الآداب المطلوبة مع القرآن:القرآن الكريم هو كلام ربِّ العالَمين، وهو أجَلُّ نعمةٍ خصَّ الله بها أمَّة نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّفَهم بها على سائر الأمم من المنازل الرَّفيعة، القرآن الكريم هو الكتاب الذي لو اجتمعَت الجنُّ والإنس على أن يأتوا بسورةٍ من مِثله لَما استطاعوا، القرآن الكريم جعله لنا ربُّنا في دُجَى الظُّلَم نورًا ساطعًا، وفي ظلمة الشُّبهة شهابًا لامِعًا، وإلى سبيل النجاة والحقِّ هاديًا، القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي حرَسه الله - تعالى - بعينه التي لا تنام، وهو حقًّا كما قيل: "إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإن أسفله لَمُغدق، وإنه ليَعْلو ولا يُعْلى عليه".إنه الشِّفاء النَّاجع لأمراض القلوب وأدواءِ المُجتمعات؛ لأنَّ القلوب به قد اهتدَتْ بعد الضَّلال، وأبصرت بعد العمى، واستنارت بعد الجهالة، وأشرقَتْ به الدُّنيا بعد الظُّلمات.وقد أوصانا ربُّ العالمين - تعالى - بتلاوة كتابه، فقال - سبحانه -: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، وأمرَنا النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتلاوة القرآن؛ لأنَّ تلاوته نورٌ وذُخْر وشفاعة، فقال في "صحيح مسلم": ((اقرَؤوا القرآن؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)).والأدب مع القرآن الكريم هو أن تؤمنَ يقينًا أنَّ هذا القرآن كلام الله - تعالى - نزَلَ به الرُّوح الأمين جبريل - عليه السَّلام - على قلب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتُعظِّمَ كلام الله - تعالى - وتحبَّه وتحترمه وتُجِلَّه، وتستحضر قلبك عند تلاوته أو سماعه، كأنَّ الله - تعالى - يكلِّمُك.فهل علمتَ - أخي الحبيب اللَّبيب، يا حامل القرآن وقارئه - ما الذي يَلْزمك من آدابٍ عند قراءته؟! إنَّها آداب كثيرة، لكلِّ من يتعامل مع القرآن، فمثلاً: 1 - آداب متعلم القرآن:القرآن كلام الله العظيم - سبحانه وتعالى - قال - جلَّ جلاله -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41 - 42]، فإذا عَلِم التَّالي أنه يَقرأ كلام الله - تبارك وتعالى - أو يتعلَّم كتاب الله؛ فلا بُدَّ من توقيره واحترامه والتأدُّب معه كما ينبغي، والآداب التي ينبغي مراعاتُها كثيرة، ولكنِّي أذكر لك طرَفًا منها منبِّهًا به على غيره؛ فانْوِ العمل، واستعِن بالله، ولا تغترَّ، ولا يغرنَّك أحوال السفلة من الناس الذين لا يتأدَّبون مع القرآن، بل كلما زاد وقار الله في قلبك زاد حبُّك للقرآن وتأدُّبُك معه.فاعلم أنَّ الله - تعالى - لا يَقبل عملاً إلاَّ إذا كان خالصًا صوابًا؛ فالخالص ما ابتُغي به وجْهُ الله وحده، والصَّواب ما وافق الشَّرع، ولذلك كان على القارئ أن يعدَّ للقراءة ما تحتاجه من آداب، وهي كثيرة كما ذكرت، ومنها:1 - أن يُخْلِص النية، ويقصد بذلك رضا الله - تعالى.2 - لا يقصد بتعلُّمِه توصُّلاً إلى غرضٍ من أغراض الدنيا؛ من مال، أو رياسة، أو وَجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند النَّاس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك؛ ففي "صحيح أبي داود" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من تعلَّم علمًا مما يُبتَغى به وجه الله - عزَّ وجلَّ - لا يتعلَّمه إلا لِيُصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عَرف الجنَّة يوم القيامة)) يعني: رِيحها.3 - وينبغي للمتعلِّم أن يتخلَّق بالخصال الحميدة؛ من السَّخاء، والجود، ومكارم الأخلاق، ففي البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيُدارِسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود بالخير من الرِّيح المرسَلة".