شمولية التشريع الإسلامي:
الحقيقة أن التشريع في الإسلام ليس محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور أولئك أو يصورون، والحدود ليست إلا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، التي ينبغي أن تسبقها تهيئة صحيحة للأمة من خلال نشر الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام، وحتى تفكر الأمة تفكيرا استقلاليا يعتمد على أساس الإسلام العظيم لا على أساس التقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، بل تتميز بمقوماتها كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أفضل ما عرف التاريخ من دلائل الحضارة والتقدم ومظاهر الفخار والمجد. ومن ثم فهي تستخدم كل المنابر الدينية والتعليمية والإعلامية والفنية وكل وسائل صناعة الرأي والتوجيه لتعمل على:
إيجاد الفرد المسلم الحر ثم إيجاد المجتمع المسلم الذي يطبق القيم والأخلاق الإسلامية وقواعد الحياة الاجتماعية السعيدة. ثم إقامة الحكومة العادلة التي تنشر العدل وتحفظ الحريات وتحرس القيم وتنظم العلاقات، وتعتمد على الكفاءات، وتسعى لتحقيق الكفاية، وتحرس وحدة الأمة، وتقبل رقابتها وتحترم إرادتها على كل المستويات.
ثم يأتي بعد ذلك الحدود التي هي الضوابط التي تحمي ذلك المجتمع وتلك الأخلاق؛ إذ لا يمكن للمجتمع أي مجتمع أن تنتظم أموره دون ضبط اجتماعي.
بهذا ترى أن التشريع في الإسلام تشريع شامل، ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، ويضع المبادئ الأساسية لتنظيم العلاقة بين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني وإداري ودستوري ودولي... إلخ، إلى جانب أنه قانون ديني.
ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والمعاملات، والأنكحة، والمواريث، والأقضية، والدعاوي، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والآداب، فهو يضع القواعد ويرسي المبادئ الصالحة لتنظيم حياة الإنسان، من المستوى الفردي، إلى إقامة الدولة والحكومة، والإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء بهذا الشمول والكمال.
فهو يضع قواعد نظام سياسي يضمن سلامة المجتمع ويحفظ كرامته ويحقق حريات وحقوق أفراده وحصول هيبته بين المجتمعات.
ويضع قواعد نظام اقتصادي يمنع الغش والاحتكار والاستغلال، ويعمل على تنمية الموارد وتنظيم الاستفادة المثلى منها، ويضمن الكفاية بل الوفرة والرفاه والعيش الكريم لسائر الذين يعيشون تحت لوائه.
ويضع قواعد نظام أمني وقضائي يضمن حقوق الناس وأمن المجتمعات في عدالة مطلقة لا تمييز فيها.
ويضع قواعد نظام اجتماعي يحقق إقامة الأسر والبيوت على أساس متين من الترابط والحب والتعاون علي البر والتقوى، ويقدم الحلول الجذرية للمشكلات الاجتماعية.
ويتميز بوضع نظام أخلاقي يعتمد تربية الضمير الحي في النفس والمراقبة الإلهية أساسا ومنطلقا للأخلاق، حتى إن المخطئ ليذهب بنفسه إلى القاضي ويصر على تطهير نفسه من الخطأ الذي وقع فيه.
وهكذا تجد في هذا الدين القويم كل النظم التي يحتاجها الفرد وتحتاجها الجماعة للعيش الآمن الرغيد والحياة الكريمة المستقرة في الدنيا، وللفوز برضوان الله وجنات النعيم في الآخرة.
ثم يأتي نظام العقوبات أو النظام الجنائي ليؤكد أن الحدود ليست سوي السياج والإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال، وبأنه مجتمع منضبط غير منفلت، وأن من لم تستقم فطرته، ولم يتوافق مع مجتمعه، ومن يسعى في الإفساد في الأرض بغير حق؛ يجب ضبطه بهذه الحدود لإيقاف شره، ودفع ضره، وزجر غيره ممن هم على شاكلته، أو تحدثهم أنفسهم بمثل إفساده، وقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
شمولية التنمية الاقتصادية في الاسلام:
لقد حرص الإسلام حرصًا بالغًا على تنمية الإنسان وتنمية موارده الاقتصادية، ليعيش حياة طيبة كريمة، هانئة مليئة بالإنجاز والعمل. العمل الصالح الذي يؤتي ثماره مرتين: مرة في الحياة الدنيا، ومرة في الحياة الآخرة، وهي الحياة التي ترتفع بالمسلم من حد الكفاف إلى حد الكفاية والرفاهية.
