عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-08-2020, 05:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التشبيه المستطرف: رؤية نقدية

التشبيه المستطرف: رؤية نقدية (1/2)
عيد شبايك


وهذا التحليل وَصَفَ حركةَ الشمس وتموجَها وصفًا أدقَّ من وصف الشاعر، ويظهر من خلال هذا التحليل سبب إعجاب عبدالقاهر بهذا البيت، وكأنه ينظر إليه من زاوية اقتداره علـى وصف الشيء وصفًا كاشفًا مستوعبًا، لا يدع فيه لمحة، ولا حركة، ولا خاطرة إلا أشار إليها بما يكشفها، وذلك إنما يكون مع صحة الفطرة، وصدق الملكة، وقوة الخيال، فالإدراك الذي لا يفلت منه شيء في المدرك إدراكٌ صحيحٌ، ومثل ذلك الإدراك أمر "لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس، فضلاً عن أن تكمل العبارة لتأديته، ويبلغ البيان صورته"[46]؛ لأن وصف الحركة من أصعب أبواب الوصف؛ لأن تصويرها بالكلمات حتـى تكون فيها كما تراها العين تجول وتضطرب، عمل لا ينهض به إلا ذوو المواهب الفذة[47].
ومما جاء من ذلك ولطف وعرف، لما فيه من التفصيل والتركيب مع اهتمام بالغ بوصف الحركة قول ابن الرومـي يصف "الخباز"، وهو يدحو الرقاقة:
إِنْ أَنْسَ لاَ أَنْسَ خَبَّازًا مَرَرْتُ بِهِ *** يَدْحُو الرُّقَاقَةَ وَشْكَ اللَّمْحِ بِالبَصَرِ
مَا بَيْنَ رُؤْيَتِهَا فِي كَفِّهِ كُرَةً *** وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا قَوْرَاءَ كَالقَمَرِ
إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تَنْدَاحُ دَائِرَةٌ *** فِي لُجَّةِ المَاءِ يَرْمِي فِيهِ بِالحَجَرِ
هنا استخدم الشاعر الخيال التصويري لرسْم صورة الخباز وهو يدحو الرقاقة، مستعينًا بموهبته الفطرية، وأدواته الفنية، ودقَّة مُلاحظته، فقدم لنا صورة تشبيهية تثير الدهشة والعجب في نفس قارئها، فالخباز يتناول كرة العجين في يده، فيبسطها بسرعة، ويمطها بحركة سريعة، فتزداد استدارتها بالتدريج، وهكذا تتتابع الحركات في مهارة وسرعة في بسط العجينة ومطها حتـى تصير قوراء كالقمر.
ثم ربط الشاعر هذا المشهد في خياله المحلق بما يتشكل في صفحة الماء الساكن حين يلقي فيه بالحجر، فتتوالد دوائر متتالية متتابعة في سرعة تزداد اتساعًا بالتدريج حيث تبدأ كل منها صغيرة عند المركز ثم تتسع وتنداح شيئًا فشيئًا.
ومما يلفت النظر في هذه الصورة التي تكشف عن موهبة ابن الرومـي الأصيلة في هذا التصوير، هو التركيز علـى استخدام التشبيه، مقترنًا بكلِّ ما يخاطب حاسة العين، وكلا الأمرين موصول بالآخر وصل المفردات البصرية بما يؤكد تشخيص الجماد، وبث الحياة والمشاعر في حضوره الذي يغدو حضورًا إنسانيًّا.
ويلفت الانتباه في المشهد - ثانيا - أن المشاعر الإنسانية المنسربة فيه لا تتجلـى إلا بمشابهات بصرية، تعمل ترابطاتها علـى إثارة تداعيات شعورية، تدعم الحالة الوجدانية التي يؤديها المشهد، ويجسدها في الوقت نفسه، وهـي مشابهات لا تخلو من عنصر المفاجأة الناتج عن الجمع بين ما لا يجتمع عادة في الوعـي، والوصل بين المتباعدات التي تتقارب علـى نحو مباغت في اتجاه شعوري بعينه، أقصد إلـى دهشة العقول من صنعة الفن في هذا التشبيه المستطرف الذي بقـي يغالب الزمن، ويشهد ببراعة ابن الرومـي الشاعر.
