عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-08-2020, 01:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي وما لنا ألا نتوكل على الله؟

وما لنا ألا نتوكل على الله؟


أحمد الجوهري عبد الجواد







إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.



اللهم صل على محمد وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.



روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت

بأنَّه خير مبعوثٍ من البشرِ



عمَّت فضائله كل البلاد كما

عمَّ البرية ضوء الشمس والقمرِ






أما بعد فيا أيها الإخوة.. ما من عبد يسعى إلى رضا ربه وإن سخط عليه الناس إلا رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، إذ قلوب الخلق بين يديه هو -جل وعلا-، وما من عبد يرضي الناس بسخط الله إلا كانت العاقبة أن يسخط الله عليه وأن يسخط عليه الناس فباء خاسراً منتكسًا مقلوبا عليه قصده بأن صار على عكس مراده ولم يغن الناس عنه من دون الله شيئاً بل وعاد حامده منهم ذاما له، وقد نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان وجود إسناده الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" [1].



والسر في هذا -أيها الإخوة- أن من أرضى الله بسخط الناس كان بذلك قد اتقى الله وكان عبده الصالح والله تعالى يتولى الصالحين وهو كاف عبده "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب وهذا هو لب التوكل على الله وأساس الاعتماد عليه وقاعدة تفويض كل الأمور إليه قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب".



وصدق الذي قال:



فليتك تحلو والحياة مريرة

وليت الذي بيني وبينك عامر



إذا صح منك الود فالكل هين

وليتك ترضى والأنام غضاب



وبيني وبين العالمين خراب و

كل الذي فوق التراب تراب






ولذلك -أيها الإخوة- عظمت منزلة التوكل على الله حتى صارت من الإيمان كمثل الرأس من الجسد، وصارت نهاية تحقيق التوحيد وساقي العبادة التي لا تقوم إلا بهما ولهذا قال ربنا وأحق القول قول ربنا -عز وجل-: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23].



قال العلامة ابن القيم: "فجعل سبحانه التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولذا يجمع الله في مواضع من كتابه بين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية.[2].



قال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 84 - 86].



وقال جل شأنه: "فالتوكل على الله -أيها الإخوة- فريضة على كل من وحد الله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].



"أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون حوائجهم إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً."[3].



فما هو التوكل؟ وما منزلته؟ وما أقسامه؟ وما هي مظاهر ضعف التوكل؟ وكيف يحقق العبد منزلة التوكل؟ وأخيراً هل يتعارض التوكل مع الأخذ بالأسباب؟.



فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الإخوة- والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.



أيها الإخوة ما هو التوكل؟ التوكل هو الاعتماد على الله وتفويض الأمور إليه وإظهار العجز له والثقة بما في يديه الكريمتين والانخلاع من كل حول وطول وقوة ومدد وعون إلا منه جل جلاله فهو المولى وهو النصير، لما نام الزبير بن العوام على فراش الموت دخل عليه ابنه عبد الله بن الزبير فرأى الزبير ابنه مهموماً حزيناً فقال: يا بني مالي أرى عليك كآبة هم وغمامة حزن؟ فقال: ديونك يا أبت؟ ديون عليك كثيرة كيف نسددها؟ فقال الزبير بلغة المتوكل على الله المعتمد عليه الواثق بالله المفوض أموره كلها إليه قال: يا عبد الله إذا عجزت عن سداد شيء من ديني فاستعن عليه بمولاي فلم يفطن إليها عبد الله فقال: ومن مولاك يا أبت فقال الزبير: مولاي هو الله نعم المولى ونعم النصير، مولاي هو الله نعم المولى ونعم النصير، يقول عبد الله فما وقعت في شيء من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير بن العوام اقض عنا دين الزبير حتى يفرج الله كربنا ويقضي عنا.



قال ابن عباس: التوكل هو الثقة بالله. وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك.



