عرض مشاركة واحدة
  #39  
قديم 18-07-2020, 05:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,093
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (39)

صـــــ323 إلى صــ333


[باب التيمم]

أما الكتاب فآية الوضوء، والغسل، وآية التيمم، فأما آية الوضوء،
والغسل فقالوا:
إنّ الله أمر فيها المكلف باستعمال الماء، فيستعمله، ولو لبعض أعضائه؛ لأنه قادر على ذلك، وأمكن تحقيق أمر الله تعالى فوجب عليه إعمال الأصل على هذا الوجه، فإذا استهلك الماء،
وبَقِيَ ما بقي من الأعضاء تحقّق فيه الشرط الشرعي المنصوص عليه في آية التيمم في قوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وحينئذ يُرخص له بالتيمم للباقي لأن هذا الشرط لا يتحقق إلا باستهلاك الماء على الوجه الشرعي بغسل ما يستطيع غسله من أعضاء الوضوء والغسل.
وأما دليلهم من السنة فحديث جابر رضي الله عنه قال: [خَرجْنَا في سفَر فأصابَ رجلاً منّا حجرٌ في رَأسِه، ثمّ احْتَلَم،
فسأَلَ أصحابَه:
هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟
فقالوا:
ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل، فمات،
فلما قدمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِر بذلك فقال:
قَتلُوه قَتلَهم الله أَلا سَألُوا إذا لم يَعْلموا فإنما شِفَاءُ العِيِّ السؤالُ إِنما كانَ يَكْفيه أنْ يتَيمّمَ، ويَعْصرَ، أو يَعْصُبَ على جُرحِه، ثم يمسحُ عليهِ، ويغسلُ سائرَ جَسدِهِ]
ووجه الدلالة: ظاهر حيث أمره بالجمع بين التيمم، والغسل.
ومذهب القائلين بعدم الجمع أقوى حيث إن الماء الموجود لما كان غير كاف لجميع الطهارة صار في حكم المفقود، فتحقّق الشرط الموجب لرخصة التيمم، وقد عَمِلَ بهذا الأصل الجميع فنزلوا الموجود منزلة المفقود في مسائل التيمم، فكذلك هنا لأنه ماء غير كاف لجميع الأعضاء، والشَّرع لم يُجَزّئ أعضاءَ الوضوءِ، والغسل بل أمر بغسلها جميعها،
فكما أن من عجز عن الماء لمرض نقول:
الماء في حقّه مفقود حكماً؛ كذلك من وجد ماءً لا يكفي لجميع الأعضاء، فإن هذا الماء مفقود بحكم الشرع، لأن الشرع لم يعتبر في طهارة الغسل بعض أعضاء البدن، دون البعض، بل أمر بغسلها جميعاً، وبهذا لا يقوى الإحتجاج بآية الوضوء، والغسل على وجوب غسل الأعضاء.وأما الإستدلال بالسُّنة فإن الحديث لم يصحَّ، وهو ضعيف، كما نصّ عليه الأئمة رحمهم الله، والعمل على عدم ثبوته.
قوله رحمه الله: [ومَنْ جُرِحَ تَيمّم له، وغَسَلَ الباقِي]: الضمير في قوله: [له] عائد إلى الجرح،
وقوله:
[وغَسَلَ الباقِي] أي: باقي جسده،
ووجه ذلك:
أنه يستطيع غسل باقي جسده؛ فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرُخّصَ له بالتيمم من أجله. وهذه المسألة يعبر عنها العلماء بالجمع بين البَدلِ، والمُبْدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة، والشافعية، وغيرهم في مسائل.
والأصل في البدل، والمبدل أن لا يجتمعا؛ لأنهما ضِدّان والضِّدان لا يجتمعان،
فأنت لا تستطيع أن تقول:
هذا حلو، مرّ؛ وتقصد في آنٍ واحدٍ،
ولكن إما أن تقول:
هذا حلو،
وإما أن تقول:
هذا مر، وإذا ثبت أنه لا يجمع بين البدل، والمُبدل فإن هذه المسألة مستثناة على هذا القول المرجوح.
وقال بعض العلماء: إنه إذا أمكنه أن يبلّ يده، ويُمرّها على الجرح مبلولة؛ فإنه يجزيه ذلك، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح.
قوله رحمه الله: [ويَجِبُ طَلَبُ الماءِ فِي رَحْلِه، وقُربِه]: أي يَلزم المكلّفَ عند دخول الوقت طلبُ الماءِ، وهذا بناءً على الأصل، لأن " ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ".
