وصدق ربي إذ يقول: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 117].
إن التوكل من الدعاء والدعاء عبادة فمن صرف التوكل إلى غير الله فقد صرف العبادة إلى غير الله وهذا شرك، ولذلك قال علماؤنا: "الاعتماد بالقلب على غير الله -عز وجل- في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من جلب نفع أو دفع ضر، كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق والشفاعة وغيرها هذا شرك أكبر في ألوهيته – سبحانه – لأنه صرف لإحدى العبادات لغير الله وهي من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله وحده ".[11].
فهذه أقسام التوكل وبالإجمال فالتوكل على الله وحده واجب والتوكل على غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر والتوكل على غير الله من المخلوقين إن كان فيما هو في استطاعتهم فينبغي أن يتعلق القلب بالله في قضاء المصالح، وإلا كان تعلق القلب بغير الله في هذه الحالة شركاً أصغر وهو حرام كذلك.
أيها الإخوة! إن من صفات المؤمنين التوكل على ربهم ولذا مدحهم الله به وأثنى عليهم لما تلبسوا به، وينبغي أن يوطن كل منا قلبه على ذلك ليرزقه الله تمام الإيمان وكمال الإسلام فليرسخ في قلوبنا ولتعقد النياط عليه، على ماذا؟ على أنه لا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك ولا تسود دولة ولا تزول دولة ولا يجيء حاكم ولا يزول حاكم إلا بأمر مدبر السموات والأرض: "﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 26، 27].
ولذلك فالمؤمن إن اعتقد هذه العقيدة كفاه الله ووقاه ونصره ونجاه وإن لم يكن معه من الخلق أحد بل ولو كان الخلق جميعهم ضده قال ابن مسعود: الجماعة هي الحق ولو كنت عليه وحدك وصدق الله القائل لنبيه: "يا أيها النبي حسبك الله "نعم كفى به ملاذًا ومعتمدًا وصدق الله القائل: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" القائل: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر: 36 - 38].
فمم يخاف العالمون؟ إذا كان الله معك فماذا خسرت؟ وإذا كانت الدنيا كلها معك وليس الله معك فقد خسرت، ولذا كان المتوكلون على الله هم المنصورون لما لجأوا إلى إعلان التوكل على الله فمن كان في ضيق وكرب فمحض وجرد التوكل والاعتماد على الله أتاه الفرج سريعًا من الله، ولنطف سوياً بهذه المثل نستنشق عبيرها ونشم طيبها وأريجها.
فهذا إبراهيم عليه السلام يلقى في النار التي لو قدر الله لها أن تأكله لما تحمل منها ذرة ولما قضى فيها ثانية بل ينتهي الأمر وينقضي في لمح البصر، فماذا قال إبراهيم حتى ينجو؟ تعلق قلبه بالله وحده وأعلن ذلك قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله لجنديه النار"كوني برداً وسلاماً على إبراهيم"فخرج منها عليه السلام لم يمس بسوء.
روى البخاري وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[12] فهذا الخليل يلجأ إلى الله في الشدة بتجريد التوكل والتجرد من الحول والقوة إلى الاعتماد على رب البرية فيفرج الله شدته ويبدد الله ظلمته ويفك الله كربته.
وهذا الكليم موسى عليه السلام يخرج من مصر ببني إسرائيل هارباً من بطش فرعون الذي لو أدركهم لن يفلت منهم اليوم الكبار ويذبح الصغار كما كان يفعل، بل يقضي على الصغار والكبار في آن وقدر الله أن يذهب موسى ليلاً بقومه فيتجهون إلى البحر وينتهون إلى شاطئه وما إن وصلوا حتى سمعوا صوت صهيل الخيول وصليل السيوف فعرفوا أن فرعون وجنوده قد لحقوا بهم وتخيلوا مع هذا هدير شلالات الدم التي تقام بعد قليل من صلب وقتل وقطع ونسي القوم العظيم الجليل الذي أمرهم ابتداء بالخروج والتفتوا إلى موسى قائلين: "﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61] هذا الجيش قد أتى وهذا البحر قدامنا منعنا من مواصلة السير فإلى أين المفر؟ إنا لمدركون لا محالة لا مفر لا محيد لا مهرب. فقطع موسى الكليم عليه السلام هذه الوساوس قائلاً في ثقة واعتماد وتوكل على الله: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62، 63] نعم "معي" هذه الكلمة كافية أن تطمئن النفوس الهالعة والقلوب المفزّعة فارتدت النفوس إلى القلوب لتطمئن القلوب بدورها الأطراف والجوارح قائلة بلسان الحال طالما "معي" فقد أعد المهرب والمفر، قد أعد موسى عدته حتى لهذا الموقف فلتهدأوا ولتطمئنوا لا تقلقوا، ولهذا السبب -أيها الإخوة- قدم موسى عليه السلام لفظة المعية على لفظة الربوبية فقال: "إن معي ربي" ولم يقل إن ربي معي، ذلك لأنه يخاطب أنفسًا فى شك وريب وتردد لاتتمتع بثقه ولم يرسخ فى قلوبها إيمان أو يقين، وأنجى الله موسى ومن معه كما قال -عز وجل- ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 63 - 68].
