عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-08-2020, 05:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,955
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الهجرة والإيجابية نحو التغيير


4- تسهم في البناء الحضاري للإسلام:
الحضارة الإسلامية أسمى الحضارات التي وُجدت في هذه الحياة الدنيا؛ فهي حضارة طارت بجناحين: جناح السمو الروحي والأخلاقي، وجناح الرقي المادي، فلم تهمل جانبًا على حساب آخر؛ فالحضارة التي تهمل الروح والقيم والأخلاق وتمضي في التقدم المادي إلى أوج ما يمكن أن يتوصل إليه هي حضارة خداج لا تلبث أن تطير حتى تقع من شاهق.

وعندما فرَّق المسلمون بين العلم والعمل، وبدأ الجمود والتقليد يحل فيهم، عندها كانت الحضارة الإسلامية قد بلغت منتهاها في المد وبدأت في الجزر، وحينها أخذت موقع الصدارة منها الحضارة الغربية التي بلغت أوج الرقي المادي مع انحدارٍ وتدنٍّ في المستوى الروحي والأخلاقي. وحضارةٌ كالحضارة الغربية لن تستمر طويلًا إن شاء الله تعالي. والحضارة الإسلامية اليوم تحتاج من أبناء الإسلام أن يرجعوا إلى ربهم، وأن يتفوَّقوا في كل ميادين العلوم؛ لا فرقَ بين علم شرعي وعلم دنيوي، فالكل يخدم الإنسان المسلم في دنياه وآخرته، فلو علم كل مسلم أنه على ثغر من ثغور الإسلام لأدَّى ما عليه من واجبات على أحسن ما يكون الأداء، ولأدَّى ذلك إلى الارتقاء بالمجتمع والنهوض بالأمة واستعادة مجدها التليد المفقود، فما فقدت الأمة السيادة وما نزلت عن عرش الريادة إلا بعدما شبَّت فيها نيران السلبية فحوَّلتها من أمة قوية فتية إلى أمة مغصوبة منكوبة، انشرخ جدارها وانكسر ساقها، ولا سبيل إلى رفعتها واسترداد مكانتها إلا بالعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة
مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصًا جناحاه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها
وبات يحكمنا شعب ملكناه

استرشد الغرب بالماضي فأرشده
ونحن كان لنا ماض نسيناه

إنا مشينا وراء الغرب نقتبس
من ضيائه فأصابتنا شظاياه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب
بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا

وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها
عمن بناه لعل الصخر ينعاه

كنا أسودًا ملوك الأرض ترهبنا
والآن أصبح فأر الدار نخشاه

يا من رأى عمر تكسوه بردته
والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقًا
من بأسه وملوك الروم تخشاه


العنصر الثالث: نماذج إيجابية في الهجرة النبوية المباركة:
يتجلى لنا في الهجرة المباركة نماذج إيجابية رائعة مثل:
1- علي بن أبي طالب:
والذي ضرب مثالاً للجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح والتغيير الذي يفدي قائده بحياته، حين بات رضي الله عنه ليلة الهجرة على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأسه انتقاما منه؛ لأنه سهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليًّا رضي الله عنه لم يبال بذلك، ولم يرهبه بريق السيوف ولا أخافه لقاء الحتوف، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.

2- عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه:
الذي كان يقوم بمهمة رجل الاستخبارات للهجرة، فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم، ثم يأتي بالليل إلي النبي صلى الله عليه وسلم في الغار يبيت معهم، وقبل الفجر يذهب إلى مكة، وكأنه نائم في مكة، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدري بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها. فكان لعبدالله دور عظيم في نصرة هذا الدين ونجاح الدعوة إلى الله فبهمتهم واندفاعهم للتضحية والعمل الدؤوب وبتعلمهم كيف يكونون أعضاء صالحين في مجتمعهم ووطنهم وأمتهم تتقدم الأمة سريعًا نحو النجاح والغلبة والتمكين بإذن الله.

3- أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:
وكانت أسماء بنت أبي بكر تجهز الطعام وتذهب به إليهما، فتشق نطاقها نصفين، تتحزم بواحد، وتحزم الطعام بالآخر حتى سميت ذات النطاقين، وكانت إذ ذاك بنت سبع وعشرين سنة.