ما أجمل الصورة! وما أروع التعبير عنها! كيف استطاع الشاعرُ اقتناص وجه الشبه على هذه الدرجة من البعد والغرابة؟
"إن أصدق الصور ما كانت ممكنة في الواقع، إن لم تنتزع منه فعلاً"[48]، تأمل الأبيات مرة أخرى، ترَ براعة التصوير الحسي لدى ابن الرومي في وصف صانع الرقاق لتصويره في أوضاعه المتلاحقة، واستيعاب المشهد بكل جزئياته وحركاته وتحوُّلاته في هذه الصورة التمثيلية النادرة النظير، فهي من المشابهات الخفية التي يدق المسلك إليها؛ لأن الطرفين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف، وقد استطاع الشاعر بمهارته أن يوجد بينهما اتفاقًا كأحسن ما يكون الاتفاق وأتمه، " فبمجموع الأمرين - شدة ائتلاف في شدة اختلاف - حلا وحسن وراق وفتن"[49].
تأمَّل الأبيات مرة أخرى تر أن حواس الشاعر كلها تشترك اشتراكًا حيًّا في الوصف، وأنت أمام مشهد حي متحرك تراه بعينيك، وتنفعل له كما ينفعل له الشاعر، فهو لم يكتف برسم الخطوط العامة للصورة، وإنما يعمد لرسم التفاصيل وتصوير الظلال في غاية الانتباه والدقة حتـى يستقيم واقع الصورة كما يراها ويحسها.
إن عين الشاعر هنا توصف بأنها عين رائية، بمعنـى أنها ترى الأشياء وتتغلغل في باطنها، لا مجرد النظر إليها، لذلك لا تحاكـي صور الشاعر عناصر الطبيعة كما هـي؛ وإنما تقدمها معدلة بفعل اندماجها في علاقات شعورية جديدة، هـي علاقات لغوية، لا نرى معها عناصر الطبيعة في ذاتها، وإنما نراها من خلال الشاعر لها وإحساسه بها.
هكذا استطاع ابن الرومي بشاعريته الفذة أن ينقل المعنـى بهذا البيان المقتدر في هذه الصورة الديناميكية إلـى عالم الشعر بقوة إحساسه، ورحابة خياله، ودقة ملحه، لتظل علـى الأيام تشهد للشعر بقوة السحر، وتثبت جملة ما للبيان من القدرة والقدر.
إن العقاد كان علـى حق في اعترافه ببراعة ابن الرومي في هذا النمط التصويري حين قال: "إنه ينظر إلـى الأشياء بعين مصور صناع، لا يفوتها لون من الألوان التي تنسجها خيوط الشمس في ائتلاف أو اختلاف، وفي سطوع أو خفوت، فإذا أضفت إلى ذلك مقدرته في تصويره الحُدُب، والصلع، والقصار، وأصحاب اللّحـى الكثيفة، والأنوف الغليظة، أمكنك أن تقول أيضًا: ولا يفوتها شكل من الأشكال، فهو فنان، لا تنقصه إلا الريشة واللوحة، بل لا تنقصه هاتان؛ لأنه استعاض عن الريشة بالقلم، وعن اللوحة بالقرطاس، فاكتفى بهما، وأثبت في النظم البديع ما لا تثبته الألوان"[50].
وفي إدراكي أن الجاحظ هو الذي خطط لهذا التفكير الجمالي حين ذهب إلـى أن "الشعر صناعة وضرب من النسج، وجنس من التصوير"[51]؛ لأن الشعر - عنده - مقصور على تلك العبقرية التصويرية التي يفتقد الشعر بافتقادها أعظم عناصر فاعليته وتأثيره.