ويمكننا القول إن للتنمية الاقتصادية في الإسلام مفهومًا شاملاً عريضًا، يستوعب كل ما يؤدي إلى الحياة الطيبة للإنسان الذي كرمه الله تعالى، وجعله خليفته في الأرض، وأمره بإصلاحها ونهاه عن السعي فيها بالفساد والخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل.
لقد حاول بعض الكتاب استنباط مفهوم للتنمية في الإسلام، استنادًا إلى نصوص أو معان قرآنية، فقيل إن التنمية هي طلب عمارة الأرض، وذلك من قوله تعالى ï´؟ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ï´¾ [هود: 61]. وقيل إن التنمية تعني "الحياة الطيبة"، إشارة إلى معنى الآية الكريمة ï´؟ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [النحل:97]. وقيل هي نقل المجتمع من الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه.
وضع الإسلام للتنمية حسابًا خاصًا، فجعلها في حكم الواجب، وقد فسر علماء التفسير قول الله عز وجل ï´؟ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ï´¾ [هود:61]. على أنها تفيد الوجوب، فالسين والتاء في "استعمركم" للطلب، والطلب المطلق من الله يكون على سبيل الوجوب، وفي تلك الآية يقول الإمام الجصاص: "إن في ذلك دلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغرس والأبنية.
ثم إن الإسلام لما أوجب العمارة على خلقه، جعل لهم في مقابل ذلك حوافز عظيمة، وذلك لما في الحوافز والدوافع والقيم التي تحرك الأفراد، من دور أساسي في إنجاح هذه العملية.
ويعتقد أكثر كتاب التنمية في الاقتصاد الإسلامي، أن القيم التي يربي الإسلام أبناءه عليها، ملائمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولعل أول من أشار إلى هذه النقطة بصورة عملية ومنظمة "مالك بن نبي" في كتابه: "المسلم في عالم الاقتصاد" الذي ركز فيه على دور الإنسان في المجتمع المسلم كلبنة أولى لعملية التنمية.
هذا فيما يتعلق بالحوافز الذاتية التي تجعل الإنسان يسعى لتحقيق التنمية من خلال المنهج التربوي الإسلامي. أما في مجال الحوافز الأخروية والروحية، فنجد أن هناك آيات كثيرة، وأحاديث ترغب في العمل وتحث عليه، ومن الحوافز الأخروية قول الله تعالى ï´؟ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾ [الأحقاف:19]. وقوله تعالى ï´؟ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ï´¾ [الكهف:30]. وكذلك قوله تعالى ï´؟ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ï´¾ [فاطر:10]. ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
وفي مجال الحوافز الدنيوية، فقد وردت أحاديث كثيرة، فمثلاً في مجال الأعمال المخصوصة كالزراعة، جاءت أحاديث تجعل العمل الزراعي في الأراضي غير المملوكة سببًا في التملك، وهذا الحافز يتسم مع طبيعة الإنسان المجبولة على حب المال والتملك. ومن ذلك قول النبي صلى اله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منه له به صدقة".
وخلاصة القول، فإن التنمية الاقتصادية في الإسلام، تنمية شاملة متوازنة تجمع بين تنمية الإنسان، وإعداده إعدادًا صحيحًا.ـ ليضطلع بمسؤولياته أمام الله عز وجل ـ وبين تنمية البيئة المحيطة به اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، لتمكنه من القيام بهذه المسؤوليات على الشكل المطلوب خير قيام.
شمولية الأخلاق في الاسلام ومظاهر هذه الشمولية:
أيها المسلمون: المفهوم الخلقي في الإسلام يشمل نشاط الإنسان كله، فالسياسة لها أخلاقها، ومنبثقة من قاعدة أخلاقية، والاقتصاد له أخلاقياته، ومنبثق من القاعدة الأخلاقية العامة للإسلام، والنشاط الجنسي، والنشاط الفني، والنشاط الفكري، والنشاط العلمي، لا شيء على الإطلاق مما يبذله الإنسان في الأرض من نشاط يمكن أن تكون له قوانين قائمة بذاتها؛ كما يقول العَالَم الغربي، في الإسلام لا شيء يخرج عن قاعدة الأخلاق.
