الأسباب الشرعية لنزول البركة:
أيها الإخوة إذا كنا عرفنا حكم التبرك المشروع منه والممنوع وعرفنا أن المشروع منه هو التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره وأفعاله وأستطيع الجزم بيقين أنه ليس بين أيدينا منه الآن شيء، وأما هذه الأشياء التي توجد في بعض المساجد مما يسمى شعر النبي أو ملابس النبي أو قدم النبي التي أثرت في الحجر والصخر كلها مخترعة لا يدل عليها دليل وقد كانت ولا تزال سبب فتنة عظيمة وغواية وضلال عن دين الكبير، المتعال وكذا عرفنا الممنوع من التبرك وهو التبرك بآثار الصالحين أو بذواتهم على السواء فهو حرام والسؤال فإذا كان الحال كذلك: هذا فعله متعذر لعدم وجوده وإمكانه، وهذا فعله متعذر لحرمته وامتناعه شرعاً، فمن أين نلتمس البركة؟ ومن أين نستنزلها؟ وكيف نجتلبها؟
والجواب بعد جلسة الاستراحة أسأل الله تعالى أن يباركنا وأن يبارك علينا.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة! من أين نلتمس البركة؟ ومن أين نستنزلها؟ وكيف نجتلبها؟
إن الشرع المطهر لم يبق العباد خلوا فارغين عن ذلك بل بين لنا الله ورسوله أسباب اجتلاب البركة في الرزق وغيره ووسائل حصول البركة ونزولها وهذا بيان لبعض هذه الأسباب والوسائل التي أوضحها لنا الشرع.
أولاً: تقوى الله عز وجل: فهي مفتاح كل خير، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 3،2]، أي من جهة لا تخطر على باله. وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: أنزلوها بالتقوى. وقد قيل: ما احتاج تقي قط. وقيل لرجل من الفقهاء: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 3،2]، فقال الفقيه: والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾ [الطلاق: 5].
ثانياً: قراءة القرآن: فإنه كتاب مبارك وهو شفاء لأسقام القلوب ودواء لأمراض الأبدان: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] والأعمال الصالحة مجلبة للخير والبركة.
ثالثاً: الدعاء: فقد كان النبي يطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج فنقول: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير " [12]، وكذلك الدعاء لمن أطعمنا: "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم "[13]
رابعاً: عدم الشح والشره في أخذ المال: قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع "[14]
خامساً: الصدق في المعاملة من بيع وشراء قال صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"[15].
سادساً: إنجاز الأعمال في أول النهار؛ التماساً لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا عليه الصلاة والسلام بالبركة في ذلك: فعن صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"[16] قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟! وانظر لحال هذا الصحابي راوي الحديث فقد كان رجلاً تاجراً وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.
سابعاً: اتباع السنة في كل الأمور: فإنها لا تأتي إلا بخير. ومن الأحاديث في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه"[17]
وأمر صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة، وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"[18]
ثامناً: حسن التوكل على الله عز وجل: قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً"[19]
تاسعاً: استخارة المولى عز وجل في الأمور كلها، والتفويض والقبول له بعد ذلك فإن ما يختاره الله عز وجل لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه في الدنيا والآخرة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجله، وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجله، وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به"[20]
عاشراً: ترك سؤال الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل"[21]
الحادي عشر: الإنفاق والصدقة؛ فإنها مجلبة للرزق كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ:39].
وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك"[22]
الثاني عشر: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره: فإنه لا بركة فيه ولا بقاء والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، وغيرها كثير.
الثالث عشر: الشكر والحمد لله على عطائه ونعمه؛ قال تعالى: ﴿ وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]، وقال تعالى: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
الرابع عشر: أداء الصلاة المفروضة؛ قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
الخامس عشر: المداومة على الاستغفار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [نوح10، 12].[23]
وثمت أسباب للبركة كثيرة يعرفها من تتبعها في القرءان والسنة من الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وعدم التبذير واتباع السنة في كل الأمور الواجبة والمستحبة اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم محبة له واتباعاً لكل ما جاء عنه وذلك طلباً لحصول البركة من ذلك الاتباع في الدنيا والآخرة فإن هذا بحد ذاته يعد سبباً من أسباب استجلاب الخير والبركة في الدنيا والآخرة.
هذه - أيها الإخوة - الأسباب الشرعية التي قدمها الإسلام لاستجلاب البركة وهذه هي الأشياء التي جعل فيها البركة، فليس لكاذب على الله ورسوله يدعي زوراً وبهتاناً بعد هذا أن في شيء من الأشياء بركة في حين أن الشرع لم يجعل فيه ذلك، فليتق الله هؤلاء الكاذبون وليتق الله الذين يتبعونهم على كذبهم ذاك.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ويبارك علينا ويجمعنا على ما فيه البركة لنا. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا واجعله عوناً لنا على طاعتك..
الدعاء.
[1] أخرجه ابن إسحاق في"السيرة"2 / 266 - سيرة ابن هشام ومن طريقه أبو نعيم في"معرفة الصحابة"
ق 303/1 و ابن الأثير في "أسد الغابة" 2 / 332 وحسنه الألباني في"الصحيحة"6 / 808.
[2] أخرجه ابن ماجه 3555، وصححه الألباني في صحيحه.
[3] أخرجه البخاري 2731 و2732.
[4] أخرجه أحمد 3 / 357، 372 وابن ماجه 3062، وصححه الألباني في الإرواء 1123.
[5] أخرجه مسلم 6513.
[6] السيرة النبوية لابن كثير - 1 / 374.
[7] أخرجه البخاري 4720، ومسلم 4725.
[8] أخرجه أحمد 5/218، والنسائي في السنن الكبرى 11185، والترمذي 2180، وصححه الألباني في ظلال
الجنة 76، المشكاة 5369.
[9] أخرجه الترمذي 3662، وابن ماجة 97 وصححه الألباني فيهما.
[10] أخرجه ابن ماجه 43، وأحمد 4 / 126، وصححه الألباني "الصحيحة" 2 / 648.
[11] أخرجه البخاري 6408، ومسلم 7015.
[12] أخرجه أبو داود 2130، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 1866.
[13] أخرجه مسلم برقم2042.
[14] أخرجه البخاري 1361.
[15] أخرجه البخاري برقم1973
[16] أخرجه أحمد 15841، وأبو داود 2606، والترمذي 1212، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1300.
[17] أخرجه الترمذي 1805، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2123.
[18] أخرجه مسلم 2034.
[19] أخرجه ابن ماجة4164، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 3359.
[20] أخرجه البخاري 1109
[21] أخرجه أحمد 3696 وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[22] أخرجه مسلم 993.
[23] البركة المفقودة – خطبة من موقع المنبر.