وقد ذكرنا قَبْلُ أن وصف الحركة من الصعوبة بمكان، لا يتأتَّـى إلا لمن أوتي خيالاً رحبًا، ولغة طيِّعة ومهارة في الوصْف، والدليل علـى ذلك "إذا أراد المرءُ أن يثبت هذا "المشهد الحركي" بالرسم علـى اللوحة احتاج أن يصنع فيها صورًا كثيرة تمثل كل منها واحدًا، ولكنه بعد أن يفعل ذلك لا يكون قد صنع شيئًا علـى الحقيقة، ولم يمكنا من النظر إلـى جملتها كما فعل ابن الرومي في أبياته الثلاثة"[52].
وبقدر ما تكثر التفاصيل في التشبيه، وتعظم بنيته التركيبية تعظم قيمته البلاغية، لما يشـي به ذلك من ملاحظة أدق، ورؤية أعمق لمظاهر الاشتراك بين الطرفين، واقتراب أكثر من حالة تطابق بينهما، وإلـى ذلك أشار عبدالقاهر بقوله: "وجملة القول: إنك متـى زدت في التشبيه علـى مراعاة وصف واحد أو جهة واحدة، فقد دخلت في التفصيل والتركيب، وفتحت باب التفاضل ثم تختلف المنازل في الفضل، بحسب الصورة في استنفادك الاستقصاء، أو رضاك بالعفو دون الجهد"[53].
وكما تعتبر هيئة الحركة في التشبيه، كذلك تعتبر هيئة السكون علـى الجملة وبحسب اختلافه، نحو هيئة المضطجع، وهيئة الجالس، فإذا وقع في شيء من هيئات الجسم في سكونه تركيب وتفصيل، لطف التشبيه وحسن[54]؛ كقول الأخيطل في وصف مصلوب:
كَأَنَّهُ عَاشِقٌ قَدْ مَدَّ صَفْحَتَهُ *** يَوْمَ الوَدَاعِ إِلَى تَوْدِيعِ مُرْتَحِلِ
أَوْ قَائِمٌ مِنْ نُعاسٍ فِيهِ لُوثَتُهُ *** مُوَاصِلٌ لِتَمَطِّيهِ مِنَ الكَسَلِ
لقد أورد المبرد هذين البيتين في "الكامل"[55]، وبين أن التصوير في البيتين ينص علـى "ابتكارية" خيال الشاعر، من حيث بُعد العلاقة في صورة البيت الأول بين العاشق الذي ينبض قلبه بالحياة والحب، والمصلوب الذي خمدت فيه جذوة الحياة، ومن حيث بُعد العلاقة أيضًا في صورة البيت الثاني بين المصلوب الموشك علـى الموت، والشخص القائم من نومه يدفع عن نفسه الكسل بتنشيط جسمه، فيعمد إلـى مدِّ ذراعيه، وفتح عينيه ليبدأ يومًا جديدًا، فهذا البُعد الماثل بين طرفي الصورة في كل من البيتين دليلٌ علـى قدرة التخيل الابتكاري الذي يثير في نفس المتلقي أحاسيس التعجب والدهشة والإعجاب، والذي يوفق ويؤلف "بين الصفات المتضادة أو المتعارضة بين المتشابه والمختلف، بين المجرد والمحسوس، بين الفكرة والصورة، بين الفردي والعام، وهي التي تجمع بين الإحساس بالجدة والرؤية المباشرة، والموضوعات القديمة المألوفة، وبين حالة غير عادية من الانفعال ودرجة عالية من النظام"[56].
ويتوقَّف عبدالقاهر في شرح هذا التشبيه المركب، والذي يعتبره من التشبيه المستطرف لكثرة التفصيل فيه فيقول: "ولَم يلطف إلا لكثرة ما فيه من التفصيل، ولو قال "كأنه متمطٍّ من نعاس" واقتصر عليه، كان قريب المتناول؛ لأن الشبه إلـى هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداءً لكونه من باب الجملة، فأما بهذا الشرط وعلـى هذا التقييد الذي يفيد استدامة تلك الهيئة، فلا يحضر إلا مع سفر من الخاطر، وقوة من التأمل، وذلك لحاجته إلـى أن ينظر إلـى غير جهة، فيقول: "هو كالتمطي"، ولكن المتمطي يمد ظهره ويديه مدة، ثم يعود إلـى حالته فيزيد فيه أنه مواصل لذلك التمطي، ثم أراد طلب علته وهي قيام اللوثة والكسل في القائم من النعاس[57].