• طلاَقة الوجه، والحِلْم، والصَّبر؛ عُوتِبَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القرآن حين عبسَ وجهه، وهو - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا؛ فكن بَشُوشًا، وأحسِنْ إلى الناس ولو أساؤوا.• التَّنَزُّه عن دنيء المكاسب، وتحرِّي أكل الحلال.• مُلازمة الخشوع والسَّكِينة، والوقار والتَّواضع، والخضوع، قال - تعالى -: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58]، وقال - تعالى -: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107 - 109].• اجتناب الضَّحك، وترك المزاح مطلقًا في مجالس القرآن.• يحذر من الحسد والرِّياء، والعُجْب والكِبْر، واحتقار غيره، وإن كان دونَه.• يستعمل دومًا الأحاديث الواردة في التسبيح والتهليل، ونحوهما من الأذكار والدَّعوات.• يُراقب الله - تعالى - في سِرِّه وعلانيته، ويُحافظ على ذلك، ويجب أن يكون معتَمِدًا في جميع أموره على الله - تعالى - قال - سبحانه -: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124].4 - يصون يديه في حال القراءة أو التَّسميع عن العبث، ويحفظ عينيه عن تفريق نظرِهما من غير حاجة.5 - المُداومة على استعمال السِّواك؛ لتطييب الفم قبل القراءة.6 - يقعد على طهارةٍ مستقبِلَ القبلة، منكسرًا، حاضِرَ القلب.7 - يجلس بوقار، وتكون ثيابُه بيضاء نظيفةً، ويلبس قَلَنْسُوة أو عمامة.8 - إذا وصل إلى موضع جلوسه صلَّى ركعتين قبل الجلوس.9 - يجلس متربِّعًا إن شاء، أو غير متربِّع بأدبٍ ووقار.10 - يجتنب الأسباب الشَّاغلة عن التحصيل.11 - ينبغي أن يطهِّر قلبه من الأدناس؛ لِيَصلح لقبول القرآن وحِفْظه واستثماره.12 - ينبغي أن يتواضع لِمُعلِّمه، ويتأدَّب معه، وإن كان أصغر منه سنًّا.13 - ينبغي أن يَنْقاد لِمُعلِّمه، ويُشاوره في أموره، ويَقْبل قوله.14 - لا يتعلَّم إلا ممن كَمُلت أهليَّتُه، وظهرت ديانته، وتحقَّقَت معرفته، واشتهرَتْ صيانته.15 - عليه أن ينظر إلى معلِّمه بعين الاحترام والوقار.16 - من حقِّ المعلِّم عليك أن تُسلِّم على الناس عامة، وتخصَّه دونهم بتحيَّة، وأن تجلس أمامه، ولا تجلس خلفه، ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولن: قال فلانٌ خلافَ ما تقول، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تشاور جليسك في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه إذا قام، ولا تلِحَّ عليه إذا كسل، ولا تَشْبَع من طول صحبته.17 - أن يَرُدَّ غيبة شيخه إنْ قَدر، فإن تعذَّر عليه ردُّها، فارقَ ذلك المجلس.18 - ويدخل على الشيخ كامِلَ الخصال، متطهِّرًا، مستعملاً للسواك، فارغًا من الأمور الشاغلة.19 - لا يدخل بغير استئذان إذا كان الشيخ في مكانٍ يُحتاج فيه إلى الاستئذان.20 - يقعد بين يدي الشيخ قعدة المتعلِّمين، لا قعدة المعلمين.21 - ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا من غير حاجة.22 - ولا يضحك، ولا يكثر الكلام من غير حاجة.23 - ولا يعبث بيده ولا بغيرها، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالاً من غير حاجة، بل يكون متوجِّهًا إلى