ليس في دين الله ما يدل على ذلك أبدًا، ولكن هذه المزاعم إذا عاشت في نفوس الناس كان لها أثر في حياتهم وواقع في علاقاتهم جراء التطير الذي يعلق بالنفس وتسعى هي إلى التشبث به، ومن عجيب ما قرأت مما يمكن أن يندرج ضمن حديثنا هذا ما أخرجه الدارمي بسند حسن عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهَا زَوْجٌ تَاجِرٌ يَخْتَلِفُ فَكَانَتْ تَرَى رُؤْيَا كُلَّمَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَلَّمَا يَغِيبُ إِلاَّ تَرَكَهَا حَامِلًا فَتَأْتِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَقُولُ: إِنَّ زوجي خَرَجَ تَاجِرًا وتركني حَامِلًا، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ سَارِيَةَ بيتي انْكَسَرَتْ وَأَنِّى وَلَدْتُ غُلاَمًا أَعْوَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"خَيْرٌ، يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى صَالِحًا، وَتَلِدِينَ غُلاَمًا بَرًّا". فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا، فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلاَمًا، فَجَاءَتْ يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَائِبٌ، وَقَدْ رَأَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا فَقُلْتُ لَهَا: عَمَّ تَسْأَلِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: رُؤْيَا كُنْتُ أُرَاهَا فَآتِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا فَيَقُولُ خَيْرًا فَيَكُونُ كَمَا قَالَ. فَقُلْتُ: فأخبرني مَا هي. قَالَتْ: حَتَّى يأتي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْرِضَهَا عَلَيْهِ كَمَا كُنْتُ أَعْرِضُ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهَا حَتَّى أخبرتني فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَيَمُوتَنَّ زَوْجُكِ وَتَلِدِينَ غُلاَمًا فَاجِرًا، فَقَعَدَتْ تَبْكِى وَقَالَتْ: مَا لي حِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكِ رؤياي؟ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِىَ تَبْكِى فَقَالَ لَهَا: "مَا لَهَا يَا عَائِشَةُ؟". فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ وَمَا تَأَوَّلْتُ لَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْ يَا عَائِشَةُ، إِذَا عَبَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِ الرُّؤْيَا فَاعْبُرُوهَا عَلَى خَيْرٍ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا تَكُونُ عَلَى مَا يَعْبُرُهَا صَاحِبُهَا". فَمَاتَ وَاللَّهِ زَوْجُهَا وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَاجِرًا. [20]
فانظر كيف كان النبي يبعد عن الشيء الذي يتطير ويتشاءم به حتى يحفظ على المسلم دينه.
قال صلى الله عليه وسلم "ولا صفر"، لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، "صفر" هو شهر صفر الشهر المعروف من الأشهر العربية وكانوا يتشاءمون به فلا يتزوجون ولا يسافرون ولا يتاجرون ولا يفعلون أي شيء أيامه لأنهم يعتقدون أنه مشئوم.
وقال بعض العلماء: إنهم كانوا يعتقدون بمرض في المعدة يقال له: صفر يُعدي أيضًا فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا صفر".
يعني إن كان الشهر فليس في الشهر شؤم فالشهور كلها شهور الله وهي ظروف للأعمال كلها النافعة والضارة الخيرة والشريرة وإنما النفع والضر والخير والشر بيد الله، وإن كان المرض فكذلك الأمراض إنما هي بيد الله - سبحانه وتعالى - هو وحده الذي ينزلها وهو الذي يرفعها هو الذي يمرض وهو الذي يشفي ويعافي - سبحانه وتعالى - لا دخل للشهور ولا غيرها في مقادير الله - عز وجل -.
"لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء"، وسنفرد الخطبة القادمة بمشيئة الله للحديث عن الأنواء والكواكب ومنازلها وفهم الناس الخاطئ المتعلق بها لنعلم أنه لا دخل للأنواء وهي النجوم في شيء كما كان يعتقد أهل الجاهلية فيها من هبوب الرياح أو نزول الأمطار إلى غير ذلك مما عاب - عز وجل - عليهم فيه بقوله سبحانه: "﴿ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ ﴾ - ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ أي وتجعلون المطر من عند غير الله فتنسبونه إلى الأنواء والنجوم والكواكب والبروج فنفى النبي ذلك بقوله: "ولا نوء"، وسيأتي معنا الحديث عن هذا مشبعًا في الخطبة القادمة إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء.