وفي البيت الأول اعتبر هيئة سكون عنقه وصفحته في حال امتدادها، واعتبر مع ذلك السكون صفة اصفرار الوجه بالموت؛ لأن تلك الهيئة موجودة في العاشق المادِّ عنقه وصفحته لوداع المعشوق، في هيئة أضيف إلى السكون فيها غيره من أوصاف الجسم[58].
وهذا أصل فيما يزيد به التفصيل، وهو أن يثبت في الوصف أمر زائد علـى المعلوم المتعارف ثم يطلب له علة وسبب[59]، فالمستفاد من الصورة هو صورة التمطي والكسل، وهيئته الخاصة وزيادة معنـى وهو بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن تكون عليها، إضافة إلـى الاستقصاء الموجود في البيتَيْن.
إن النظرة المفصَّلة تتأمل الأشياء، وتتعمق التفاصيل الدقيقة، والفروق الخاصة بين الأشياء، ومن ثم إدراك النادر الذي لا يقع ذكره بالخاطر دائمًا، ومع أن التفصيل والاستقصاء والدقة أمور ضرورية في الشعر، إلا أن مهمتها لا تقتصر علـى مساعدة القارئ علـى تفهم المعنـى منفصلاً عن غيره من انفعالات الشاعر، فهو لا يربط بين الصورة والشعور أو الفكرة، بل يميل إلـى العناية في التشبيه بالشكل والتمثيل الحسـي والبصري خصوصًا للمعنـى، ويبنـي استحسانه علـى الندرة وبعد ما بين جنسـي المشبه به والمشبه، مهما يكنْ موقع الصورة من الفكرة والشعور[60]، ولا يصح الوقوف عند مجرد التشابه الحسـي القائم علـى مجرد الحصر المنطقـي لكل أجزاء المشابهة دون ربط هذا التشابه بالشعور المسيطر علـى الشاعر في نقل تجربته، والوقوف عند مُجَرد التشابه في الصور البيانية دون اعتبار للانفعالات والمشاعر الإنسانية.
فبراعة التشبيه تَتَمَثَّل في قدرته علـى إيقاع الائتلاف بين الأشياء المختلفة، مع وجود مشابهة لها أصل في العقل، بيد أنها خفية لا يستطيع أن يصل إليها إلا المهَرة في الفنون، ومن كان عميق الإحساس والذوق، ولا يهمل دور الانفعالات، والمشاعر الإنسانية في قيمة التشبيه.
رابعًا: الاستطراف والتخييل:
لقد كشف لنا البلاغيون، والفلاسفة المسلمون وهم يتحدثون عن فن الشعر، عن قيمة الدلالة الإيحائية الداخلية وأبعادها النفسية، ومدى تأثيرها في نفس المتلقـي؛ من حيث إحداث الاستجابة المطلوبة.
يقول ابن سينا: "إن الكلام المخيل تذعن له النفس فتنبسط عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانيًّا"[61].
وقد كشف لنا الرئيس ابن سينا عن بُعد نفسـي آخر للتخييل، حينما ذهب إلـى أن النفس تجد لذة في التخييل، كاللذة التي تجدها في الحسيات، فهـي تركن إليه لتعوض به عن إخفاقها في إشباع حاجاتها الحسيَّة، وذلك عن طريق تذكر اللذات الحسيَّة بواسطته.
يقول ابن سينا: "وليس كل اللذيذات عن الحس، بل في التخييل لذات أيضًا، وإن كانت بالأحرى أن تنسب إلـى الحس، فإن الذاكرين اللذات يلتذون بها"[62]، وهذا يذكرنا بما ذهب إليه علماء النفس المحدثون من أن الإنسان قد يلجأ إلـى أحلام اليقظة، وهـي درب من دروب التخييل، لينفس به عن مشاعره المكبوتة، ويوهم نفسه بإشباع رغباته في الخيال، بعد أن أخفق في إشباعها علـى نحو الحقيقة، فيجد في أحلامه تلك لذة ومتعة[63].
