ثم يضيف رحمه الله إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف، المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق، والعكس كذلك صحيح، فهذا مسخر ليجمع المال فيأكل منه، ويرتزق ذاك وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء، والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء؛ وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات والتفاوت في الأعمال والأرزاق [قطب، في ظلال القرآن، ج 6، ص 352].
سادساً: البعد كل البعد عن إتباع الهوى والشهوة في أمور الحياة وخصوصاً ما له علاقة مباشرة من قريب، أو من بعيد بأمور الدين لأنه يترتب عليها تحريف وتغيير ما شرع الله تعالى ليوافق الأهواء والشهوات والرغبات، وأن يكون الإنسان دائماً متبع لا مبتدع ويسعى لمرضاة الله تعالى.
سابعاً: الحرص كل الحرص على تطبيق حكم الله تعالى في ما أمر ونهى وخصوصاً في حسن التوجه والانقياد لله تعالى، والبعد عن الإشراك به والعناية بتوحيده في أسمائه وصفاته قولاً وفعلاً، ولذا قال تعالى: ï´؟ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ï´¾ [المائدة: 44]، وقال تعالى: ï´؟ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ï´¾ [المائدة: 45]، وقال تعالى: ï´؟ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ï´¾ [المائدة: 47].
ثامناً: أهمية القول الحسن واختيار العبارات اللطيفة الرقيقة، وضرب المثل عند دعوة الآخرين، فقد أشار أبو السعود رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: ï´؟ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ï´¾ [يوسف: 39] ما نصه " ناداهما بعنوان الصحبة في دار الأشجانِ ودارِ الأحزان التي تصفو فيها المودةُ وتخلُص النصيحةُ ليُقبِلا عليه ويَقبَلا مقالتَه "، ولذلك يجب على المربين والدعاة والمصلحين مراعاة جانب الرفق واللين والقول الحسن في النصيحة والدعوة إلى الله تعالى [أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ج 3، ص 437].
تاسعاً: على الإنسان أن يُحَكَّمَ عقله ويحسن النظر والتأمل في حقيقة عباداته، ولا يكون إمعة وتابعاً لغيره دون تبصر فيقع في أمور تخالف حقائق الأشياء لأن هذا الدين دين عظيم من وهبه الله تعالى عقلاً نيراً وبصيرة صافية فإنه يجد مبتغاه، ويتحقق له بالبرهان العقلي والسلطان النقلي أن هذا الدين هو الدين الحق الذي جاء به النبي الخاتم صلى الله تعالى وسلم عليه وآله من الله سبحانه وتعالى.
عاشراً: الحرص والعناية التامة بتقوى الله تعالى في السر والعلن فهي خير زاد، وهي سفينة النجاة للإنسان في الدنيا والآخرة وهي مفتاح كل خير، وهي سبب رئيس في الحصول على مرضات الله تعالى وتعليم الله له قال تعالى: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 282].
الحادي عشر: اللجوء بعد الله تعالى إلى أهل العلم والحكمة والرأي السديد في ما يحصل من عوارض ورزايا؛ فهم أقدر الناس على إبداء الرأي والمشورة من خلال ما اكتسبوه من خبرة علمية وعملية، ومن خلال ما حباهم الله تعالى من حكمة وبعد نظر.
الثاني عشر: العناية والاهتمام بأخذ الحيطة والحذر في كل الأمور؛ وخصوصاً الأمور المهمة التي يترتب عليها حوادث ونتائج، قال الله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ï´¾ [النساء: 71]، وقوله تعالى: ï´؟ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ï´¾ [النساء: 102].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه [انظر: القاضي عياض، الشفا، ط 3، ص 81].
الثالث عشر: يجب أن يحرص الإنسان المسلم أن يعمل بما عمل؛ فهذا دأب الأنبياء والعلماء الربانيين وعباد الله الصالحين، كقول شعيب: ï´؟ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ï´¾ [هود: 88]، ولعامة المؤمنين: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الصف: 2- 3].
الرابع عشر: اليقين التام الذي لا يسايره أدنى شك بقدرة الله تعالى وعظمته في نصر عباده المؤمنين إذا ما أحسنوا التوجه إلى الله تعالى وعملوا بما علموا، وأخذوا بالسنن والأسباب المادية التي عن طريقها تتحقق الأشياء، فإنه بإذن الله تعالى يأتي بعد ذلك عون الله ونصره، قال تعالى: ï´؟ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ï´¾ [الحج: 40].
