
12-08-2020, 03:10 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة :
|
|
التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه
التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه
أحمد عماري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فمع خلق آخرَ من أخلاق الإسلام العظيمة الجليلة، مع خلق عظيم النفع، جليل القدر، كبير الأثر، يحتاج إليه العبد في سرّائه وضرّائه، وفي جميع أحواله. هو شعبة من شعب الإيمان، وعمل من أجل أعمال القلوب، دلت على فضله آيات عديدة، وأحاديث كثيرة، من التزم به حماه الله ووقاه، ورزقه وكفاه.
حديثنا اليوم عن التوكل على الله وصدق الاعتماد عليه سبحانه.
• مفهوم التوكل وحقيقته:
التوكل على الله هو: صدق اعتماد القلب على الله تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار، من أمور الدنيا والآخرة.
التوكل: أن يعتمد العبد على الله وحده في جميع أموره؛ فيما يرغب فيه من الحاجات، وفيما يحذَره ويخافه من الآفات، وفيما يفعله تقرباً إلى الله تعالى من الطاعات، وفيما يجتنبه من الزلات والسيئات..
فالمتوكّل على الله: هو الّذي يعلم أنّ الله كافِلٌ رزقَه، مدبّرٌ أمرَه، فيركَن إليه وحده، ولا يتوكّل على أحد سواه.
المتوكل على الله، إنسان مستسلم لربه، منقاد لحكمه، معترف أنه لا حول له ولا قوة له إلا بالله.
وقد ذكر ابن القَيِّم رحمه الله في كتابه "مدارج السالكين" أن التوَكُّل حالٌ مرَكَّبة من مجموع أمور، لا يتحقق التوكل إلا بها:
أولها: معرفة بالرب وصفاته؛ من قدرته وكفايته وقَيّوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
الثاني: الأخْذ بالأسباب؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ جَعَل لكلِّ شيء سببًا.
الثالث: رُسُوخ القلب في مقام التوحيد، وعلى قدر تجريد التوحيد وصحتِه تكون صحة التوكل. أن يعتقد العبد أن الله وحده هو القادر على تحقيق مطالبه وحاجاته، وأن كل ما يحصل له إنما هو بتدبير الله وإرادته. وفي هذا قال عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123].
الرابع: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه، فلا يتعَلَّق بالأسباب، ولكن يعتمد على مُدَبِّر الأمر، ومُسَبِّب الأسباب.
الخامس: حسن الظن بالله عز وجل، فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، فتعتقد أنَّ تدبير الله عزَّ وجل لك خير مِن تدبيرك لنفسك. اليقين بأن الله تعالى سيحقق للعبد ما يتوكل عليه فيه إذا أخلص نيته، وعلق قلبه بخالقه ومولاه. وفي هذا قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
السادس: استسلام القلب لله، وانجذاب دواعيه كلها إليه.
السابع: التفويض؛ وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء الأمور كلها إلى الله وإنزالها به، طلبا واختيارا، لا كرها واضطرارا. قال عز وجل على لسان نبيه شعيب: ﴿ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ﴾.
الثامن: الرضا؛ وهي ثمرة التوكل. فإن من توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.
• فضل التوكل على الله:
التوكُّل على الله من أفضل الأعمال القلبية بعد الإيمان واليقين، فلا يقوم الدِّين إلا على أساس التوَكُّل، ولا تستقيم الحياة إلا على أساسه، ولا يكون التوفيق والسداد إلا مع وجوده.
التوكل طاعة وعبادة:
فإن التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المخلصين، أمر الله تعالى به أنبياءه المرسلين، وأولياءه المؤمنين، أمر الله به عباده وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه:﴿ وَعَلَى الله فَتَوَكَّلوا إن كنتم مُؤْمِنينَ ﴾. وقال الله تعالى في سبعة مواضع من القرآن الكريم: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾.
وأَمَرَنَا المولَى تبارك وتعالى أن نَتَوَكَّل عليه في طاعته وعبادته، فعلَّمَنا سبحانه أن نقول في كل صلاة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وعَلَّمَنا النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن نقول بعد كل صلاة: ((ربِّ أعني على ذكرك، وشكرك، وحُسن عبادتك)).
الوكيل من أسماء الله الحسنى:
فالوكيلُ المفَوَّض في كل الأمور هو اللَّه عزَّ وجلَّ، ولهذا أَمَرَ عبادَه بالتوَكُّل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، ليأتي بالخير ويدْفع الشر؛ فقال سبحانه: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾. أي: كفى به وليًّا وناصرًا، ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
الله تبارك وتعالى هو الوكيل، الذي جميع المخلوقات تحت وكالته وتدبيره وتصريفه. قال عز وجل: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾.
وهو سبحانه الوكيل، الكفيل بأرزاق الخلائق كلها، القائم بكل ما يصلحهم، وله وحده الخلق والأمر، يدبر أمر الخلائق، ويقسم الأرزاق، ويصرف الأحوال، ويفعل ما يشاء.قال سبحانه: ﴿ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102].
وقد نهى الله تعالى عباده من أن يتخذوا وكيلا من دونه فقال سبحانه: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2]. ونفى المولَى تبارك وتعالى هذا الوصف عن غيره، فقال لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾.
لا تَرْكَننَّ لِمخلوقٍ وكُنْ أبَدا
مِمَّنْ تَوكَّلَ في الدنيا على الله 
ولا تَمِلْ لِسِوَاهُ مَا حَيِيتَ فَمَن
يَرْجُو سِوَى الله هَاوٍ حَبْلُهُ واهِ 
التوكل من أخلاق المرسلين:
قال تعالى عن أنبيائه ورسله: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 11، 12].