ويعلل حازم القرطاجنـي إذعان النفس وانبساطها للتخييل من غير روية أو تفكُّر، فيرى أن التخييل يشغل النفس عن تفقد مواضع الكذب والمبالغة في الكلام[64]، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب، فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس - كما يقول حازم -: "إذا اقترنت بحركتها الخيالية، قوي انفعالها وتأثرها"[65].
وإذا تم ذلك, فإنه حينئذ قادر علـى إحداث الاستجابة المطلوبة، ودفع المتلقـي لاتخاذ الموقف المناسب من التجربة الشعرية، فيستطيع "أن يحبب إلـى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتُحْمل بذلك علـى طلبه أو الهرب منه"[66]؛ لأن الشعراء يمكنهم حمل النفوس علـى ما يريدون بتهييج مشاعرها، وإلهاب عواطفها، وبعث وجداناتها، فتنطلق إلـى الشأو المرسوم كالسهم المرسل لا يلوي علـى شـيء.
وعن صلة التخييل بالتشبيه يقول عبدالقاهر: "وينبغـي أن تعلم أن باب التشبيهات قد حظـي من هذه الطريقة بضرب من السحر لا تأتـي الصفة علـى غرابته، ولا يبلغ البيان كنه ما ناله من اللطف والظرف"[67].
يقول أبو عبدالله بن مرزق الأندلسي في علة الكتابة بالسواد في البياض:
وَلَمَّا أَنْ نَأَتْ مِنْكُم دَيَارٌ *** وَحَالَ البُعْدُ بَيْنَكُمُ وَبَيْنِي
بَعَثْتُ لَكُمْ سَوَادًا فِي بَيَاضٍ *** لِأَنْظُرَكُمْ بِشَيْءٍ مِثْلِ عَيْنِي
ألست ترى أن هذا الشاعر قد استطاع أن يخدعنا بهذا التعليل البديع المخترع؟ ثم ألست تحس نغمة الحزن والكمد التي تسود الشعر وتنضح بلوعة الشاعر وتفجعه وتوجعه؟
"لأَنظركم بِشَيْءٍ مِثْل عَيْنِي"
ما أشجى هذه الكلمة! لقد تركزت فيها تجربة الشاعر وانتقلت إلينا كاملة غير منقوصة، فإذا نحن مثله نتشكـى نأي الديار وبُعد المزار[68].
ويقول أبو المحاسن الدمشقي في سوداء[69]:
زَعَمُوا أَنَّنِي بِجَهْلٍ تَعَشَّقْ *** تُكِ سَوْدَاءَ دُون بِيضِ الغَوَانِي
لَيْسَ مَعْنَى الجَمَالِ فِيكِ بِخَافٍ *** إِنَّمَا أَنْتِ خَالُ خَدِّ الزَّمَانِ
هكذا ترى قدرة الشاعر على أن يريك الجمال في شـيء لا جمال فيه، وأن يضفي جمالاً علـى شيء ليس جميلاً في ذاته، وذلك كله على طريقة الادعاء والتخييل التي هي جوهر الشعر.
"وقد يقصد الشاعر على عادة التخييل، أن يوهم في الشيء الذي هو قاصر عن نظيره في الصفة أنه زائد عليه في استحقاقها، واستيجاب أن يجعلَ أصلاً فيها، فيصح علـى موجب دعواه وسرفه، أن يجعل الفرع أصلاً، وإن كنا رجعنا إلى التحقق، لم نجد الأمر يستقيم على ظاهر ما يوضع اللفظ عليه، ومثاله قول محمد بن وهيب يمدح المأمون:
وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ *** وَجْهُ الخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ
فهذا على أنه جعل وجه الخليفة كأنه أعرف وأشهر، وأتم وأكمل في النور والضياء من الصباح، فاستقام له بحكم هذه النية أن يجعل الصباح فرعًا، ووجه الخليفة أصلاً"[70].
