحة، فوجد ثابت نفسه مضطرًّا، يوازي بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فوجد نفسه يوافق على هذه الصفقة، وحين حانت اللحظة التقى ثابت بتلك العَروس، وإذ بها آية في الجمال والعلم والتُّقى، فاستغرب كثيرًا، لماذا وصفها أبوها بأنها صماء مشلولة خرساء عمياء؟ فلما سألها قالت: أنا عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما يُغضب الله، ومشلولة عن السير في طريق الحرام، وتزوج ثابت بتلك المرأة، وكان ثمرةَ هذا الزواج: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت.
5- أمانة الهدهد مع سليمان:
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]... إلى قوله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[النمل: 44].
6- كان في مكة رجل صالح ومحبوب من الناس، كان فقيرًا جدًّا كان يعيش بمكة هو وزوجته، وهي امرأة صالحة، وفي ذات يوم قالت الزوجة: يا زوجي العزيز، لا يوجد طعام في المنزل ولا ملبس ولا أي شيء، حزن الزوج بشدة، وقام بالذهاب إلى السوق لكي يبحث عن عمل يناسبه ويشتري الطعام والملابس للمنزل، ولكن بعد البحث بفترة لم يجد عملًا نهائيًّا، حزن بشدة، وبعدها ذهب إلى البيت الحرام لكي يصلي ركعتين ويدعو الله أن يرزقه الرزق الحلال ويفرِّج عنه كربه، وبعد الانتهاء من الصلاة وهو ذاهب إلى منزله وجد كيسًا في الأرض، فتح هذا الكيس فوجد بداخله فلوسًا كثيرةً، أخذ الكيس وذهب إلى منزله ليحكي لزوجته عن الكيس الذي معه، ولكن زوجته قالت له: هذا المال ليس مالَنا، لا بدَّ أن يردَّ لصاحبه، وبالفعل رجع إلى المكان الذي كان يوجد به الكيس، ووجد رجلًا ينادي: من وجد كيسًا فيه فلوس؟ فرحَ الرجل الفقير؛ لأنه وجد صاحب الكيس، وقال لصاحب الكيس: أنا وجدته، فقال له الرجل صاحب الكيس: خذ الكيس فهو لك، استغرب الرجل الفقير، قال له: لقد طرحت هذه الفلوس وناديت عليها، فلو ردَّها أحد فهو أمين ويستحق هذا المبلغ، ففرح هذا الفقير جدًّا.
7- ذات يوم خرج أحد التجار الأُمناء في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليَبيع في مَتجرِهِ، فجاء رجل يهوديٌّ واشترى ثوبًا كان به عيب، فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعتُه لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع على عيبه، فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر، فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل، لقد اشتريتَ من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب، فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((من غشَّنا، فليس منا))؛ (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيَّفة، وأعطاه بدلًا منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
8- روي أنه كان في بيت مال المسلمين عقد جميل من اللؤلؤ، فعلمتْ به ابنة سيدنا علي رضي الله عنه، فأرادت أن تتزيَّن به في عيد الأضحى، فأرسلت إلى علي بن رافع خازن بيت المال تطلب منه أن يُعيرها ذلك العقد تتزين به في العيد، ثم ترده بعد ثلاثة أيام، فأرسل إليها خازن بيت المال العقد بعد أن استوثق منها أنها تردُّه، فلما لبسته وتزيَّنت به، رآه عليها أمير المؤمنين فعرفه، فقال لها: من أين جاء إليك هذا العقد؟ قالت: استعرتُه مِن ابن رافع لأتزين به في العيد ثمَّ أرده، فأرسل علي رضي الله عنه إلى الخازن، فلما جاءه قال له: أتخون المسلمين يا بن رافع؟ فقال والدهشة تعلو وجهَه: معاذ الله أن أخون المسلمين!
فقال علي رضي الله عنه: كيف أعرْتَ بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنها ابنتُك، وسألتْني أن أعيرها العقد على أن تردَّه بعد ثلاثة أيام.
فقال عليٌّ لخازن بيت المال: ردَّه، وإياك أن تعود لمثله فتنالك عقوبتي، ثم قال: ويلٌ لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مَضمونة، لكانت إذًا أول هاشمية قُطعت يدها في السرقة، فلما بلغ ذلك ابنته، قالت له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنتُك وبضعة منك، فمَن أحق بلبسه منِّي؟
فقال لها: يا ابنة أبي طالب، لا تذهبي بنفسك عن الحق، أكلُّ نساء المهاجرين والأنصار يتزينَّ في العيد بمثل هذا؟
فأخذه ابن رافع وردَّه.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.