وقال صلى الله عليه وسلم "ولا غول": والغول - أيها الإخوة - هو من أعمال الشياطين إذ تتشكل أمام الناس في الأماكن الخالية خصوصًا إذا استوحش الإنسان لتضله عن الطريق وترعبه وكان أهل الجاهلية يرون ذلك في سفرهم إما في شكل نار تنتقل أو أصوات تسمع أو أي شيء تخيفهم الشياطين به ليأسروا قلوبهم ويعلقونها بغير الله إمعانًا في الإضلال لهم حتى صاروا يعتقدون أنها تحدث لهم شرًا وكل على حسب ما يخيفه ومن عجيب ما قرأت بهذا الصدد ما ذكره الحافظ الكبير الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره سورة الجن عند قوله تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا قال أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملًا - يعني صغيرًا - من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك يعني يا عظيم هذا الوادي أنا مستجيرك انظر إلى الشرك وثب فقال: يا عامر الوادي جارك قال فنادى مناد ولا نراه يقول: يا سرحان وسرحان اسم من أسماء الذئب، قال: يا سرحان أرسله، اترك هذا الحمل الصغير فتركه فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة ولا جرحة قال وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].
قال العلامة الفطن اللبيب الحافظ ابن كثير: "وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة كان جنيًّا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويغويه ويخرجه عن دينه، والله أعلم.[21]
فنفي النبي صلى الله عليه وسلم للغول نفي لكونه يملك نفعًا أو ضرًا، نعم الغول لا يملك نفعًا ولا ضرًا ولا يحدث لنا شرًا انتبه انتبه ولا تحدث لنا شرًا إذا أخذنا بالعلاج النبوي والوقاء المصطفوي الذي علمنا إياه الحبيب النبي وما هو؟ ذكر الله - عز وجل - ففي الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: أرسلني أَبِى إِلَى بَنِى حَارِثَةَ - قَالَ - ومعي غُلاَمٌ لَنَا - أَوْ صَاحِبٌ لَنَا - فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ - قَالَ - وَأَشْرَفَ الَّذِى معي عَلَى الْحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَبِى فَقَالَ لَوْ شَعَرْتُ أَنَّكَ تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ وَلَكِنْ إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلاَةِ فإني سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاَةِ وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ".[22] أي ضراط، فإن حدث لك - أخي الحبيب - شيء من هذا فبادرت إلى ذكر الله - عز وجل - فإن ذكر الله يطرد الشيطان، إذا ذكرت الله تعالى أو تلوت القرآن انصرف عنك كل ذلك، لكن بقلب واثق، لا تخش أحدًا يا رجل، فإن معك الله، ملك الملوك وجبار السموات والأرض فإذا فعلت ذلك ذهبت هذه الحيل الشيطانية أدراج الرياح.
روى الترمذي عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأنصاري أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ فَكَانَتْ تجيء الْغُولُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ قَالَ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ "فَاذْهَبْ فَإِذَا رَأَيْتَهَا فَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَجِيبِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -".
قَالَ فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ". قَالَ حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ فَقَالَ "كَذَبَتْ وَهِىَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ". قَالَ فَأَخَذَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ". قَالَ حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ. فَقَالَ "كَذَبَتْ وَهِىَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ". فَأَخَذَهَا فَقَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِكِ حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَتْ إني ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئًا آيَةَ الكرسي اقْرَأْهَا في بَيْتِكَ فَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلاَ غَيْرُهُ.
قَالَ فَجَاءَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ". قَالَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ. قَالَ "صَدَقَتْ وَهِىَ كَذُوبٌ".[23]
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن عبد الله بن أبي بن كعب: أن أباه أخبره: أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال: فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال: فسلمت عليه فرد السلام. قال: فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟ قال: جني. قلت: ناولني يدك. قال: فناولني، فإذا يد كلب وشعر كلب. فقلت: هكذا خَلْقُ الجن؟ قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني، قلت: فما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال: فقال له فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية: آية الكرسي. ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق الخبيث".[24]
وهكذا.. جمع النبي صلى الله عليه وسلم لنا عدة أمراض جاهلية موجودة في الأنفس فعالجها صلى الله عليه وسلم علاجها الوافي وهي ستة أشياء [العدوى والطيرة والصفر والهامة والنوء والغول] فهذا حديث عظيم أبطل الجاهلية، وقرر التوحيد ونفى الشرك وقرر اليقين في رب العالمين.