وهكذا جاءت المبالغة في التشبيه من المفارقة بين طرفيه سواء ألحق الناقص بالزائد أو العكس، وفـى هذه الحال يحتاج المتكلم إلـى توكيد الكلام أو الزيادة في إثباته؛ لأن المبالغة خيال، والخيال غير متفق عليه، ولا يستساغ إلا بزيادة التوكيد، ومن هنا فإن التوكيد في الكلام الخيالـي أو التصوير ضرورة يحتمها السياق؛ للتأثير في أنفس المتلقين.
والذي يسوِّغ هذه المبالغة - وغيرها من المبالغات في الشعر - قلب التشبيه حيث يقوم هنا علـى الادعاء والتخييل، فالشاعر لا يقصد إلـى إيهام أن وجه الخليفة في ضيائه مريدًا المساواة بينهما - لوضوح الفرق بين الصبح ووجه الخليفة - وإنما يدعي علـى طريقة الشعر في التخييل أن صفة الإشراق في وجه الخليفة أكمل منها في الصبح، فصار الفرعُ أصلاً والأصل فرعًا، وهذا لا يصح عند التحقيق، وإنما يصح بمقتضـى قوانين الشعر وأعرافه، ومنطقه القائم علـى "الادعاء والتخييل"، وهذا ما يراه حازم القرطاجني معتبرًا في صناعة الشعر، لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة، "فقد يعد حذقًا للشاعر اقتداره علـى التمويه علـى النفس، وشدة تخيله في إيقاع الدلسة إليها في الكلام"[71]، ولما كانت النفس مطبوعة علـى ذلك "اشتد ولوعها بالتخيل، وصارت شديدة الانفعال له، حتـى إنها ربما تركت التصديق للتخيل فأطاعتْ تخيلها وألغت تصديقها"[72].
ولذلك يرى قدامة أن براعة الشعر لا تنفصل عن قدرته, علـى الإفراط في وصف ممدوحيه بما يرفعهم عن مستوى البشر العاديين[73].
فمن ذلك قول المتنبي[74]:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ *** فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ
فقد ادعـى لممدوحه أنه فاق الأنام، وفاتهم إلـى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة، بل صار؛ كأنه أصل بنفسه وجنس برأسه[75].
ومما يصب في هذا القرار قول حافظ إبراهيم يمدح الإمام محمد عبده[76]:
إِمَامَ الهُدَى إِنِّي أَرَى القَوْمَ أَبْدَعُوا *** لَهُمْ بِدَعًا عَنْهَا الشَّرِيعَةُ تَعْزُفُ
وَبَاتُوا عَلَيْهَا جَاثِمِينَ كَأَنَّهُمْ *** عَلَى صَنَمٍ لِلْجَاهِلِيَّة ِ عُكَّفُ
فَأَشْرِقْ عَلَى تِلْكَ النُّفُوسِ لَعَلَّهَا *** تَرِقُّ إِذَا أَشْرَقْتَ فِيهَا وَتَلْطُفُ
فَأَنْتَ بِهِمْ كَالشَّمْسِ بِالبَحْرِ إِنَّهَا *** تَرُدُّ الأُجَاجَ المِلْحَ عَذْبًا فَيُرْشَفُ
الشاعر يطلب من الإمام أن يشرق علـى هؤلاء أصحاب البدَع بعلمه ونصحه؛ لعل نفوسهم تتفتح، وطباعهم ترق بتأثير علمه، فإذا كانت الشمس تحول ماء البحر المالح - بفعل حرارتها - عذبًا يرتشف، فالإمام جدير بأن يبدلَ طباع هؤلاء بتأثير علْمه وأخلاقه.
والشاعر علل ما يمكن أن يحدث من تغيير لهؤلاء المنحرفين بتأثير دروس الإمام وتوجيهاته ونور علمه، بأن الشمس تحول ماء البحر الأجاج - بفعل حرارتها - عذبًا مستساغًا، وقوله: "تَرُدُّ الأُجَاجَ المِلْحَ عَذْبًا" فيه تناص مع قوله - تعالى -: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) [الفرقان: 53].