الشيخ، مصغِيًا لكلامه.24 - لا يقرأ على الشيخ في حال شغل قلب الشيخ وملَلِه، وغمِّه وفرحه، وعطشه ونعاسه وقلقه... ونحو ذلك مما يشقُّ عليه، أو يمنعه من كمال حضور القلب والنَّشاط.25 - يغتنم أوقات نشاط الشَّيخ.26 - يتحمَّل جفوة الشيخ، ولا يصدُّه ذلك عن ملازمته واحترامه، وإن جفاه الشَّيخ ابتدأ هو بالاعتذار إلى الشَّيخ، وأظهر أن الذَّنب له والعتب عليه، فذلك أنفَعُ له في الدنيا والآخرة، وأتقى لقلب الشيخ.27 - أن يكون حريصًا على التعلُّم، مواظبًا عليه في جميع الأوقات التي يتمكَّن منه فيها.28 - لا يقنع بالقليل من العلم، مع تمكُّنه من الكثير.29 - لا يحمِّل نفسه ما لا يطيق مخافةً من الملل، وضياع ما حصَّل.30 - إذا جاء إلى مجلس الشيخ فلم يَجِده انتظره، ولازم بابه، ولا يفوت وظيفته إلاَّ أن يخاف كراهة الشيخ لذلك.31 - إذا وجد الشيخ نائمًا أو مشتغلاً بمهم، لم يستأذن عليه، بل يصبر إلى استيقاظه أو فراغه، أو ينصرف، والصَّبر أولى.32 - يحافظ على قراءة محفوظه، ويراجعه دومًا.33 - لا يحسد أحدًا من رفقته أو غيرهم على فضيلةٍ رزقَه الله إيَّاها.34 - لا يعجب بنفسه بما خصَّه الله، وأن يُذكِّر نفسه أنه لم يحصِّل ما حصَّله بِحَوله وقوته؛ وإنما هو فضل من الله - تعالى - ولا ينبغي له أن يعجب بشيء لم يخترعه، بل أودعَه الله - تعالى.2 - آداب حامل القرآن: 1 - حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا يبغي أن يلهو مع مَن يلهو، ولا يَسْهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيمًا لحقِّ القرآن.2 - أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشَّمائل؛ تعظيمًا لما في جوفه من كلام الله - تعالى.3 - يرفع نفسه عن كلِّ ما نهى القرآن عنه؛ إجلالاً للقرآن.4 - وأن يكون مصونًا عن دنيء الاكتساب، شريف النفس عفيفًا، مترفعًا عن الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا، متواضعًا للصالحين، وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشِّعًا، ذا سكينة ووقار.5 - أن يحذر كلَّ الحذر من اتِّخاذ القرآن معيشة يتكسَّب بها.6 - ينبغي أن يُحافظ على تلاوته، ويكثر منها، وأن يكون عالِيَ الهمة في ذلك، لا يَقْنع بالقليل.7 - يتعهَّد القرآن، ولا يُعرِّضه للنِّسيان.8 - ينبغي أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في اللَّيل أكثر، وفي صلاة الليل أكثر؛ والآثار والأحاديث في هذا كثيرة، ومن الآيات قوله - تعالى -: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113 - 114]، وقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 1 - 4]، وإنَّما رجحت صلاة اللَّيل وقراءته؛ لكونها أجمعَ للقلب، وأبعد عن الشاغلات والمُلْهِيات، والتصرُّف في الحاجات، وأصْوَن عن الرِّياء وغيره من المُحبطات، مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في اللَّيل.واعلم أنَّ فضيلة القيام بالليل والقراءة فيه تَحْصل بالقليل والكثير، وكلَّما كان أكثر كان أفضل، إلاَّ أن يستوعب الليل كلَّه؛ فإنه مكروهٌ المداومة عليه، وإلا أن يضرَّ بنفسه، وأفضل القراءة ما كان في الصلاة، وأما القراءة في غير الصلاة فأفضَلُها قراءة اللَّيل، والنصف الأخير من اللَّيل أفضل من النِّصف الأول، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة، وأمَّا القراءة في النهار فأفضلها بعد صلاة الصُّبح، ولا كراهة في القراءة في أيِّ وقت من