لا إله إلا الله .. طوق النجاة
أحمد الجوهري عبد الجواد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صل على حبيبنا ونبينا محمد صلاة باهرة السناء، اللهم أرنا من أنوار الصلاة عليه جمال ذاته وصفاته، اللهم بصرنا بشمائله وعلو درجاته.
أما بعد فيا أيها الإخوة!
تحدثنا في اللقاء السابق عن وجوب التوحيد على كل عبد وأنه الفرض اللازم والحق الواجب لله على عباده، وأنه المهمة التي لأجلها خلق الله الخلق، كما قال سبحانه ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وهذا هو لقاؤنا الثاني من هذه السلسلة الكريمة وهو بعنوان: "لا إله إلا الله طوق النجاة"، وسأنظم سلك هذا الموضوع العظيم الجليل في العناصر التالية:
أولاً: يوم عصيب.
ثانياً: التوحيد طريق الأمان.
ثالثاً: فضائل التوحيد.
رابعاً وأخيراً: فهيا إلى ظلال التوحيد.
فأعيروني القلوب والأسماع أيها الإخوة والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أولاً: يوم عصيب.
أيها الإخوة! مهما امتدت الحياة فإنها فانية، ومهما تأخرت الآخرة فإنها آتية وكل آت قريب، ومن عاش على ذكر الآخرة حاسب نفسه على ما هو اليوم فيه فإن كان محسناً ازداد إحساناً وإن كان مسيئاً استغفر الله وتاب إليه عسى الله أن يبدله عفواً وغفراناً فالمرء إذا كان متذكراً الآخرة سعى إلى عمرانها وصار من أبنائها.
قال على بن أبي طالب، -رضي الله عنه-: " إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا".
فتعالوا بنا أيها الإخوة ننظر من منظار قريب إلى ذلك اليوم العصيب، انظر أخي الحبيب ها هي الشمس تدنو من الرءوس ففي صحيح مسلم من حديث المقداد أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم مقدار ميل[1].
قال الراوي: فوالله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين؟! قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً- وأشار –صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه".
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قوله -تعالى-: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6]، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه"[2]، هل تصورت هذا المشهد؟ حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرءوس، ولك أن تتصور البشرية كلها تحشر في مكان واحد على أرض واحدة، زحام يخنق الأنفاس!!
وفي هذا المشهد والموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم، إي والله يؤتى بجهنم في أرض المحشر كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالنار يومئذ لها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"[3]، فإذا أقبلت جهنم وأحاطت بالخلائق ورأت الخلق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الجبار جل جلاله عند ذلك تجثو جميع الأمم على الركب من الخوف والذلة قال -تعالى-: ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 28].
وليس ذلك فقط بل يحدث ما تشيب له الرؤوس وتنخلع له القلوب! اسمع إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي بسند صحيح والذي يقول فيه الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: لمن جعل مع الله إلها آخر [لمن جعل مع الله إلهاً آخر، أي: أشرك مع الله غيره في عبادته، أما الموحدون فهم ناجون منه، فاللهم اجعلنا موحدين].
يقول: إني وكلت بثلاثة: لمن جعل مع الله إلهاً آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين بل قال ابن الأثير في جامع الأصول من أحاديث الرسول: وفي رواية ذكرها رزين: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كذب عليَّ متَعمِّداً فليْتَبوَّأ بين عيني جهنم مقْعدا، قيل: يا رسولَ الله، ولها عينان؟ قال: أما سَمِعتم قول الله -تعالى-: ﴿ إذا رأَتهُمّ من مكان بعيد سَمِعُوا لها تَغَيُّظا وزفيرا ﴾ [الفرقان: 12] يخرج عنق من النار، له عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول: وكِّلْتُ بَمن جعل مع الله إلها آخر، فلَهُوَ أبْصَرُ بهم من الطير بِحبِّ السمسم، فيلتقطهم، فيحبس بهم في جهنم»[4]. في هذا المشهد، في الحر الشديد والزحام الرهيب وفي هذا التدافع في هذا الموقف الذي ترتعد منه الفرائص وتشيب له الرءوس، ويهتز له الوجدان فإن الأنبياء حينما يرون هول هذا الموقف لا يملكون إلا أن يقولوا: اللهم سلِّم سلم.