إن ما ساقه الشاعر من سبب وعلة وليد خيال خصيب، ونتاج وجدان حي وعاطفة ذاكية، وقد ساق تعليله من خلال تشبيه تمثيلي رائع زاد المعنـى وضوحًا، وأكسبه تأكيدًا واستطرافًا، وأثار مكامن الاستظراف من نفس المتلقي، ودلّ علـى براعة الشاعر وحِذقه في عقد المشابهة بين حالتين ما كان يخطر بالبال تشابههما.
"والبراعة التي يمكن أن يحتسبها الذوق القديم؛ لحافظ في هذا التشبيه قرينة الهدف من البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضـى الحال مع فصاحته، ولا شك أن المضمون الديني للتشبيه يلتقي مع طبيعة الممدوح - الشيخ محمد عبده - من حيث هو رمز ديني كبير، سواء في تجديده الفكر الديني، أو توليه منصب الإفتاء، أو إشرافه علـى الأزهر الشريف، وكلها علامات تؤكد الحضور الروحي للإمام الذي يمكن أن تتحول أعماله إلـى صحف أبرار، خصوصًا في عيني الشاعر الذي أحبه كل الحب"[77].
ويذهب ابن الأثير ومن بعده العلوي إلـى أن المتكلم يريد بتشبيهه تقرير المشبه في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه، وأول ما يستفاد من ذلك المبالغة، فإنها لا تنفك عنه وإلا لم يكن تشبيهًا؛ لأن إفادته للمبالغة مقصده الأعظم، وبابه الأوسع، وكلَّما كانت المبالغة أكثر كان التشبيه أدخل في البلاغة وأوقع فيها[78]، وذلك مثل قول الشاعر:
وَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّ حَامِلَ كَأْسِهَا *** إِذْ قَامَ يَجْلُوهَا عَلَى النُّدَمَاءِ
شَمْسُ الضُّحَى رَقَصَتْ فَنَقَّطَ وَجْهَهَا *** بَدْرُ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الجَوْزَاءِ
فالشاعر شبه الساقـي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب بالكواكب إغراقًا ومبالغة فأحسن وأبدع[79]؛ لأنه أضفـى علـى المعنـى قوة باستخدامه "كأن" التي تدلل علـى يقين المتكلم بما يقول[80].
ومما ينظم في هذا العقد قول أبي العلاء يصف شمعة[81]:
وَصَفْرَاءَ لَوْنِ التِّبْرِ مِثْلِي جَلِيدَةٌ *** عَلَى نُوَبِ الأَيَّامِ وَالعِيشَةِ الضَّنْكِ
تُرِيكَ ابْتِسَامًا دَائِمًا وَتَجَلُّدًا *** وَصَبْرًا عَلَى مَا نَابَهَا وَهْيَ فِي الهُلْكِ
وَلَوْ نَطَقَتْ يَوْمًا لَقَالَتْ: أَظُنُّكُمْ *** تخَالُونَ أَنِّي مِنْ حِذَارِ الرَّدَى أَبْكِي
فَلاَ تَحْسَبُوا دَمْعِي لِوَجْدٍ وَجَدْتُهُ *** فَقَدْ تَدْمَعُ الأَحْدَاقُ مِنْ كَثْرَةِ الضّحْكِ
نلحظ موطن الاستطراف في هذا التشبيه في قلبه؛ لأن القريب إلى العادة أن يشبه الإنسان بالشمعة لا العكس، حيث إن صفة الاحتراق حقيقية في الشمعة، وغير حقيقية في الإنسان، بعد أن شبه المعري الشمعة بنفسه، خلع عليها صفات إنسانية، حيث جعل تساقطَ السائل منها دموعَ بكاء، غير أن هذا البكاء ناشئ عن كثرة الضحك لا عن خوف الهلاك.