الإسلام يقول: إن هناك سياسة تسوس أمور الناس، هذه السياسة تقوم على الحق والعدل، وهي مقاييس أخلاقية في الوقت التي هي مقاييس عقدية أيضاً؛ لأن السياسة جزء من العقيدة مبنية على الأصل العقدي الذي يشمل كل النشاط البشري، ومصطبغة بالصبغة الأخلاقية، فالسياسة لها أخلاقياتها، خذ هذا المثال من تاريخنا الإسلامي الذي نبغي اليوم أن نعود إليه مرة أخرى:
حين قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اسمعوا وأطيعوا".
تصدى له سلمان الفارسي -رضي الله عنه- يقول: "لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تبين لنا هذا البرد الذي ائتزرت به من أين لك هو؟".
هذا هو المقياس الخلقي للسياسة، هو تعامل سياسي بين الحاكم والمحكوم، قائم على القاعدة العقدية، ومتسم بالسمة الأخلاقية.
وحين لم يغضب عمر لهذه القولة واستجاب، وقال: "لِمَ؟". وحين أفهمه سلمان أنه يتساءل عن البرد، فرد عمر، وقال: "يا عبدالله بن عمر ينادي ابنه عبدالله ناشدتك الله، هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك؟" "نعم". قال ثم التفت إلى المسلمين، يقول: "إن أبي نال برداً واحداً كما ناله بقية المسلمين، ولكنه رجل طويل لا يكفيه برد واحد، فتركت له بردي".
هذا هو مقياس أخلاقي في الوقت الذي هو مقياس عقدي، وفي الوقت الذي هو القاعدة التي تقوم عليها السياسة في الإسلام.
واجبنا نحو الشمولية:
1- أن نؤمن بها، فإن الله عز وجل نعى على من جزءوا الدين من قبلنا فقال: ï´؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ï´¾ (البقرة:85) وقال تعالى: ï´؟ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الحجر:90-93].
2- أن نطبقها في حياتنا تطبيقاً كاملاً، بحيث تَظهرُ في عقيدتنا وعبادتنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، فإن بداية عودة الإسلام الشامل، أن نطبقه على أنفسنا.
3- أن نربى أولادنا عليها، ليحدث لهم التوازن والاعتدال، فلا يتضخم جانب من جوانب الدين عندهم على حساب جانب آخر.
4- الدعوة إليها، وهذه هي معركة الإسلام الكبرى الآن: فإن المجرمين يريدون حصر الإسلام في المسجد - إن سمحوا بذلك أيضًا - وربما يريدون حصره في الشعائر دون الشرائع.
والله عز وجل يقول: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ï´¾ (البقرة:208) فالداعية المخلص هو الذى يدعو إلى الدين كله لا بعضه، إلى العقيدة والشريعة معاً. (وذلك لأن تحقيق شمولية الإسلام يستلزم العمل على إيجاد دولة تحميه وتطبق شريعته وتدعو إليه وعندما تغيب شمولية الإسلام وتوازنه عن كثير من الناس، أو لا يتضحان في تصورهم بالقدر الكافي، يخطئون في فهم جوانب من نظام الإسلام، فيغالون فيها أو يقصرون، فينشأ عن خطأ الفهم انحراف في السلوك والأخلاق، وقد كانوا في غنى عن خطأ الفهم، وبمنجاة من انحراف السلوك والأخلاق لو اتضحت لهم شمولية الإسلام وتوازنه.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بإصلاح الدين، وإصلاح الدنيا، والجمع بين مصلحة الروح والجسد، وحث على القيام بالأمرين، وأن كل واحد منهما ممهد للآخر، ومعين عليه.
فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "اللهم أصلح لي ديني الذي فيه عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي...". هذه الشمولية كانت من أبرز خصائص دعوته - عليه الصلاة والسلام -.، وقد أنكر على من يجزّئ الشرع و يختار منه فقال ï´؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ï´¾، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه لا يقوم بهذا الدين إلا من حاطه من جميع جوانبه".
يقول الإمام حسن البنا:
(الإسلام نظام شامل يتناول جميع مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
فلا ينبغي للمسلم أن يتعبد الله بالإسلام في جوانب المعاملات أو في جانب القضاء أو في العبادات ثم يترك الجانب السياسي و يتبع نظريات موضوعة من صنع البشر قابلة للخطأ و الصواب أو يحمل بعضها من الأفكار التي لا تتوافق مع شرع الإسلام كالحرية المطلقة أو فصل الدين عن السياسة.
والله يقول الحق ويهدى السبيل.