ولله در الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه الذي جاء إلى النبي يحمل كل ماله حين حث رسول الله الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة) [4].



وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله، ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ماعنده، فقال له رسول الله: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً[5].



أبقيت لهم الله ورسوله، ولا زالت هذه الثقة في الله في أصحاب الصدق والسبق الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان فها هو العالم الأجل الإمام المفضال عبد الرحمن الإفريقي أستاذ ابن عثيمين ورفيق الشنقيطي وهذا الجيل المبارك -رحمه الله- وطيب ثراه يحكي المجذوب عنه فيقول: ودرت أخلاف الرزق على الشيخ المهاجر فدرت معونته للمحاويج أعطاه الله فأطعم عباد الله يقول: حتى ليكاد ينسى مسئوليته نحو بيته وذريته، فإذا قيل له: دع بعض هذا لآلك. قال: إني تارك لهم خيرًا من ذلك. الله رب العالمين، يقول المجذوب: وصدق الله ظن الشيخ فتولى عنه رعاية بنيه الأربعة وبناته الأربع فغمرهم بالفيض من نعمائه، وساق إليهم ضروب التوفيق من حيث لا يحتسبون.[6].



هذا هو التوكل على الله -عز وجل- "والمسلم إذ يدين لله تعالى بالتوكل عليه والاطراح الكامل بين يديه لا يفهم من التوكل ما يفهمه الجاهلون بالإسلام وخصوم عقيدة المسلمين من أن التوكل مجرد كلمة تلوكها الألسن، ولا تعيها القلوب، وتتحرك بها الشفاه، ولا تفهمها العقول، أو تترواها الأفكار، أو هو نبذ الأسباب وترك العمل، والقنوع والرضا بالهون والدون تحت شعار التوكل على الله والرضا بما تجري به الأقدار، لا أبدًا بل المسلم يفهم التوكل الذي هو جزء من إيمانه وعقيدته أنه طاعة الله بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها، فلا يطمع في ثمرة بدون أن يقدم أسبابها ولا يرجو نتيجة ما بدون أن يضع مقدمتها، غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب، وإنتاج تلك المقدمات يفوضه إلى الله -سبحانه وتعالى- إذ هو القادر عليه دون سواه. فالتوكل عند المسلم إذًا هو عمل وأمل، مع هدوء قلب وطمأنينة نفس، واعتقاد جازم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، "وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً". [7].



إن قعود قوم بدون عمل زاعمين أنهم متوكلون على الله معتقدين أن هذا هو التوكل الذي شرعه الإسلام إن هذه لأغلوطة كبرى في حق الإسلام، لا يحاسب الإسلام أبداً عنها إنما يحاسب من أخطأ فهمها عن الإسلام، وقد قال سيد المتوكلين على الله تعالى فيما روى الترمذي وسنده حسن من حديث أنس لما قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل (لأنه قد ترك الناقة سائبة) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل".[8].



فالتوكل عمل وعقيدة وليست كلمة خفيفة ترددها الألسنة الطويلة وتعجز عن تحقيقها الأيدي القصيرة، رأى عمر بن الخطاب في رحلة الحج أناساً لا زاد لهم ولا راحلة فقال من أنتم؟ قالوا نحن المتوكلون على الله، فقال عمر يصحح لهم الفهم: بل أنتم المتوكلون على القافلة ثم قال قولته الخالدة: "إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".



أيها الإخوة! ولقد "كان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجرًا.... فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها وربما كفيها فرعيت له وكان يحلب للحي أغنامهم ومن نوادر ذلك أنه لما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي (الآن لا تحلب لنا منائح دارنا) فسمعها أبو بكر فقال: (بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه من خلق كنت عليه) فكان يحلب لهم" فلما استُخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالاانطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما.