قوله رحمه الله:
[في رَحْلِه، وقُرْبِهِ] الرّحل: المتاع،
والمراد: أن يبحث عن الماء في متاعه، فإذا كان في منزله، وحضرته الصلاة بحث في المنزل، وإن كان في فلاة، أو خارج المدينة بسيارته بحث أولاً في سيارته، وأمتعته هل يوجد فيها ماء هذا هو الأصل،
وقوله [قُرْبِهِ] أي: قريباً من متاعه، أو من موضع نزوله، فإذا لم يجد عنده بحث عند رفاقه، وزملائه، والمسافرين معه، وسألهم،
ويشمل قوله:
[قُرْبِهِ] المواضع القريبة من مكان نزوله،
وإذا كان مقيماً ولم يجد الماء بحث عند الجيران القريبين منه بسؤالهم: هل عندهم ماء، فلما كان مطالباً أن يبحث في رحله، وفي جماعته، والمكان الذي هو نازل فيه فإنّ ما قرب منه كذلك داخل في حكم الأصل من وجوب الطّلب، فيلزمه أن يبحث فيه، لكن لو كان بعيداً عنه؛
فإن البعيد فيه تفصيل:
فإن كان الوقت يسع بحيث يستطيع الحصول على الماء، والتطهر به قبل خروج وقت الفريضة، فحينئذ يجب عليه الطلب إذا ظن وجوده، وإلا فلا.
قوله رحمه الله: [وبِدِلالةٍ]: يعني: أن يسأل الناس عن مكان وجود الماء فإذا كان في قرية سأل أهلها، ولذلك يقولون من آداب السفر أن الإنسان إذا نزل في موضع أن يسأل عن مكان الماء حتى يتوضّأ ويغتسل، وأن يسأل عن القبلة، وأن يسأل عن موضع قضاء حاجته، قالوا هذه من الأمور التي يراعيها المسافر، وكانوا يستحبون للضيف إذا نزل أن يَدُلّه مضيفُه على هذه الأمور قبل أن يبتدئه بالسؤال عنها،
فكانوا يَعدُّونه من إكرام الضيف فيقول له:
القبلة كذا، وقضاء الحاجة هنا، والماء إذا أردته هنا.
و" الدِلالةُ " مأخوذة من الدليل، والمراد بها هنا الأمارة، والعلامة التي يُستدل بها، فيطلبها بالسؤال والبحث،
والدلالة:
أن يسأل الناس أن يَدَلُّوه: أين مكان الماء، وإذا ثبت أنه يجب عليه أن يطلب الماء،
ويجب عليه أن يبحث فإنه إذا سألك سائل وقال:
نزلت بقرية، ثم لم يكن عندي ماء، ثم جلست أنتظر لعل الماء يأتيني حتى خرج الوقت، أو تيممت قبل خروج الوقت، وصليت؛ فما الحكم؟
تقول له:
هل طلبت الماء؟
قال:
لا لم أطلبه،
تقول:
إذاً أنت آثم، قد كان ينبغي عليك أن تطلب الماء، لأن الله -عز وجل- أوجب عليك أن تتطهر بالماء أصلاً، وتطهرك بالماء يفتقر إلى وجوده، ووجوده يفتقر إلى طلبه؛ إذاً فأنت مأمور بطلبه، وبناءً على ذلك أنت آثم بتفريطك في السؤال، فقد كان المنبغي عليك أن تسأل،
ولذلك قالوا:
لو أنه صلّى في قرية، وكان بإمكانه أن يسأل عن جهة القبلة، ولم يسأل، واجتهد من عند نفسه، وصلّى، ثمّ تبين أنه على غير القبلة لزمه أن يُعيدَ؛ لماذا؟ لأنه بإمكانه أن يعرف القبلة بالسؤال ولما لم يسأل فرّط فألزم بالإعادة كذلك هنا في مسألة طلب الماء، ولا يقال إنه جاهل لهذا الحكم؛ لأنه معلوم بأصل الفطرة، والشّرع أن الجاهل يسأل فإذا جهل مكان الماء، أو جهة القبلة، ولم يسأل، وعنده من يدلُّه عليها لم يكن جهله على هذا الوجه عذراً.