فالأنبياء أعظم نموذج في حُسن التوكل على الله، وصِدقِ الاعتماد عليه:
قال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿ قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 53 - 56]. فلا أحد يستطيع أن يتصرف خارج إرادة الله ومشيئته.
وقال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]. ومعنى الآية: أعدُّوا أمركم، وادعوا شركاءكم، ثم لا تجعلوا أمركم عليكم مستترًا بل ظاهرًا منكشفًا، ثم اقضوا عليَّ بالعقوبة والسوء الذي في إمكانكم، ولا تمهلوني ساعة من نهار.
وقال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 66، 67].
وقال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 84 - 86].
الحبيب المصطفى سيد المتوكلين:
ولقد كان نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلم سَيِّد المتوَكِّلين، قام بأعباء الدعوة إلى اللَّه عز وجل ولَم يلتفتْ إلى إعراض المعرضين وتولِّيهم، ولا إلى جمع المشركين ومكرهم، ولا إلى تفلُّت المنافقين وكيدهم، ولكنه أخذ بأسباب البلاغ والنصر والتمكين، واعتَمَد على ربِّه، ووثق بوعْده ونصره، فكان النصرُ المبين، وتحقق التمكين للمؤمنين.
ومِن تمام توكُّله على ربِّه؛ سماه اللَّه عز وجل المتوكل، ففي صحيح البخاري عن عطاء بن يسار، قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: " أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا ".
لما مر ركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبروهم بأن أبا سفيان جمع لهم، - وذلك بعد رجوعهم من غزوة أحد- قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ ـ فهل تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بقولهم ذلك؟ ما زادهم ذلك إلا ثباتا ويقينا وإيمانا بوعد الله ونصره. ﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174].
روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في غار ثور صحبة أبي بكر رضي الله عنه في هجرتهما إلى المدينة، كان عليه الصلاة والسلام نعم المتوكل على الله والمعتمد عليه، والواثق بنصره وحفظه. قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: إَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» متفق عليه.
وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
التوكل من سمات المؤمنين:
قال تعالى في وصفهم: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 44 - 46].
أي: "ألجأ إليه وأعتصم به، وألقي أموري كلها لديه، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم".
وقال تعالى عن أم موسى عليه السلام: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾. ولما فوَّضت أم موسى أمرها إلى الله حفظ الله ابنها ورده إليها سالما. ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
تَوَكَّلْ عَلى مَوْلاَكَ وَارْضَ بِحُكْمِه
وَكُنْ مُخْلصًا لله في السِّرِّ والجَهْرِ 
قنُوعًا بِمَا أَعْطَاكَ مُسْتَغْنِيًّا به
لَهُ حَامدًا في حَالَيْ العُسْر وَاليُسْرِ 
• الحاجة إلى التوكل على الله والاعتماد عليه سبحانه:
التوكل ينشأ من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، وأن الخلائق كلها في قبضة الله، وتحت تصرفه وتدبيره، وأن العباد كلَّهم بإنسهم وجنهم، وقويهم وضعيفهم، وغنيهم وفقيرهم، مفتقرون إلى الله، وفي حاجة إلى الله، والله وحده هو الغني الحميد. فإن كنت ضعيفا فتوكل على الله فهو القوي، وإن كنت فقيرا فتوكل على الله فهو الغني، وإن كنت ذليلا فتوكل على الله فهو العزيز، وأيّاً ما كانت حالتك توكل على الله فهو نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيء وكيل.
فما أفقر الإنسان وما أضعفه، لولا عناية الله به وتوفيقه وعونه ورحمته. فالخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر لكل الأمور هو الله. والله سبحانه وتعالى حيٌّ قَيُّوم، لا يغفل عن التصريف والتدبير، وهو سبحانه وتعالى عزيزٌ لا يُغلب، قوي لا يقهر، فلا يَذِلُّ مَن استجار به، ولا يَضيع مَن لاذ بجنابه، حكيمٌ يضع كل شيء في نصابه، رحيمٌ هو أرحمُ بعبدِه المؤمن من رحمة الوالدة بولدها، وقد جاءتْ آيات التوكُّل مقْرُونة بهذه الصفات وأمثالها؛ قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]، وقال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]، وقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ [الشعراء: 217]. وقال تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ [المزمل: 9]. فمن اتخذ الله وكيلا استراح من هموم الحياة وتعبها، وفاز بالعزة والرحمة والتوفيق من الله عز وجل.
فتعلق بالله ليَهديك، والجأ إليه ليَحميك، واستجره ليُجيرك، وسله ليُعطيك، وتضرع إليه ليُجيبك، واستعن به ليُعينك، وارفع إليه حاجتك ليَكفيك...
روى مسلم في صحيحه عن أبى ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي؛ إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي؛ كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي؛ كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي؛ كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكْسُكُم. يا عبادي؛ إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي؛ إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي؛ إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».
• ضرورة الأخذ بالأسباب:
قد يظن البعض أن التوكل يقتضي ترك الأسباب، وعدم الأخذ بها، وهذا خطأ في فهم التوكل. فإن الأخذ بالأسباب مع تفويض أمر النتائج والنّجاح لله تعالى والثّقة بأنّه عزّ وجلّ لا يُضيع أجر من أحسن عملا، ذاك هو التّوكّل المأمور به شرعا. أمّا القعود والتخلي عن الأسباب وعدم السّعي في تحصيلها فليس من التّوكّل في شيء، وإنّما هو عجز وكسل وبطالة واتّكال وتواكل، وقد حذّرنا من ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونهى عن الأسباب المؤدّية إلى العجز والكسل والتفريط والتقصير، مصداق ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردْف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عُفَيْرٌ، فقال: «يا معاذ، تدري ما حقّ الله على العباد، وما حق العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا»، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: «لا تبشرهم، فيَتّكلوا».
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|