أيها الإخوة! إذا كان هذا موقف الخليل وهذا موقف الكليم فإن موقف الحبيب كان أعظم وأجل وأعلى.. نعم فها هو الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة المباركة تلك الرحلة التي تجلت فيها حقائق الإيمان والتوكل معاً مقترنين يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة بعدما أخذ بالأسباب جميعها كما سأبين بعد قليل وكان آخرها الاختباء في الغار ولكن يقدر الله أن يصل المشركون إلى باب الغار وأخذوا يطوفون ويدورون حوله، وهنا دب القلق على النبي في قلب الصديق رفيق النبي في الغار الصديق أبوبكر المبكر المبارك فقد خاف على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى مستقبل الإسلام والدعوة كلها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل لوائها ورافع رايتها وعبر عن خوفه ذاك قائلاً: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدمه لأبصرنا فقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي وأمتي ونفسي يعلم الصديق أن"آخر الأسباب للمؤمن اطراحه بين يدي الله وتفويضه أمره كله إليه في ثقة واطمئنان وقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الوسائل في طلب النجاة حتى حشر نفسه التي طلب النجاة لها في غار مظلم تسكنه العقارب والحيات ولذا قال في ثقة المؤمن ويقين المتوكل لصاحبه لما ساوره الخوف: "لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما". [13].
أخي! هل تدبرت هذه اللفظة النبوية في التعبير عن معية رب البرية "اثنين الله ثالثهما" اثنين الله ثالثهما، إذاً فلتخرج مكة كلها بخيلها ورجلها، برجالها ونسائها وأطفالها، بشيوخها وشبابها، بل لتخرج الدنيا بأسرها لتبحث عن محمد وصاحبه فوالله لو قلبوا رمال الصحراء حبة حبة لن يصلوا أبداً إلى اثنين الله ثالثهما.
وأمثله التوكل لا تقف عند حد الرسل والأنبياء وإن كانوا القدوة العظمى في ذلك روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِىَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِىَ بِكَ، وَأَنِّى جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِى لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّى أَسْتَوْدِعُكَهَا. فَرَمَى بِهَا في الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهْوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِى طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَىَّ بِشَىْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى جِئْتُ فِيهِ. قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِى بَعَثْتَ فِى الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا » [14].
أكتفي بهذه الأمثلة الأربعة الرائعة لأنتقل إلى العنصر الأهم في اللقاء كله ألا وهو كيف يحقق العبد منزلة التوكل، وإلا فوالله لو ظللنا نتحدث عن المتوكلين ونطوف في بستانهم ما كفتنا جمعات وجمعات.
أقول: إننا أمة التوكل شرعيًا ومنهجيًا، لكننا نقصر في هذه الفريضة كثيرًا جدًّا عمليًّا وتطبيقيًّا حتى ضعف لدينا عطاؤها و مظاهر ضعف التوكل على الله والتعلق بغيره، والاعتماد على سواه، بلي بها كثير من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وسنتحدث عن هذه المظاهر بعد جلسة الاستراحة هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة! قلت: إن ضعف التوكل والتعلق بغيره، والاعتماد على سواه، قد بلي به كثير من الناس، ومن مظاهر ذلك:
أن كثيراً من الناس إذا نزلت بهم الأمراض أو أصابتهم الأسقام تعلقت قلوبهم بالأسباب الحسيّة وغفلوا عن قوله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ فتجد فريقاً ممن أصيبوا بالأمراض علقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء، ومنهم فريق جاب الفيافي والقفار وقطع الصحاري والبحار، وشرَّق وغرَّب في الأمصار، يلاحق السحرة والمشعوذين يرجو منهم رفع البلاء، وكشف الضراء، فخربوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم، ففسدت قلوبهم، ووهنت أبدانهم ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ فاتقوا الله عباد الله فإن من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فكيف يا عبد الله تطلب الشفاء من السحرة والكفرة الذين لا حول لهم ولا قوة وتغفل عن الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء كيف تيأس من روحه ورحمته وقد وسعت رحمته كل شيء أما سمعت نبي الله أيوب عليه السلام ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
ألم تر كيف أجابه الكريم المنان "﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾" فاتقوا الله عباد الله وإياكم إياكم إياكم أن تأتوا هؤلاء الكهنة والمشعوذين تحت أي ظرف، فلأن تموت يا عبد الله مريضاً موحداً مؤمناً خير لك من أن تموت صحيحاً معافىً مشركاً، فـ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾.
ومن مظاهر ضعف التوكل أن الناس إذا نزلت بهم المصائب وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع، وفروا إلى غير مهرب، فتجد الواحد من هؤلاء إذا نالته نائلة توجه إلى مخلوق مثله يطلب شفاعته وغوثه وتحقيق طلبه، ولو أن هؤلاء صدقوا الله لكان خيراً لهم، طرقوا كل باب وسلكوا كل سبيل إلا أنهم غفلوا عن الله الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون فإنه سبحانه قد قال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾. أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه ما أهمه وأقلقه فاتقوا الله عباد الله وأنزلوا حاجاتكم بالذي ينادي كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له".