ويتبادر إلى الأذهان الآن فيما ألمح من هذه النظرات المتوثبة سؤال ألا وهو إذا كان الشرع قد حرم علينا التشاؤم بالمكان أو الزمان أو الأسماء القبيحة، فإذا وجدنا في صدورنا التشاؤم منها ماذا نفعل تجاه ذلك؟ ثم ماذا عن الأسماء الجميلة هل هناك من بأس أن نتفاءل بما فيها من معنى جميل طيب؟
وهذا سؤال غاية في الأهمية - أيها الإخوة - الألباء جزاكم الله خير الجزاء وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي عن الطيرة والتشاؤم بالقبيح وبين استحسان الفأل وهو التفاؤل بالجميل وذلك في حديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة".[25]
والفأل هو تأميل الخير، وتأميل الخير مطلوب فإنما هو حسن ظن بالله -جل وعلا- فإذا سمع الشخص كلمة طيبة انشرح صدره، أو رأى شخصًا طيبًا جاء إليه انشرح صدره وأمل خيرًا وأحسن الظن بالله - سبحانه وتعالى - فهذا أمر طيب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل فكان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم إذا سمع اسمًا حسنًا أو كلمة طيبة أو مر بمكان طيب انشرح صدره صلى الله عليه وسلم من حسن الظن بالله جل جلاله، ولما أقبل سهيل بن عمرو الحديبية ليتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو سهيل بن عمرو لما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلًا قال: " لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ "[26] وقد كان خيرًا عليهم كما أمل الرسول صلى الله عليه وسلم من مجيئه[27] فقد كان سبب خير، فلهذا نقول: الفأل هو سماع الكلمة الطيبة أو رؤية الشيء الحسن الذي يدفع الإنسان إلى الاستبشار والفرح والسرور وتأميل الخير والنفع ولا شيء في هذا لكن بشرط ألا ينسب هذا الخير أو النفع إلى هذا الشيء وإلا كان حرامًا، وأيضًا لا يعلق المسلم قلبه بهذا الشيء إنما يعلق قلبه بالله جل في علاه، قال عكرمة: كنا جلوسًا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر، فأنكر عليه لئلا يعتقد تأثيره، وصاح غراب فقال رجل: خير. فقال طاووس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني.
وأخيرًا - أيها الإخوة -! كيف يفعل الإنسان الذي يجد في صدره الشيء من الطيرة أو التشاؤم كيف يعالج ذلك ويداويه؟
والجواب بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله، هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد.. فيا أيها الإخوة!
كيف يفعل الإنسان الذي يجد في صدره الشيء من الطيرة والتشاؤم؟ كيف يعالج ذلك ويداويه؟
وابتداء قبل أن أضع نقاط العلاج بين يدي حضراتكم أحب أن أطمئن القلوب والنفوس بأن هذا أمر طبيبعي ولا شيء فيه، أن يجد الإنسان في صدره بعض شيء من التطير هذا أمر طبيعي، المطلوب أن يبدأ في علاجه لا أن يفزع ويرتعب من وجوده، فما من إنسان خلا الأنبياء إلا ويجد في صدره بعض ذلك كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة شرك" قال ابن مسعود: وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل. [28]
الله! كلام يطمئن القلوب، ويسكن النفوس، ويهدئ القلق الذي يعتريهما، "وما منا إلا" أي: وما منا أحد إلا ويقع في قلبه الشيء من هذا، فلا يضرك، لا يضرك أيها الحبيب إن وقع في قلبك شيء من التطير أو التشاؤم لكن بادر إلى رده ودفعه بالعلاج فما هو العلاج.
قال السادة العلماء: تعالج الطيرة بثلاثة أمور:
الأمر الأول: - وهو الأصل-: التوكُّل على الله - سبحانه وتعالى -، والثقة بأنه لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر إلاّ هو - سبحانه وتعالى -، هو الذي يأتي بالخير ويدفع الشر، وهو الذي يضرُّ وينفع، وهو الذي يتصرف في الكون فإذا توكّل العبد على الله فإن الطيرة لا تضره.