قوله رحمه الله: [فإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَه عَليْهِ، وتَيممَ أَعَادَ]
مراده: أن الشخص إذا كان قادراً على أن يحصل على الماء مثل: أن يكون قريباً منه، ثم نَسي، واعتقد أنه لا يستطيع أن يحصل عليه قبل خروج الوقت فإنه إذا تيمّم، ثم تذكر بعد ذلك، وتبيّن له خطَؤُه لزمته الإعادة للصلاة، وهذه المسألة نصَّ عليها الإمام أحمد رحمه الله،
ودليلها:
أنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط بالنسيان كما لو صلّى ناسياً حدثَه، ثم تذكّر لزمته الإعادة.
فالطهارة بالماء في حقه لازمة لأن الماء قريب منه وبإمكانه أن يتحصل عليه ويتطهر كما أمره الله، فإذا نسي قدرته على ذلك، وتبين أنه مخطئ سقط هذا الظن، ولم يُعْتبر،
ومن قواعد الفقه:
[لا عِبْرَةَ بالظّنِ البيّنِ خَطؤُه] أي: لا عبرة بالظنّ الذي بان خطؤُه.
قوله رحمه الله:
[وإِنْ نوى بِتيمّمه أحْداثاً]: هذا كما تقدم معنا جوازه في طهارة الماء، فيجمع بين حدثين في طهارة واحدة كالبول، والغائط، والجنابة، والحيض، فإنه يُجزيه،
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
[إِنما الأَعْمَالُ بالنّياتِ، وإنما لِكُلِّ امْرِئ مَا نوَى] فبَيّن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّ من نوى شيئاً كان له، فإذا نوى أكثر من حدثٍ أجزأته نيته عما نواه.
قوله رحمه الله: [أو نَجاسةً عَلى بَدَنِه تَضرُّهُ إِزَالتُها] ِ:
أي: أن إزالته للنجاسة بغسلها يترتب عليه ضرر في بدنه، فإنه لا تلزمه إزالتها، ولكن يتيمم عنها،
ومن أمثلتها عند العلماء: الدّم إذا تجلّط، وتخثّر على موضع الجرح فإنك لو قلت أزلْهُ فإنه سوف يتضرّر بإزالته، كما في بعض الجراحات التي يصعب فيها إزالة هذا الدم المتجلط قبل إستواء الجرح، فعلى قول الجماهير بنجاسة الدم فإن هذا الدم لا يمكن أن يغسله، فطهارة الماء شبه متعذرة فيه،
وبناءً على ذلك قالوا: يَنْتقل إلى التيمم، وتُنزّلُ طهارةُ الخبثِ منزلةَ طهارةِ الحدثِ، فيتيمم من أجل هذه النجاسة، وذهب الجمهور إلى أنه لا تلزمه إزالتها أصلاً فلا يلزمه تيمم، وهو الصحيح؛ لأنه سقط التكليف بما فيه حرج فلم يلزمه البدل، وهو التيمم، لأنّ أصله وهو الماء لم يكلف به.
قوله رحمه الله: [أو عَدِمَ ما يُزِيلهَا]: الضمير عائد إلى النجاسة والمراد أن لا يجد الماء الذي يزيل النجاسة.
قوله رحمه الله:
[أو خَافَ بَرْداً]: أو خاف برداً،
أي:
خاف إذا إغتسل أن يهلك بسبب البرد، أو يحصل له ضررٌ.
قوله رحمه الله: [أو حُبِسَ في مِصْرٍ]: أي حبس في موضع داخل مدينة، ومنع من إيصال الماء إليه،
مثل: أن يوضع في غرفة، أو نحوها، وليس فيها ماء فتيمّم؛ فإنه يصح منه ذلك،
لقوله سبحانه:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهو لم يجد الماء فتحقق فيه الشرط المعتبر،
ولقوله عليه الصلاة والسلام:
[الصَّعيدُ الطَّيبُ طَهُورُ المسلم، ولو لَمْ يجِدِ الماءَ عَشْرَ سِنينَ] وهذا لم يجد الماء فصار تيممه صحيحاً، فتصح صلاته ولا تلزمه الإعادة؛
خلافاً لمن قال: إن هذه الأعذار نادرة، فلا تتعلق بها الرخص.
قوله رحمه الله: [أوْ عَدِمَ الماءَ، والتُّراب صَلّى، وَلمْ يُعِدْ]
مراده: أن من لم يجد ماءً، ولا تراباً؛ فإنه يُصلّي على حالته، ولا تلزمه الإعادة بعد ذلك، وتُعْرف هذه المسألة بمسألة [فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ] وقد إختلف العلماء رحمهم الله فيها على أربعة أقوال:
القول الأول: يصلي، ولا يعيد.
القول الثاني:
لا يصلي، ويعيد.
القول الثالث: يصلي، ويعيد.
القول الرابع: لا يصلي، ولا يعيد.
وقد مشى المصنف رحمه الله على القول الأول، وهو أرجحها في نظري والعلم عند الله، وقد بينت ذلك في شرح البلوغ وعمدة الأحكام، ودلّ على رجحانه ما ثبت في الحديث الصحيح في قصة نزول آية التيمم حينما ضاعَ عِقْدُ عائشة رضي الله عنها وإلتمسَه الصَّحابةُ رضي الله عنهم، وحضرتِ الصّلاةُ بعضَهم، وليس عنده ماء، فصلّى، ثمّ لما رجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه؛ فصوّب فعلهم، ولم يأمرهم بالإعادة، وقد صلّوا بدون وضوء، ولا تيمم؛ لأن التيمّم لم يُشرع بعدُ، فدل على أن من فقد الطهورين صلى، ولا تلزمه إعادةٌ.
قال رحمه الله: [ويَجبُ التيمّم بترابٍ طَهُورٍ لَهُ غُبَارٌ] هذه العبارة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبيّن بها الشيء الذي يَتَيمَّمُ به المكلف، وهذا مناسب لما قبله؛ لأنك إذا بيّنت الحالات التي يجوز فيها التيمّم والحالات التي لا يجوز فيها؛ سيسألك السائل إن كان من أهل التيمم بأيّ شيءٍ يكون التيمّم؟
قال رحمه الله: [ويَجِبُ التَّيَمُّمُ بِتُرابٍ لهُ غُبارٌ]: خصّ المصنف -رحمه الله- التيمم بالتُّراب على ظاهر ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بقوله:
[جُعِلتْ لي الأرضُ مَسْجداً، وتُربَتُها طَهُوراً]
أي: جعلت التربة لأمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَهوراً.
قالوا:
فدلّ هذا الحديث على أنّ التراب يُتيمم به، وهذا مستفاد من ظاهر آيتي النساء،
والمائدة في قوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.إذا ثبت أنّ التراب يُتيمم به بدلالة نصّ الكتاب، والسُّنة؛ فإنّ العمل عند أهل العلم على ذلك، وليس هناك خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- أنّ التراب يُجزئ في التيمم.
ولكن الخلاف بينهم: هل يشترط أن يكون له غبار؟ هذه المسألة الأولى.
والمسألة الثانية: هل ينحصر التيمم في التراب، أو يشمله، وغيره مما صَعَدَ على وجه الأرض؟فأما بالنسبة للتراب الذي له غبار، فإنه لا خلاف فيه بين أهل العلم -رحمة الله عليهم- أنه لو حصل به التيمم يُجزيه، وذلك لظاهر نصّ الكتاب، والسُّنة، وأجمع عليه العلماء رحمة الله عليهم كما ذكرنا.
وأما اشتراط أن يكون له غبار؛ فهي مسألة خلافية بين أهل العلم -رحمهم الله-:
أصحها: أنه لا يشترط أن يكون له غبار، وذلك لظاهر الكتاب، والسنة،
فأما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ووجه الدلالة:
أن ظاهر قوله: {صَعِيدًا} العموم، فيشمل جميع ما صَعَدَ على وجه الأرض من التراب، ولم يخصّه سبحانه بكونه له غبار.
وأما السُّنة: فما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للرجل الذي لم يجد الماء: [عَليْكَ بالصَّعيدِ فإِنه يَكْفِيكَ]، وهو عامُّ أيضاً كالآية الكريمة، ومن هنا اجتمعت دلالة الكتاب، والسُّنة على أنّ التيمم يَصِحُ بكل ما على وجه الأرض من تُراب له غُبار، أو لا غُبار له.
وقد مشى المصنف رحمه الله على قول من يقول باشتراط أن يكون للتراب غبار،
واستدل أصحاب هذا القول بقوله سبحانه: {صَعِيدًا طَيِّبًا}
فقالوا: إن الوصف بالطِّيب يَقْتضي أَنْ يكون له غبار، وهذا مردود،
فإن الوصف بالطّيب المراد به:
طهارته من النجاسة،
والمراد به:
أن لا يتيمم بتراب نَجِسٍ.