هذه دعوتهم يومها، والكلام يومئذ مقتصر عليهم دون غيرهم لا يتكلم يومها إلا الرسل، يومها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، تترك رضيعها، وتضع كل ذات حمل حملها وينتاب الناس الهلع والرعب حتى تظنهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
يومئذ يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وينسى الابن أبويه اللذين كان يبرهما في دنياه، وألان لهما الجانب وأطاعهما في غير معصية الله، يومها يفر الأخ من أخيه فلم تعد هناك روابط نَسَبية!!
ويومها تفر الزوجة من زوجها الذي أعطى لها في الدنيا كل عطف وحنان ورعاية وصحبة جميلة حسنة فلم تعد هناك أيضاً روابط زوجية.
يومها ترى الأم الحنون ترمي بطفلها في غير وعي فلا أمومة في هذا الموقف الرهيب المخيف، كلٌ يقول نفسي نفسي! حتى الأنبياء والرسل، كلٌ له شأن يلهيه استمع لقول مولاك -عز وجل-: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 33 - 37].
في هذا الجو الخانق الزحام شديد والشمس تكاد تصهر الرؤوس بحرارتها والجموع تتدافع والسؤال همس والكلام تخافت وجلال الحي القيوم غمر المكان بالهيبة وثمت أهوال وأهوال.
يوم تجثو كل أمة
في دياجير الملمة
للسؤال عن المهمة
يومها ماذا تقول؟!
إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم وتخيله ترتعد له الفرائص، فكيف إذا عايناه وعايشناه على أرض الواقع لا أرض الخيال؟!!
كرب ما بعده كرب، وهم ما وراءه هم، وغم ما فوقه غم.
فكيف النجاة من يوم الهول؟ بل الأهوال؟ أين طريق الأمان، هل هناك سبيل إليه؟ هل هناك طريق للأمان من ذلك الكرب؟
والجواب: نعم - أيها الإخوة - وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء:
التوحيد طريق الأمان:
قال الله -تعالى-: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
هذا هو الأمن والأمان ليس إلا للذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وهذا وعد الله -تعالى- وحكمه الفاصل الذي حكم به في كتابه.
فإن هذه الآية -أيها الإخوة- جاءت بعد مناظرة إبراهيم الخليل - عليه السلام - لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب فجادلهم إبراهيم - عليه السلام - بالحسنى، وأثبت لهم بالأدلة القاطعة أنها لا تستحق العبادة التي يصرفونها إليها ودعاهم إلى توحيد الله -تعالى- وصرف جميع أنواع العبادة إليه سبحانه، فأبوا، فتبرأ منهم إبراهيم - عليه السلام - وأعلن تمسكه بتوحيده وتحدى الآلهة التي يخوفونه بها معلناً أنه لا يخاف إلا الله -تبارك وتعالى-، قال -تعالى-" ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 80، 81]" فهنا فريقان يطلبان الأمن وينشدانه فمن الذي يناله ويحصله؟
إبراهيم عليه السلام وهو الذي يمثل فريق الموحدين، أم المشركون الذين يعبدون الكواكب في السماء والأصنام في الأرض يقول: إذا كنتم تهددونني بالتخويف والوعيد وأنا أخوفكم بالله العزيز الحميد وأبين لكم أنكم إن لم تتوبوا إليه فسيعذبكم فأي الفريقين الموحدون أو المشركون أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، ففصل الله الحكم بين الفريقين فقال: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، فالأمن في الدنيا والآخرة حاصل للمؤمنين الذي لم يلبسوا إيمانهم بظلم، انتبه أيها الحبيب فهنا ضابطان أو شرطان اثنان فيمن ينال الأمن ويتحقق له الأمان:
الأول: الإيمان وهو التوحيد بإفراد الله -تعالى- بالعبادة، والمحافظة على ما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.