إن للمتوكلين على الله حالًا، يقص صاحب نزهة المجالس ومنتخب النفائس علينا قصة وكذا ذكرها النيسابوري في التفسير: عن طاووس اليماني التابعي قال: جاء أعرابي إلى باب المسجد الحرام فنزل عن ناقته وعقلها وقال: يا رب هي في ضمانك ودخل فصلى صلاة كاملة ودعا دعاء حسنا فلما خرج من حرم الكعبة لم يجد الناقة فقال بفطرته وسجيته: يا رب أديت أمانتك فأين أمانتي؟ يا رب إنه ما سرق إلا منك، فلم يمكث حتى جاء رجل نازل من جبل أبي قبيس فنظرنا فإذا هو قد قطعت يده وهو يقود الناقة فتعجبنا من ذلك قال طاووس: فسألناه ما سبب ذلك قال جاءني رجل على فرس أشهب فقطع يدي وقال لي: رد الناقة على ولي الله [9].



ولما حج هشام بن عبد الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: يا سالم! سلني حاجة، فقال: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم خرج هشام في أثره فقال له: الآن قد خرجت من بيت الله فسلني حاجة، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟.



وهذا التوكل -أيها الإخوة- إنما يظهر ويتضح بجلاء ويقوي القلب على جمعه واحتوائه إذا أنزله العبد منزلته ولم يره أمراً دون ما جعل الله له من المكانة والمنزلة فما منزلة التوكل على الله تعالى؟ ما هي رؤية الإسلام له في المكانة والفضل والتي ينبغي أن يراها له المسلم؟.



ولنتأمل لمعرفة ذلك آيات من القرآن العظيم: قال الله تعالى:﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ و قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23] وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 5].



أرأيت أيها الحبيب إلى ذلك الارتباط الذي يربط به القرآن الكريم بين التوكل والإيمان وهذا معناه أن التوكل من الإيمان بل صريح الآية: "﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23] يقتضي أن يكون التوكل شرطاً في الإيمان إذا وجد التوكل فتم الإيمان وإذا ذهب التوكل ذهب الإيمان، وأيضًا إشارة إلى أن الإيمان يوجد على قدر وجوده ولذا فالمسلم لا يرى التوكل على الله تعالى في جميع أعماله واجباً خلقياً فحسب بل يراه فريضة دينية ويعده عقيدة إسلامية وهذا من منطلق فهمه لهذه الأوامر الربانية ولهذا كان التوكل المطلق والتسليم التام لله -سبحانه وتعالى- جزءاً من عقيدة المؤمن بالله تعالى: فلابد للمؤمن من تمحيض التوكل وتجريد الاعتماد على الله ولذا قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 22] والعروة الوثقى هي لا إله إلا الله، وما مكانة لا إله إلا الله في الإسلام؟ ألم أقل لحضراتكم إن التوكل عقيدة واجبة وفريضة لازمة.



ولهذا لا ينبغي أبداً أن يتصرف الإنسان فيها هكذا سبهللاً يصرفها إلى من يشاء ويصرفها عمن يشاء بل لابد من ضبطها بالضوابط الشرعية وقياسها بالموازين الربانية والنبوية فيعرف الإنسان على من يعتمد وفي أي شيء؟



وهذا هو جواب السؤال: ما هي أقسام التوكل؟

أيها الإخوة الاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه وهو ما يعرف بالاعتماد على الأسباب شيء والاعتماد على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق شيء آخر، والاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه مع حفظ القلب من الالتفات عن الله شيء ثالث.



فهذه ثلاث بينها بون شاسع وفرق كبير، فالاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه أي من الأحياء الحاضرين القادرين فيما يقدرون عليه من الأمور مع العلم واليقين والاعتقاد الجازم بأنه لا يأتي بالنفع والضر إلا الله وأنهم ما هم إلا سبب فهذا جائز ومن أدلته حديث الأعمى والأقرع والأبرص فقد كان الملك يقول فيما يقول: "وليس لي بلاغ إلا بالله تعالى ثم بك".