ثم إننا نقول: إنه لو خُص التراب بما له غبار لخالف ذلك مقتضى الرُّخصة، فإننا نعلم أن كثيراً من الأرض في بعض الأماكن رمال لا غبار لها،
فلو قلنا:
إن التيمم لا يحصل إلا بتراب له غبار لأجحف بالناس ففي بعض الصحاري ربما تسير يوماً كاملاً، ولا ترى أرضاً لها غبار، وكذلك المناطق الجبلية والحِرَارِ.وأما المسألة الثانية وهي حصر التيمم في التراب، فأصحّ الأقوال كما سبقت الإشارة إليه أنه يجوز التيمم بكل ما على وجه الأرض سواء كان تراباً، أو غيره؛
وذلك لظاهر قوله تعالى:
{صَعِيدًا طَيِّبًا} والصّعيدُ كلُّ ما صعدَ على وجْهِ الأرض، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أنّ أَكْثرها حِرَار، وهذا الدليل إنتزعه الٍإمام ابن خزيمة -رحمه الله- كما أشار إليه في صحيحه من ظاهر السُّنة أن الله وصف المُتَيمم به بكونه صعيداً طيباً، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أن أكثر أرضها حرار؛ فدل على أن وصف الطّيب ليس منحصراً بالتراب الذي له غبار،
وأن المراد به:
الطهارة وتكون في كل شيءٍ بحسبه.إذا ثبت هذا فيجوز لك أن تتيمم بالتراب، وبغير التراب مما صعد على وجه الأرض، لكن يشترط أن يكون طاهرا، فلا يُتيمم بنجس.
والمصنف رحمه الله مشى على مذهب الذين قالوا: بتخصيص التيمم بالتراب؛
وقد استدلوا على مذهبهم بتخصيص التيمم بالتراب بقوله عليه الصلاة والسلام:
[جُعِلتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدَاً، وتُرْبَتُها لَنا طَهُوراً]
ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصّ على أن التراب يُتيمم به، ومفهوم ذلك أن غيره لا يتيمم به.
وهذا الإستدلال يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه إستدلال بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف على القول الراجح عند الأصوليين.
الوجه الثاني:
أنّ النصّ الوارد في إباحة التيمم في دليل الكتاب عامُّ،
وهو قوله سبحانه وتعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} والحديث الذي استدلوا به ذكر فرداً من أفراد هذا العامِّ، وهو التراب، فلم يقتض هذا الذكر لهذا الفرد أن يكون العامُّ مخصصاً به، بل نقول إنه لا تعارض بينهما، فالآية تبقى على عمومها، وكون السنة وردت بفرد من أفراد ذلك العام يكون بمثابة التمثيل لا من باب إلغاء غيره،
والقاعدة:
" أن ذِكرَ الفَرْد مِنْ أَفْراد العَامّ لا يَقْتضي تَخصيصَ الحُكمِ بهِ ".
كذلك من أدلتهم على تخصيص التيمم بالتراب [أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَربَ بيديْه الأرضَ ومسحَ بِهما وجْهَه، وكفّيهِ]، ولا معنى للضرب إلا طلبُ الغبار، وهذا كما قلنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك في بعض ما يجزئ التطهر به، وهو التراب، ومن طبيعته إذا تيمم به الإنسان أن يضرب بكفّيه عليه كما أن من طبيعته إذا تيمّم بالحجر أن يمسح عليه، فكلُّ فرد من أفراد العام يُراعي المتيممُ طبيعَتَه عند التيمم به،
ثمّ إننا نقول:
لا نسلم ما ذكرتم من أن المقصود بالضرب طلب الغبار على وجه يصير مخصصاً للرخصة،
لأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام:
أنه نَفخَ في يَديْه بعد ضَرْبهما على الأرض، والنّفخ يزيل الغبار، فبطل ما ذكروه.
قوله رحمه الله:
[وفُروضُه مَسْحُ وجْهِهِ، ويَديْه إِلى كُوعَيهِ]: بعد أن بيّن رحمه الله: متى يجوز التيمم وما الذي يتيمم به شرع في بيان صفة التيمم، والمناسبة على هذا الترتيب واضحة،
وقوله رحمه الله:
[وفُروضُه] الضمير عائد إلى التيمم، وتقدم معنا بيان معنى الفرض لغة، واصطلاحاً،
والتعبير بقوله: [وفُروضُه] دالّ على أن المراد: بيان صفة الإجزاء التي لا يصحّ التيمم بدونها.
قوله رحمه الله: [مَسْحُ وجْهِهِ]:
الوجه: ما تحصل به المواجهة، وقد تقدم ضابط الوجه في صفة الوضوء، وأنه من منابت الشعر عند ناصيته إلى ما انحدر من الذقن، واللّحيين طولاً، وأما عرضاً، فمن الأذن إلى الأذن.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]