الثاني: أن لا يلبس هؤلاء المؤمنون إيمانهم بظلم، والظلم المقصود في هذه الآية هو الشرك، والمعنى المقصود أنهم أخلصوا عبادتهم وهذبوا توحيدهم، وصفَّوه من كل ألوان الشرك وأنواعه.
روى البخاري من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون: "لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك، أولم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [5].
فالمقصود بالظلم هنا الشرك فمن أشرك بالله فليس من أهل الأمان ومن خلط إيمانه بشرك أيضا ليس من أهل الأمان ولكن الشرط أن يأتي بالأمرين معاً أي يأتي بتوحيد لا شرك فيه، خالصاً من ألوان الشرك وأنواعه، ولذلك أمر ربنا بتوحيده ونهى عن الشرك به في آية واحدة فقال سبحانه ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾.
والشاهد -أيها الإخوة- من الآية أن الموحدين غداً من الآمنين من عذاب الله وعقابه، لهم الأمن والأمان والسلام والاطمئنان، فتلك مَزِيّة لأهل التوحيد خاصة ليست لغيرهم وهذا من فضل التوحيد.
ومزية أخرى بينتها الآية وهي حصول الهداية للموحدين المخلصين لله كما قال -تعالى-: ﴿ وهم مهتدون ﴾. وذلك بأنهم في الدنيا يكونون مهتدين في أعمالهم لا يضلون الصراط المستقيم وهو الهداية، وفي الآخرة لا يضلون الصراط المستقيم ألا وهو الطريق إلى الجنة كما قال -تعالى-: ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ [الحج: 24].
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ - أي في الدنيا - وهدوا إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - أي في الآخرة-.
أما من لم يوحد الله فليس له من الأمن نصيب، فهم في رعب وخوف دائم إذ القلب لا يطمئن إلا مع التوحيد، فمن لم يوحد الله أخافه الله من كل شيء هذا في الدنيا، وأما يوم القيامة فهم في فزع عظيم، نعوذ بالله منه، لا ينتهي ولا يزول إذ لا يقف عذابهم عند حد قال -تعالى-: ﴿ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ [النبأ: 30] وكذلك هم في الدنيا لا يهتدون إلى صرف ولا عدل وهم في الآخرة أضل عن طريق الجنة بل لا يهتدون إلا إلى صراط الجحيم نعوذ بالله من ذلك، هذه أعظم فضائل التوحيد -أيها الإخوة- أن ينال به المرء الأمن في الدنيا والنجاة في الآخرة وهناك فضائل أخرى للتوحيد فتعالوا بنا لنتعرف إليها وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: فضائل التوحيد.
فضائل التوحيد -أيها الإخوة- كثيرة كثيرة، ولا نستطيع على الإطلاق تناولها جميعها في هذه الدقائق المعدودات، ولكن حسبنا أن نشير إلى بعض الأحاديث التي تدلنا على ما للتوحيد من فضل وآثار حميدة على العبد في دنياه وأخراه فمن ذلك ما روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"[6].
في هذا الحديث يخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن من فضل التوحيد أنه يدخل العبد الجنة ولو كان مقصراً في العمل وعنده ذنوب ومعاص كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"، فهذا وعد من الله -سبحانه وتعالى- لأهل التوحيد بأن يدخلهم الجنة، وأهل التوحيد هم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أي أن عيسى عليه السلام أوجد بكلمة كن فلهذا سمى كلمته ومعنى روح منه أي روح مخلوقة من الله مبتدأة منه على نحو غير مألوف فقد وجد من أم بلا أب - وأن الجنة حق والنار حق، هؤلاء هم أهل التوحيد وعدهم الله أن يدخلوا الجنة فهذا من فضل التوحيد وأنه سبب لدخول الجنة.
يتبع