الخامس عشر: إن سبب بُعد الكثير من الناس عن الله تعالى وعدم الالتزام بشرعه غفلتهم؛ فهم كما قال الله تعالى: ï´؟ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ï´¾ [الروم: 7].
وقال السعدي رحمه الله في تفسيره حول هذه الآية كلاماً جميلاً ما نصه: " ومن العجب أن من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به، وبرزوا وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم اللّه عليه فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة بالعواقب، قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضلالهم يعمهون وفي باطلهم يترددون نسوا اللّه تعالى فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقِيَّ العالي والحياة الطيبة ولكنها لماّ بُني كثير منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدمير [السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ج 1، ص 636].
ولا شك أنه لا يوقظ هذه الغفلة عند الإنسان ويحي القلوب إلا طلب العلم الشرعي، والعناية بمجالس الذكر فهي تزيد حرارة الإيمان وتذكر الغافل كما قال تعالى: ï´؟ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الذاريات: 55]، وقال تعالى: ï´؟ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ï´¾ [الأعلى: 9-10].
السادس عشر: العناية التامة بتوحيد الله تعالى ولزوم فطرة الله عز وجل التي تعني توحيده سبحانه؛ وهي التي فطر الناس عليها، قال تعالى: ï´؟ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ï´¾ [الأنبياء:24].
السابع عشر: العناية التامة بالإخلاص لله تعالى في جميع الأحوال وإقامة دينه وفق ما شرع من أوامر ونواه، وأشار السعدي رحمه الله عند قوله تعالى فقال: ï´؟ فَأَقِمْ وَجْهَكَ ï´¾ [الروم: 30] أي: " انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء، والإنابة والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه تعالى فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " [السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ج 1، ص 640].
الثامن عشر: يجب أن يحرص المربون في كافة مواقعهم وعلى مختلف مستوياتهم بالمحافظة على فطرة الناشئة من أن تكدر أو تشوبها شائبة، أو تتأثر بالمؤثرات السلبية التي تفسدها، ولذلك قال السعدي رحمه الله عند تفسير قول الله تعالى: ï´؟ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ï´¾ [الروم: 30]: إن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه تعالى في قلوب الخلق كلهم الميل إليها فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق، وهذا حقيقة الفطرة ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ " [صحيح البخاري، حديث رقم: 1296، ج 5، ص 182] ï´؟ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ï´¾ أي: لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه تعالى، ï´؟ ذَلِكَ ï´¾ الذي أمرنا به ï´؟ الدِّينُ الْقَيِّمُ ï´¾ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته فإن من أقام وجهه للدين حنيفاً فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه ï´؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ï´¾ فلا يعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه [السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ج 1، ص 640].
التاسع عشر: الجهل المركب لدى الكثير من غير المسلمين بأن الدين الإسلامي ليس خاتم الأديان، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليس آخر الرسل، وأنه لم يبعث للناس كافة بشيراً ونذيراً، فحينئذ لا غرابة أن يجد المسلمون هجمات شرسة على الدين الإسلامي وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مشاهد وملموس اليوم.
ولهذا كان لازماً على المسلمين اليوم كل حسب موقعه أن يسعى إلى بيان هذه الحقيقة التي بينها وأكد عليها القرآن الكريم في غير ما آية، قال تعالى: ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ï´¾ [سبأ:28]، وقال تعالى: ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ï´¾ [الأنبياء: 107].
العشرون: إن الله تعالى تكفَّل بتوزيع الأرزاق وبسطها على الناس حسب علمه تعالى وحكمته، وليس مجرّد بسط الرزق يدل على أنه قد رضي عنهم ورضي عملهم، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، ولكن أكثر الناس يجهلون الحكمة في ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرف والكرامة، ومدار التضييق الهوان والحقارة؛ فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعونها في مواضعها قال تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ï´¾ [سبأ:36] [انظر: الشوكاني: فتح القدير، ج 6، ص 113].
وأضاف محمد سيد طنطاوي - حفظه الله - في تفسيره عند قوله تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ï´¾ [سبأ:36]: ولم يدركوا لجهلهم وانطماس بصائرهم أن بسط الرزق قد يكون للاستدراج، وأن تضييقه قد يكون للابتلاء والاختبار ليتميز قوي الإِيمان من ضعيفه [طنطاوي، التفسير الوسيط، ج 1، ص 3483].
يتبع