جاء رجل إلى الربيع بن عبد الرحمن يسأله أن يكلم الأمير في حاجة له فبكى الربيع -رحمه الله- ثم قال: أي أخي اقصد إلى الله -عز وجل- في أمرك تجده سريعاً قريباً فإني ما طلبت المعونة من أحد في أمرٍ أريده إلا الله فأجده كريماً قريباً لمن قصده وتوكل عليه.
ومن مظاهر ضعف التوكل عند بعض الناس: التشاؤم والتطير ببعض الأسماء أو الأشخاص أو الأرقام أو الألوان أو الأيام أو الشهور وغير ذلك من الشرك المحرم قال - صلى الله عليه وسلم-: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك). [15].
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله -جل وعلا- ولا يدفع السيئات إلا الله سبحانه، فعلقوا قلوبكم بالله يا عباد الله واعتقدوا قوله -جل وعلا-: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107] [16].
هذه بعض مظاهر ضعف التوكل على وجه السرعة.
وأخيرًا أيها الإخوة كيف يحقق العبد منزلة التوكل والجواب على ما ذكره العلامة السعدي -رحمه الله- [17] أن سبيل ذلك أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة.
فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين.
وأخيراً أيها الإخوة هل يتعارض التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب؟ والجواب بحول الملك الوهاب: إن الذي أمرنا بالأخذ بالأسباب هو الله تعالى والذي أخذ بالأسباب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والله هو الذي أمرنا بالتوكل ورسول الله هو سيد المتوكلين على ربه، فهل ترى بين هذا من تعارض؟ واسمع إلى هذه الدرر الغوالي الغاليات يقول الشوكاني -رحمه الله-: "والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك.
وقال للذي سأله أيعقل ناقته أو يتوكل؟: "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل.[18].
فعلى أهل التوكل الحق أن يلزموا عتبة التوكل ومتى صح التوكل على الله صحت كفايته لعبده فلا يحتاج إلى أحد ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لأحد فيه.
نعم فالتوكل لا يتم إلا مقترناً بالأسباب المشروعة فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل بشرط أن يعتقد العبد أنها بإذن الله وتقديره.
ولذا قيل: الأخذ بالأسباب المشروعة من تمام التوكل وعدم الأخذ بالأسباب يقدح في التوكل بل يقدح فى العقل.
حبيبي! "إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فأفرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله، وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة"، كما يقول ابن القيم طيب الله ثراه.
أسأل الله أن يجعل اعتمادنا عليه ويقيننا فيه واستسلامنا له وثقتنا به وتفويضنا إليه.
اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك ومن التفويض إلا إليك ومن التوكل إلا عليك ومن الإنابة إلا لك ومن الرجاء والأمل إلا من يديك الكريمتين واسلموا لمن يحبكم... الدعاء.
[1] أخرجه ابن حبان 1 / 247، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2250.
[2] طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص 264).
[3] من مظاهر ضعف التوكل - خطبة على موقع المنبر.
[4] مروج الذهب للمسعودي (2/309).
[5] نهاية الأرب للنويري (6/168).
[6] علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 76)، للأستاذ الشيخ محمد المجذوب، دار الشواف.
[7] منهاج المسلم 171، 172، المكتبة القيمة.
[8] أخرجه الترمذي (2517)، والبيهقي في"شعب الإيمان"(2/80)، وحسنه الألباني في"صحيح الجامع"(1068).
[9] نزهة المجالس ومنتخب النفائس - (ص / 224)، تفسير النيسابوري - (1 / 44).
[10] قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول : توكل عبادة وخضوع ، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه ، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر ، فيعتمد عليه اعتماداً كاملاً ، مع شعوره بافتقاره إليه ، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى ، ومن صرفه لغير الله ، فهو مشركاً أكبر ، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين ، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون ، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار .
الثاني : الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك ، وهذا من الشرك الأصغر ، وقال بعضهم : من الشرك الخفي ، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه ، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار ، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر ، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب ، بل جعله فوق السبب .
الثالث : أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه ، كما لو وكلت شخصاً في بيع شيء أو شرائه ، وهذا لا شيء فيه ، لأنه أعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا فوقه ، لأنه جعله نائباً عنه ، وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له شاة ، وهذا بخلاف القسم الثاني ، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك ، ويرى اعتماده علي المتوكَّل عليه اعتماد افتقار، القول المفيد (2/ 29).
[11] عون العلي الحميد (2 / 105).
[12] أخرجه البخاري (4563، 4564).
[13] أخرجه البخاري 3615، ومسلم 7706.
[14] أخرجه البخاري 2291.
[15] أخرجه أحمد 7045، وغيره، وصححه الألباني انظر حديث: 6264 في صحيح الجامع.
[16] من مظاهر ضعف التوكل – خطبة من موقع المنبر.
[17] القول السديد (ص / 122).
[18] نيل الأوطار للشوكاني أبواب الطب باب إباحة التداوي وتركه تحت الحديث (3762).