لقد رسم الشاعر صورة للشمعة بالألفاظ، حتـى أظهرها في صورة رائعة مؤثرة، إذ استحالت بفعل رؤية الشاعر إلـى غادة صبور متجلدة علـى ما ينالها، فجعلها تحس وتتكلم وتعبر عمَّا بداخلها.
ومما يدعم الإحساس بجمال التشبيه ما تضمنه من مفاجآت لطيفة؛ حيث يعقد الشاعر صلة وثيقة بين أمرَيْن متباينين لا يلبث أن يريكهما متآلفين، هذا بالإضافة إلـى أن الصورة قائمة علـى التخييل بما فيها من تشخيص وحوار، وقد طوى البيت الأخير مفاجأة أخرى، وهـي التعليل الطريف الذي جاء علـى لسان الشمعة "فَقَدْ تَدْمَعُ الأَحْدَاقُ مِنْ كَثْرَةِ الضّحْكِ"، فهو بمثابة قول مأثور أو حكمة بنيتْ علـى مقابلة لطيفة استدعاها المقام فأدت الغرض وكشفتْ عن قوة البيان.
وهذا ما فعله أبو العلاء في هذه الصورة الشعرية الغانية بما اشتملتْ عليه من مفاجآت كانت مبعث الاستطراف، وعلَّة القَبُول والاسترواح.
لا شك أن الخيال هنا لعب دورًا بارزًا في صنع هذه الصور التشبيهيَّة؛ حيث كشفت الصنعة الشاعرة عن مفاجآت الشعراء للمتلقين بما يثير دهشتهم، ويستحوذ علـى إعجابهم، "والصنعة إنما تمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتِّساع والتخييل، وحيث قصد التلطُّف والتأويل، وهنا يجد الشاعر سبيلاً إلي أن يبدع ويزيد، ويُبدئ في اختراع الصورة ويعيد، ويصادف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا"[82].
إن عين الشاعر ليست عينًا سالبة تتلقَّـى الأشياء والأشكال كما هـي لتعكسها في صورة مِرآوية، وإنما هـي عين موجبة، عين رائية - أي: لرؤية الأشياء والتغلغل في باطنها، لا النظر إليها - فهـي تُعيد تركيب الأشياء وتشكل عناصرها من جديد، حيث تضفـي ألوانها الخاصة علـى كل شـيء تراه أو تلمسه أو تدركه في ترابطات شُعُورية دالة، وهذا ما عناه قول بعضهم: "إن الشعر مأخذ وطريقة"[83].
خامسًا: الاستطراف والجدة والابتكار:
اشترط البلاغيون لطرافة التشبيه أن يكونَ جديدًا مبتكرًا، ليحدث في النفس نوعًا من المفاجأة بغير المتوقع مما يثير دهشتها، ويستجلب شغفها.
وليس المقصود بالابتكار الإنشاء من عدم، أو الابتداع علـى غير مثال سابق، وإنما الابتكار "أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس، فتسكب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا، يبهر العين، ويدهش العقل، أو أن تعالج الموضوع الذي كاد يبلـى بين أصابع السابقين، فإذا هو يضيء بين يديك بروح من عندك[84].
والحقيقة "أن الفن ليس في الهيكل، إنه في تلك الأشعة الجديدة التي يستطيع الفنان أن يستخرجها من هيكل تلك الموضوعات والحوادث, والوقائع"[85].
"فالفنان لا يسعـى وراء فكرة نادرة أو غريبة، بل وراء طريقة جديدة يصور بها فكرة مألوفة، فالربيع لهوراس وفاليري فكرة عادية، وموضوع مبتذل، لكن الفنان صورها بطريقة جديدة غريبة"[86].
وذلك باب من أبواب الإبداع الذي تذكر به الموهبة ويحسب لها؛ لأن مظهر المقدرة البيانية ليس فقط في تشكيل صور وتشبيهات، وكشف علاقات جديدة؛ وإنما يكون أيضًا في تجديد الصور الأليفة الرتيبة.
والناس من قديم يشبهون العيون في فعلها بالخمر, والسيوف, , والسهام، لا يكادون يخرجون عن ذلك.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]