والمتوكل على الله في حياة طيبة بإيمانه وصالح أعماله قال الله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ هذا خبر من أيها المؤمنون؟ ينبيك عنه [ابن القيم] بما ملخصه -في تصرف- إنه خبر أصدق الصادقين وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر، أنه لابد لكل من عمل صالحًا مؤمنًا أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله، ﴿ وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾". [29]
فالأمر الأول في علاج الطيرة ونحوها التوكل والاعتماد والثقة في الله رب العالمين.
الأمر الثاني: أنْ يمضيَ في حاجته التي أرادها، ولا يرجع عنها بسبب الطيَرة، فإذا عزمت فتوكل على الله لا تتراجع ولا تنكص بل امض وتوكل.
الأمر الثالث: الدعاء، بأن يدعوَ الله بالدعاء الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلاَّ أنت، ولا حول"[30]
هذا هو العلاج - أيها الإخوة - أقول: وأما ما وقع منا قبل هذا من التشاؤم أو التطير فليتب العبد منه وليردد ما علمناه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العذب الجميل، وهو مل روى أحمد وغيره عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: يا رسول الله وما كفارة ذلك؟ قال: يقول: "اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك). [31]
نسأل الله العلي القدير الذي بيده مقاليد الأمور وتصريف الأشياء وتدبيرها أن يدبر أمورنا على خير ما يحب وأن يصرف عنا الشر مما نكره وأن يصرف قلوبنا إلى خير ما يحب وأن يصرفها عما يكره... الدعاء.
[1] أخرجه الترمذي 2326، وقال: حديث حسن صحيح. والحديث ورد بألفاظ متعددة وقد صححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير (2/ 1318) برقم (7957).
[2] صحيح مسلم برقم (2246).
[3] أخرجه البخاري 6003.
[4] أخرجه أحمد 10710.
[5] صحيح البخاري برقم (4826) وصحيح مسلم برقم (2246).
[6] أخرجه النسائي 1430، وابن ماجة (1139)،وانظر: الإرواء (773).
[7] عون العلي الحميد (2/ 30).
[8] أخرجه أبو داود (3411)، انظر: صحيح الجامع الصغير 3908.
[9] نيل الأوطار للشوكاني: 9/ 48.
[10] باختصار من الشرك بالله أنواعه وأحكامه (804)، عالم السحر (300)، نقلا عن عون العلي الحميد (2/ 33).
[11] منهاج السنة لا بن تيمية (1/ 10).
[12] التشاؤم أو التطير - خطبة من موقع المنبر.
[13] المجموع المفيد، ( 2/ 32).
[14] أخرجه مسلم، (2551).
[15] أخرجه مسلم 5920.
[16] أخرجه البخاري 5717، ومسلم 5919.
[17] أخرجه البخاري (5707) تعليقا، قال البغوي في"شرح السنة"(3 / 367 نسخة المكتب الإسلامي) بعد ما أخرجه عن البخاري: "هذا حديث صحيح"، ووصله أحمد في المسند (2/ 443).
[18] إعانة المستفيد (2/ 8، 9).
[19] انظر"السلسلة الصحيحة" 2 / 696.
[20] أخرجه الدارمي 2218.
[21] تفسير ابن كثير - (8 / 240).
[22] أخرجه مسلم 884.
[23] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 562)، وابن حبان (1724)"موارد"، وصححه الألباني في الصحيحة (3245).
[24] أخرجه الترمذي وصححه الألباني التعليق الرغيب (2 / 220).
[25] أخرجه البخاري 5754، ومسلم 5931.
[26] أخرجه البخاري 2731 و2732.
[27] بتصرف من إعانة المستفيد (2 / 12، 13).
[28] أخرجه أبو داود (3411)، انظر: صحيح الجامع الصغير 3908.
[29] بلسم الحياة، محاضرة لفضيلة الشيخ علي عبد الخالق القرني.
[30] إعانة المستقيد 2/ 14، 15، بتصرف، والحديث أخرجه أبو داود (3719) وصححه النووي: شرح النووي على مسلم - (7 / 388)، وضعفه الألباني، انظر: الكلم الطيب (252)، المشكاة (4591).
[31] أخرجه أحمد 7045، وغيره، وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 6264 في صحيح الجامع.