
12-07-2020, 05:05 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة :
|
|
رد: المعايشة التربوية
ج - ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه ، وزوال الكلفة بينهم ، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين : لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين ، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين ، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم . ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين ؛ بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية ، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر ، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين ، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشة ؛ بحيث تسقط من يده قضية التوجيه والتربية ، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة .
د - ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء : في خضم معايشة المربي لمن يربيهم ، ومخالطته إياهم ، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم ، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها ، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام ، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات ؛ وهي صفة العطاء ؛ فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها ، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها . فينبغي للمربي التوازن بين معايشة لمتربين والارتقاء بهم ، وبين لارتقاء بنفسه ، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها ، وقربها من الله .
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية ، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية ، حيث يخلو المرء بنفسه أحياناً بقصد التعبد ، أو التزود من العلم ، أو محاسبة النفس ، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية . وقد كان من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة ، وحبب إليه الخلاء ، فكان يخلو في غار حراء ، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء [20].
هـ - البعد عن الدخول في الخصوصيات : كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد اقتحامه نوعاً من العدوان عليها ، ويأتي الإنسان على رأس القائمة . قال - تعالى - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُواعَنْأَشْيَاءَإِنْتُبْدَلَكُمْتَسُؤْكُمْ{ (المائدة : 101) ، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية : هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس ؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم ، والاطلاع على مساوئهم [21].
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط ، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني ، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم ، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً ، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله - تعالى - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواوَلَايَغْتَبْبَعْضُكُمْبَعْضًاأَيُحِبُّأَحَدُكُمْأَنْيَأْكُلَلَحْمَأَخِيهِمَيْتًافَكَرِهْتُمُوهُوَاتَّقُوااللَّهَإِنَّاللَّهَتَوَّابٌرَحِيمٌ{ (الحجرات : 12) .
و - ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب :ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد ؛ فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به ، أو يسافر معه وحده ، أو يبيت معه ، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة ، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غير محمودة ؛ لذا شدد السلف الصالح رضوان الله عليهم في صحبة الأمرد ، والآثار في ذلك كثيرة ومنها :
1 - ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال : « كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل » [22].
2 - روى أيضاً عن بعض التابعين : « ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه » [23].
3 - روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال : « لا تجالسوا أولاد الأغنياء ؛ فإن لهم صوراً كصور النساء ، وهم أشد فتنة من العذارى » [24].
« قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة ، ولا يسوغ أن يُهمَلوا ، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع ؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا ، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم ، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم ، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين ، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد .
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها ، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها : عدم الخلوة ، أو السفر مع الأمرد لوحده ، ومراعاة المبيت وما يتعلق به » [25].
و - ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته ، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته ، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته ، وارتباطاته الاجتماعية .
ز - التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة ؛ بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر ؛ فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي .
ح - الاقتصاد في المزاح والهزل ، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة .
8 - المربي بين المعايشة والعزلة القلبية : يقول الدكتور سلمان العودة حفظه الله : « هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح ، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه ؛ فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه ، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع ، أو الولع بالدنيا ، أو اتباع الهوى ، ساع لنقلهم عما هم فيه إلى حيث السلامة والأمان . فهو يخالط الناس لغاية واضحة ، هي العمل على انتشالهم من الضلال إلى الهدى ، ومن البدعة إلى السنَّة ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، ولا يستطيع أن يؤدي ذلك بصورة صحيحة مؤثرة إلا من دَاخَلَ الناس وعاشرهم ، وعرف أحوالهم ، وأحسن إليهم بلسانه ويده ما استطاع سبيلاً .
وهذه المخالطة المقصودة تجعل في قلب المخالط شعوراً متميزاً يحميه من التأثر بأعمال الناس وأهوائهم وانحرافاتهم إلى حد بعيد ، وبذلك يتمكن من اكتساب الخصائص الخيرة الجميلة التي قد تنقصه ، ومن الانتفاع بالتجارب التي تزكي العقل الغريزي وتنميه ، ومن الاطلاع على أحوال الزمان وأهله ، ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها ، ليقوم بعدُ بمدافعتها ، وعلاجها بالأسلوب الأمثل ، دون أن يؤدي به ذلك إلى الذوبان في المجتمع المحيط به ، أو التخلي عن علمه ، ونيته ودعوته .
وبذلك يجمع بين الخلطة والعزلة ، الخلطة بجسده ومدخله ومخرجه ، والعزلة بقلبه وعمله ومشاعره ، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : « خالطوا الناس ، وزايلوهم ، وصافحوهم ، ودينكم لا تَكْلَمُوه » [26].
9 - برامج عملية وخطوات إجرائية للمعايشة : لعل البعض يطالب بتحويل هذا الكلام النظري إلى برامج عملية وخطوات إجرائية يمكن قياسها وتقويمها ، ولا شك في أهمية هذا المطلب ، خاصةً أن البعض قد يجيد التنظير والتقعيد الكلامي ويعجز عن ترجمته ( كلامياً ) في أرض الواقع ؛ لذا كان لزاماً علينا أن نضع بعض البرامج العملية والخطوات الإجرائية في معايشة المربي لمن يربيهم ، وننبه إلى أهمية استثمار تلك المحاور والخطوات في التوجيه والتربية ، وهي كالتالي :
1 - مرافقته في بعض الشعائر التعبدية ؛ كالصلاة معه ، وأخذه لذلك ، ومرافقته في العمرة والحج ، واتباع الجنائز ، وغير ذلك ، واستثمار الرفقة في التوجيه والتربية .