4- عامر ابن فهيرة:
وكان عامر بن فهيرة وقد أسلم وهو في بحر العشرين من عمره يرعى الغنم حتى يأتي بها إلى الغار فيحلب للنبي -صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر رضي الله عنه، فنجحت الهجرة على أيدي هؤلاء الشباب.

العنصر الرابع: الإيجابية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:
القرآن الكريم مليء بالأمثلة الإيجابية، بل إن المُتتبع للقرآن الكريم يجد أن مِن أكثر الأمثلة ضربًا في القرآن هي الإيجابيَّة.

مؤمِن ياسين؛ قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 20 - 25].

إنها استجابة الفِطرة السليمة لدعوة الحق المُستقيمة؛ فيها الصدق، والبساطة، والحَرارة، واستِقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القويِّ للحق المبين، فهذا رجل سَمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها مِن دلائل الحقِّ والمَنطِق ما يتحدَّث عنه في مقالتِه لقومه، وحينما استشعَر قلبُه حقيقة الإيمان، تحرَّكت هذه الحَقيقةُ في ضميره فلم يُطقْ عليها سكوتًا، ولم يقبَع في داره بعقيدته وهو يرَى الضَّلال مِن حوله والجُحود والفُجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره وتحرَّك في شُعوره، وظاهرٌ أن الرجل لم يكن ذا جاهٍ ولا سُلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منَعة مِن عشيرته، ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تَدفعُه وتجيء به مِن أقصَى المدينة إلى أقصاها.

مؤمن آل فرعون:
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].
انتدب الله عزَّ وجل رجلًا مِن آل فرعون، وقع الحق في قلبه، ولكنه كتَم إيمانه، انتدب يدفَع عن موسى، ويَحتال لدفع القوم عنه، ويَسلُك في خطابه لفرعون وملَئِه مسالكَ شتَّى، ويتدسَّس إلى قلوبهم بالنصيحة، ويُثير حساسيتها بالتخويف والإقناع، إنها جَولة ضخمَة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المُتآمِرين مِن فرعون وملئه، وإنه مَنطِق الفِطرَة المؤمنة في حذر ومَهارة وقوة كذلك، وقد سجَّل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.

إيجابية هدهد سليمان:
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 20 - 26].

ونحن نجد أنفسنا أمام هُدهدٍ عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبَراعة في عرض النبأ، ويقَظة إلى طبيعة مَوقفِه، وتلميح وإيماء أريب، فهو يُدرِك أن هذه مَلِكَة وأن هؤلاء رعيَّة، ويُدرِك أنهم يَسجُدون للشمس من دون الله، ويُدرِك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو ربُّ العرش العظيم، وما هكذا تُدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاصَّ، على سبيل الخارِقة التي تُخالِف المألوف، ولكن الأعجب من ذلك المجهود الجبَّار الذي قام به الهُدهد، ولكي ترى كم مِن المسافات قطَع، وكم مِن الجهْد بذَل وضحَّى، لك أن تَعرِف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسِعة والفيافي وبلَّغ قائده بما رأى.

3- الإيجابيَّة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن عمر: "ما رأيت أشجع، ولا أنجَد ولا أجوَد، ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقال علي - رضي الله عنه: (إنَّا كنَّا إذا اشتدَّ البأس واحمرَّت الحدق، اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتُني يوم بدر ونحن نَلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرَبُنا إلى العدو، وكان مِن أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا). وقال أنس رضي الله عنه) كان عليه الصلاة والسلام أشجَع الناس، وأحسنَ الناس، وأجوَد الناس، لقد فَزِع أهل المَدينة ليلةً، فانطلَق ناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقَّاهم عليه الصلاة والسلام راجعًا قد سبَقهم إلى الصَّوت، واستبرأ الخبَر على فرس لأبي طلحة عُرْي والسيف في عُنقِه وهو يقوللن تُراعُوا)(.

وعندما نعيش مع سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجد الحثَّ على الإيجابيَّة والإرشاد إليها، ومِن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة مِن أمَّتي ظاهِرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذَلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)؛ (رواه مسلم ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه)؛ (رواه البخاري).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (بلِّغوا عنِّي ولو آية)؛ (رواه البخاري).

ونجد في أمور الدنيا يأتيه سائل يَطلُب عونًا فيُرشِده النبي صلى الله عليه وسلم إلى إيجابيَّة العمل، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء، قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثًا؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا، فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع؛ سنن أبو داود.