ولذا نقول: اعتمدت على الله ثم عليك في هذا الأمر، توكلت على الله ثم عليك في هذا، فوضت هذا الأمر إلى الله ثم إليك وهكذا بلا نكير، فهذا جائز لكن دون أن يلتفت القلب إلى العبد أو السبب وينسي مسبب الأسباب سبحانه وأنه هو النافع الضار في الأمر كله فهذا حرام، انتبه أيها الغالي! أما من اعتمد على المخلوق فيما يستطيعه ويقدر عليه دون التفات إلى كون النفع والضر كله بيد الله تعالى فهذا أشرك شركًا أصغر، وهو حرام نعم لأنه اعتماد وتوكل على الأسباب الظاهرة دون الاعتماد على مسبب الأسباب -سبحانه وتعالى-.



وهذا كأن "يعتمد العبد على الطبيب لحصول الشفاء فيعالج عند طبيب معين لمهارته مع الثقة بالشفاء في يديه أو كالاعتماد على كثرة الجيش وقوته لحصول النصر أو الاعتماد على الوظيفة في الحصول على الرزق، وعلى مهارة السائق في السلامة" وهكذا، آه فالأمر جد خطير ليس باليسير، فتش في قلبك أيها الحبيب فتش في قلبك ما الذي بداخله؟ هل بداخله الاعتماد على الله تعالى وحده والتوكل عليه دون سواه؟ أم هو الاعتماد على شيء آخر لا ينفعك ولا يضرك من ناحية ما ترجو ولكن يضرك من حيث عقيدتك فيفسدها عليك ويضعف إيمانك بالله، فيجب على كل أخ وأخت من الآن أن يفتش عن قلبه.



وقد قال تعالى: "وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين" فهذا أمر منه سبحانه بأسلوب الحصر أن يتوكل المؤمنون عليه وحده ولا يتوكلوا على غيره فيخالفون بذلك الإيمان الواجب عليهم. [10].



أما الاعتماد على المخلوق في شيء لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- فهذه الطامة الكبرى والمصيبة العظمى سواء كان ذلك الاعتماد على أحد من الأحياء أو الأموات وهو الشرك الأكبر الذي حذر منه رب الأرض والسموات وجاء بالتبري منه كل نبي وكل رسول فلا اعتماد إلا على الله، ولا ثقة إلا بالله ولا يقين إلا في الله ولا توكل إلا على الله، قال ربي وأحق القول قول ربي جل في علاه: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون"لا تجعلوا لله نداً تطلبون منه ما لا يقدر عليه إلا هو -سبحانه وتعالى- من الشفاء أو السلامة أو الحفظ أو الرزق أو النسل.



يحكي لنا بعضهم فيقول: كنت معهم أريد أن أرى ماذا يفعلون دعوني أكثر من مرة لأحضر معهم يقولون إنهم يرجعون يكادون يطيرون في السماء تحليقاً من الشعور بنعيم ومتعة ما سمعوا، ذهبت لأحضر معهم فما رأيت إلا شركاً بالله وكلاماً لا يليق يسمونها حضرة وما هي كذلك بل هي غيبة غيبة عن الشعور غيبة عن العقل غيبة قبل هذا وهذا عن الدين والشرع قال: والطامة الكبرى أننا خرجنا من عند شيخهم وتركناه وراءنا لما ركبنا الحافلة وسارت بنا إلى ما يقرب من منتصف الطريق كادت تنقلب بنا لولا ستر الله تعالى ولطفه بنا، ولكن العجيب أنني سمعت صراخهم أثناء ما كان السائق لا يستطيع السيطرة على السيارة كانوا يرفعون أصواتهم عالية يجأرون وينادون أتدرون من كانوا ينادون؟ أتدرون بمن كانوا يستغيثون؟ لقد كانوا ينادون الشيخ الذي تركناه وراءنا على بعد عشرات الكيلومترات، ينادونه ليحفظهم ويمسك بهم ولا يهلكهم! فأخذت أقول في دهش: سبحان ربي، وتساءلت: هل هؤلاء مسلمون حقاً؟

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]