2 - توثيق الصلة معه بالإقبال والسلام عليه ، والتبسم في وجهه ، والسؤال عنه وعن أهله ، والاتصال به هاتفياً من أجل ذلك ، وزيارته في بيته ، والسؤال عنه إذا غاب أو تأخر ، والقرب منه عند وحدته ، وإهدائه ، وإجلاسه بجوارك عند مقابلته ، والأخذ بيده ، وتبادل أطراف الحديث معه في حال اللقاء به ، ومناداته بأحب الأسماء إليه ، وتكنيته ، ومرافقته معك في السفر ، ومراسلته ، ومعرفة اهتماماته ومحبوباته ، وغير ذلك .
3 - مشاركته وجدانياً وذلك بالفرح لفرحه ؛ كزواجه ، أو زواج قريب له ، أو نجاحه ، أو حصول نعمة له ، أو تجددها ، أو غير ذلك ، وكذلك مشاركته وجدانياً بالحزن لحزنه ؛ كموت قريب له ، أو مرضه ، أو فقدان عزيز عليه ، أو غير ذلك ، والوقوف معه لمواساته .
4 - إشعاره بأن له قيمة ومكانة ؛ وذلك بعيادته إذا مرض وتصبيره ، والوقوف معه ، والتنزه معه ، وإجابة دعوته ، وإكرامه ، والاستماع إلى همومه ومشكلاته ، والسعي في حلها ، والسعي في قضاء دَيْنِه وحاجاته ، وإشعاره أنك تحترم رأيه ، وغير ذلك .
5 - مرافقته في بعض وسائل الارتقاء والتعلم ؛ كحضور الدروس العلمية معه ، والمحاضرات ، والدورات الشرعية ، وزيارة المخيمات الدعوية ، والمكتبات الإسلامية ، والتسجيلات ، ومعارض الكتاب ، وغير ذلك .
الخاتمة : وبعدُ : فهذه أخي المربي كلمات وخواطر سطرها أخ لك في الله ، لا تعدو أن تكون أراءً شخصية ، إن أصاب فيها فمن الله ، وإن أخطأ فمن نفسه والشيطان ، والله ورسوله بريئان مما يقول .
أيها المربي ! شمِّر عن ساعديك ، واعزم على العمل ، وابحث عن المُعِين ، وتوكل على الله ، وليكن هدفك سامياً ، وهمتك عالية ؛ لكي تستطيع أن تنتج بأقصى طاقة ، ولا ترضَ بالقليل من العمل ، واصدق الله يصدقك .
أيها المربي ! إنه لا يكفي للقيام بواجب التربية والتوجيه الكلمات العاجلة ، أو البرامج المرتجلة ؛ فمن حق الشباب علينا وهم فلذات أكبادنا أن نُعنَى بتربيتهم ، فهلاَّ نبادر في خطوات جادة للوصول إلى أسلوب أمثل في التوجيه والتربية ! نأمل ذلك ونسأله سبحانه الإعانة ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين .
(1) رواه مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها (1209) , حطمه الناس ، أثقلوه وأضعفوه .
(2) رواه البخاري ، كتاب الأدب (5664) .
(3) رواه النسائي ، شرح السيوطي (3/80 81) .
(4) صحيح الجامع (5718) ، السلسلة الصحيحة (349) .
(5) مختصر صحيح مسلم (1211) ، صحيح الجامع (5740) .
(6) رواه مسلم ، كتاب الإمارة (3408) .
(7) السلسلة الصحيحة (349) ، المشكاة (3697) ، صحيح الجامع (5695) .
(8) صحيح الجامع (6651) .
(9) رواه البخاري فتح الباري (7/164) ، (3822) .
(10) صحيح ابن ماجه بتحقيق الألباني (1/3) ، حديث رقم (125) .
(11) صحيح الجامع (6651) .
(12) صحيح ابن ماجه ، بتحقيق الألباني (1/31) ، رقم (25) .
(13) صحيح سنن الترمذي (3/230) .
(14) رواه البخاري (3738 - 3739) .
(15) رواه البخاري ، كتاب الحدود (6282) .
(16) رواه البخاري ، كتاب الجمعة (871) .
(17) أخرجه أبو داود في الصلاة ، في باب الاستعاذة (2/94 - 95/ح 1555) , وفيه : غسان بن عوف المازني البصري : وهو لين الحديث التقريب , ويشهد له حديث أنس وقد أخرجه البخاري في الجهاد والسير ، باب من غزا بصبي للخدمة (6/10 ح 2893) بلفظ نحوه ، و أحمد في مسنده (3/ 159) ، و أبو داود (ح 1541 ، 1546) ، و الترمذي (34844 ، 3503) ، و البيهقي (6/304) (9/125) ، و الحاكم (1/533) ، و النسائي (4/467 ، ح7973 الكبرى) .
(18) (علم النفس الدعوي) ، د / عبدالعزيز النغيمشي ، 309 - 310 ، بتصرف يسير .
(19) لمقيده مقال في مجلة البيان بعنوان : (التعلق بالأشخاص لا بالمنهج) ، ينصح بالرجوع إليه في العدد 157 ، رمضان 1421هـ .
(20) الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - رواه البخاري في بدء الوحي ، باب : كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/3) .
(21) تفسير القرطبي (6/332) .
(22) شعب الإيمان [ (5395) 4/358] .
(23) شعب الإيمان [ (5396) 4/358] .
(24) شعب الإيمان [ (5397) 4/358] .
(25) مقالات في التربية ، محمد الدويش ، المجموعة الأولى ، ص (42) .
(26) العزلة والخلطة د / سلمان العودة ص (50 - 51) .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|