العنصر الخامس: دوافع الإيجابية:
1- دافع الإيمان:
2- الإيمان بالله هو منبعُ النُّور في الإنسانيَّة، يُضيء لها جوانبَ النَّفس والحياة، وهو المنار الهادِي إذا تاهتِ المعالم، والربْوة العالية العاصِمة من طوفان المبادئ الهدَّامة والأحقاد الطَّامعة، إذا أردْنا الإصلاح فإنَّه لن يَجري في حياتِنا إلاَّ إذا نبع من نفوسِنا، فإذا استنارتِ النُّفوس بنور الإيمان وأشْرقت بضياء الحبِّ والنيَّات الطيِّبة، ساد الخير وبسط السلامُ جناحيْه على هذا الكون. أما إذا أقْفرت النُّفوس من الإيمان، ساءت الفِتَن، وأظلم حاضر النَّاس ومستقبلهم، وصدق الله حيث يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]. فحياة النَّاس صورة ظاهرة لما في قلوبِهم، وسلوكُهم يتلوَّن باللَّون الَّذي يبعثه ما في القلب من كُفر أو إيمان، من غيٍّ أو رُشْد، من خيرٍ أو شرٍّ، من هُدًى أو ضلال، فتغْيِير الصُّورة الظاهريَّة أمر سهل ميْسور، ولكنَّ تغْيير صورة الباطن من الصُّعوبة بِمكان تغْييرها بين ليلة وضحاها بغير الإيمان، وليْس سهلًا أن نبْني سدًّا منيعًا يقِي النُّفوس من نوازِعها الشّرّيرة، فتغْيِير صورة الباطِن لا يتمُّ ولا يكون إلاَّ إذا اتَّخذ الإيمان قاعدة بواسطتِها يَحدثُ انقلابٌ شاملٌ في الكون، ويُحوِّل الإنسانَ الشرِّير إلى إنسان خيِّر يَجعله مهيَّئًا لقبول الحقِّ وتحمُّل تبعاته، في صحيح الإمام مسلم: رُوي أنَّ رجلاً كافرًا نزل ضيفًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له الرَّسول بِحلب شاةٍ، فشرب لبنَها ولم يشبع، فأمر له بحلب ثانية فلَم يشبع، وهكذا حلبت له ثالثةٌ ورابعة إلى سابعة، فشرب لبنها ولم يشبعْ، ثمَّ بات ليلته فلمَّا أصبح تفتَّحت نفسُه للإيمان فآمن، فقدَّم له لبن شاة فشرِبه، وقدم له لبن شاة ثانية فلَم يستتمَّ شرْب لبنِها وشبع، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ المؤمنَ ليشربُ في معًى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء). فما بين يومٍ وليلةٍ استحال الرَّجُل من إنسانٍ شرِه لا همَّ له إلاَّ بطنُه، إلى إنسانٍ قاصدٍ عفيفٍ، فما الَّذي تغيَّر فيه؟ تغيَّر قلبُه وعقيدته، كان كافِرًا يُسارع في إرْضاء شهواته، فأصبح مؤمنًا حسْبه من الطَّعام ما يُعينه على الحياة، فأكبر دافع للإيجابية هو الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر، لذلك يسعى المرء بدافع الإيمان لذلك جعل الإسلام الحنيف خيرية المسلم في الانطلاق نحو المجتمع لإصلاحه وتغييره، فقال تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ (آل عمران110).

3- وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)؛ (ابن ماجه وأحمد).

2ـ دافع حب الناس والحرص عليهم والرغبة في تقديم الخير لهم، والطمع في الأجر والثواب:
كان الدافع للرسل عليهم السلام في دعوتهم للناس هو حبهم والحرص عليهم والشفقة بهم لذلك قال تعالي: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ (التوبة: 128)، وما الشرع: إلا تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، وقال تعالي﴿ ...إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ (هود84) وكان الأجر والثواب عظيم، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في الجحر والحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير) (الترمذي: حسن صحيح)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلًا واحد خيرٌ لك من حمر النعم)؛ (رواه البخاري).

4ـ دافع الرغبة في بيان الحق وإقامة الحجة والإعذار إلى الله:
كما في قوله تعالى: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ (الأعراف164).

5ـ دافع المسؤولية الفردية:
استشعار المسؤولية أمام الله عز وجل لأن السؤال يكون لكل فرد على حده: (﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ (95)) مريم وقوله تعالي ﴿ لا تكلف إلا نفسك ﴾ (84 النساء). وقال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ (الإسراء: 14). والقرآن الكريم يؤكد علي هذه المسؤولية الفردية، والتي لا يتحمل فيها أحد وزر أحد، فيقول سبحانه وتعالي: ﴿ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ (الطور: من الآية21) ويقول تعالي: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 36 - 41]

العنصر السادس: إيجابية أحيت أمة:
إنها امرأة ضعيفة ولكنها اتصفت بالإيجابية فأحيا الله على يديها الأمة وكانت عاملاً من عوامل النصر العظيم والفتح المبين، اسمها ميسون، تعيش في دمشق، سنة 607هـ. عاشت هذه المحنة العظيمة وهي: هجوم الصليبين الغزاة كالطوفان يُدمِّر كلَّ مَن يقف أمامه، وقد استشهد إخوتها الأربعة في الجهاد المقدس، ولكن ماذا يمكن أن تفعل امرأة عزلاء في مواجهة هذه الحجافل؟ نعم امرأة وحدها لا تقوى على عمل شيء لكنها امرأة صاغها الإيمان خلقًا آخر، فقلبت الموازين وأدارت دفة الأمور وغيرت مجرى الأحداث، نزل الإيمان قلبها فإذا بها تحس أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزًّا وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل والمدد الذي لا ينقطع والبأس الذي يفل الحديد ويدك الحصون.

تلك المرأة جمعت النساء اللاتي حضرن يواسينها ويعزينها، وقالت لهن: إننا لم نخلق رجالًا نحمل السيوف، ولكن إذا عجز الرجال لم نعجز نحن عن العمل، وهذا والله شعري أثمن ما أملك، أنزل عنه اجعله قيدًا لفرس تقاتل في سبيل الله لعلي أحرك به هؤلاء الأموات وأخذت المقص فجزَّت شعرها وصنعت النساء صنيعها، ثم جلسن يضفرن لجمًا وقيودًا لخيل المعركة الفاصلة، لا يضفر ليوم زفاف أو ليلة عرس وأرسلت هذه اللجم والقيود إلى خطيب الجامع الأموي "سبط بن الجوزي" فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة (المنبر) وحبس هذه اللجم والقيود بين يديه والدمع يترقرق من عينيه ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم إلى بعض، حتى قام وخطب خطبة حروفها من نار تلدغ أكباد من يسمعها وكلماتها سحر.


ومما قام الإمام "سبط بن الجوزي":
يا مَن أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم في دينهم.
يا مَن باع أجدادهم نفوسهم لله بأن لهم الجنة وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة.

يا أيها الناس: ما لكم نسيتم دينكم وتركتم عزتكم وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين.
أما يهز قلوبكم ويزيد حماستكم إخوان لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟!!

أما في البلد عربي؟! أما في البلد مسلم؟! أما في البلد إنسان؟!.
أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يسربلون باللهب ويخوضون النار ويتألمون على الجمر؟!. - مَن لم يهب لنصرة فلسطين فلن يكون عربيًّا ولا مسلمًا ولا إنسانًا.

يا أيها الناس: إنها قد دارت رحى الحرب ونادى منادي الجهاد وفُتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وخذوا أنتم المجامر والمكاحل فإلى الخيول وهاكم لجمها وقيودها يا ناس أتدرون مم صُنعت هذه اللجم والقفيد؟!

لقد صنعتها النساء من شعورهن؛ لأنهن لا يملكن شيئًا غيرها يساعدن به فلسطين، هذه والله ضفائر النساء التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظًا قطعنها؛ لأن تاريخ الحب قد انتهى، وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة الحرب في سبيل الله والأرض والعروبة. فإذا لم تقدروا على الخيول تقيدونها بها فخذوها واجعلوها لكم ذوائب وضفائر، فإنها من شعور النساء ألم يبق في نفوسكم شعور؟!. وألقاها من فوقِ المنبر على رءوس الناس وصرخ: تصدعي يا قبة النسر، وصيدي يا عُمد المسجد، وانقضى يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم. فصاح الناس صيحةً ما سُمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت فجاء النصر المبين على يد امرأة واحدة أيقظت أمةً نائمة.

انتهت بفضل الله تعالى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]