الأوقات، ويختار من الأيام الجمعة والاثنين والخميس ويوم عرفة، ومن الأعشار العُشْر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، ومن الشهور شهر رمضان.3 - آداب القراءة: 1 - يجب على القارئِ الإخلاصُ.2 - مراعاة الأدب مع القرآن، فينبغي أن يَستحضر في نفسه أنَّه يُناجي الله - تعالى.3 - يَقرأ على حال مَن يرى الله - سبحانه - فإنَّه إن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه.4 - ينبغي إذا أراد القراءةَ أن ينظِّف فاه بالسواك وغيره، والاختيار في السِّواك أن يكون بعودٍ مِن أراكٍ، ويجوز بسائر العيدان، وبكلِّ ما ينظِّف كالخرقة الخشنة، وغير ذلك، ويَسْتاك عرضًا مبتدئًا بالجانب الأيمن من فمه، وينوي به الإتيان بالسُّنة.5 - يستحبُّ أن يقرأ وهو على طهارة، فإن قرأ مُحْدِثًا جاز، ولا يُقال: ارتكب مكروهًا، بل هو تارك للأفضل، فإن لم يجد الماء أو وجده ولكن لم يقدر على استعماله لمرضٍ أو نحوه من الأعذار المبيحة للتيمُّم، تيمَّم، والمستحاضة في الزَّمن المحكوم بأنه طُهْر حكمها حكم المُحْدِث.وأمَّا الجنب والحائض، فإنَّه لا يجوز لهما قراءة القرآن عند بعض أهل العلم، وقد بيَّنتُ في دروس الفقه أنَّه يجوز لهما قراءة القرآن، ومسُّ المصحف من غير إثم - إن شاء الله - لأنَّ الأدلة التي استدلَّ بها المانعون لا تنهض إلى التَّحريم، نعَم ذلك خلاف الأفضل، لكن لا يقال: إنَّه حرام، والله أعلم.أمَّا إجراء القرآن على قلبهما من غير تلفُّظٍ به، فهو جائز بلا خلاف، وكذا النظر في المصحف.وأجمع المسلمون على جواز التسبيح والصلاة على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغير ذلك من الأذكار للجنب والحائض، ويجوز لهما أيضًا قراءةُ ما نُسِخَت تلاوته من غير خلاف.6 - ويستحبُّ أن تكون القراءة في مكان نظيفٍ مُختار، ولهذا استحبَّ جماعةٌ من العلماء القراءةَ في المسجد؛ لكونه جامعًا للنظافة وشرف البقعة، ومحصِّلاً لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف؛ فإنه ينبغي لكلِّ جالس في المسجد الاعتكاف، سواء أكثرَ في جلوسه أو أقل، بل ينبغي أوَّل دخوله المسجد أن ينوي الاعتكاف، وهذا أدَبٌ ينبغي أن يُعتنَى به ويُشاع ذِكْرُه، ويعرفه الصِّغار والعوامُّ؛ فإنه مما يغفل عنه.أمَّا القراءة في الحمَّام، فقد اختلف فيها السَّلف؛ في كراهيتها، وأمَّا القراءة في الطريق فالمختار أنَّها جائزة إذا لم يَلْته صاحبها، فإن الْتهَى صاحبها عنها كرهت، كما كَرِه النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - القراءة للناعس؛ مخافةً من الغلط.7 - يستحبُّ للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة، ويجلس متخشعًا بسكينة ووقار، مُطْرِقًا رأسه، ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلِّمه، فهذا هو الأكمل، ولو قرأ قائمًا أو مضطجعًا أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال - جاز، وله أجر، ولكن دُون الأوَّل.8 - فإن أراد الشُّروعَ في القراءة استعاذ فقال: "أعوذ بالله السَّميع العليم من الشيطان الرجيم"، أو يزيد: "مِن هَمْزِه ونفخه ونفثه".9 - وينبغي أن يُحافظ على قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" في أوَّل كلِّ سورة سوى سورة براءة؛ فإنَّ أكثر العلماء قالوا: إنَّها آية حيث كُتِبت في المصحف.10 - فإذا شرع في القراءة فلْيَكن شأنُه الخشوعَ والتدبُّرَ عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تُحْصَر، وأشهر وأظهر من أن تُذْكَر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصُّدور وتستنير القلوب.11 - استحباب تَرْديد الآية للتدبُّر.12 - البكاءُ حالَ القراءة حالُ العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، وهو مستحَبٌّ مع القراءة وعندها، وطريقة تحصيله أن يحضر قلبه الحزن؛ بأن يتأمَّل ما فيه من التهديد الوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يتأمَّل تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزنٌ وبكاء كما يحضر الخواصَّ؛ فلْيَبْكِ على فَقْدِ ذلك؛ فإنَّه من أعظم المصائب.13 - ينبغي أن يرتِّل قراءته؛ قال - تعالى -: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]؛ لأنَّ ذلك أقرَبُ إلى التوقير والاحترام، وأشدُّ تأثيرًا في القلب، وقد نَهى عن الإفراط في الإسراع، وهو الذي يُسمَّى بالهَذْرَمة.14 - ويُستحبُّ إذا مرَّ بآية عذابٍ أن يَسْتعيذ بالله من الشرِّ ومِن العذاب، أو يَقول: اللَّهم إنِّي أسألك العافية، أو أسألك المُعافاة من كلِّ مكروه، وإذا مرَّ بآية تَنْزيهٍ لله - تعالى - نزَّه، فقال: سبحانه وتعالى، أو: تبارك وتعالى، أو جَلَّت عظَمةُ ربِّنا...15 - احترام القرآن وتعظيمه وتوقيره، والحذَرُ من أمور قد يتَساهل فيها بعض الغافلين، وخصوصًا إذا كانوا مجتمعين، فمن ذلك:• يجب اجتنابُ الضَّحِك، واللَّغَط، والمزاح.• ويجب تَرْكُ الحديث أثناء قراءة القرآن واستماعه، إلاَّ كلامًا يضطرُّ إليه.• واحذر العبَث باليد وغيرها؛ فإنَّك تُناجي ربَّك - تبارك وتعالى - فلا تعبَثْ بين يديه.• واحذر النَّظر إلى ما يُلهي ويبدِّد الذِّهن.• واحذر ما هو أقبَحُ من كلِّ هذا: النظر إلى ما لا يجوز النَّظَر إليه.وعلى الحاضرين مجلسَ القراءة - إذا رأوا شيئًا من هذه المنكرات المذكورة، أو غيرَها - أن يَنْهَوا عنه حسب الإمكان؛ باليد لمن قدر، وباللِّسان لمن عجز عن اليد، وإلاَّ فلْيُنكِر بقلبه؛ بشرط أن يقوم من المَجلس الذي فيه المنكر، وإلاَّ فلا معنى للإنكار بقلبه.16 - يُستحبُّ إذا قرأ سورةً أن يَقرأ بعدها التي تليها، وإذا بدأ من وسط سورة، أو وقَف على غيرِ آخِرها - أن يُراعي ارتباط الكلام، ولا يتقيَّد بالأعشار والأجزاء؛ فإنَّها قد تكون في وسط الكلام المرتبط.17- قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب؛ لأنَّ النظر في المصحف عبادةٌ مطلوبة، فتجتَمِع القراءةُ والنظر.18 - عدم ترقيق الصوت بالقراءة كترقيق النِّساء أصواتَهن.19 - الإمساك عن القراءة عند التَّثاؤب حتَّى يزول.20 - عدم قطع القراءة بالحديث مع النَّاس إلا لضرورة؛ كردِّ السَّلام، ونحو ذلك، فإذا كان يقرأ ماشيًا، فمرَّ على قومٍ - يستحبُّ أن يقطع القراءة، ويسلِّم عليهم، ثم يَرجع إلى القراءة، ويعيد التعوُّذ - كما سيأتي في أحكامه - إن شاء الله.4 - آداب الناس كلِّهم مع القرآن: الأدَبُ مع كتاب الله - تعالى - هو: 1 - الإيمان بأنَّه كلامُ الله - تعالى - وتَنْزيله، لا يُماثله شيءٌ من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله الخَلْقُ بأسرهم، فلا يستطيعون أن يأتوا بسورةٍ من مِثله، أو حتَّى بآيةٍ واحدة.2 - تعظيمه، وتلاوته حقَّ تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها.3 - معرفة عظَمةِ الكلام الذي تفضَّل الله - تعالى - بِمُخاطبة خلقه به، ويَسَّر فهمه، والأُنس به، وعدَمُ الغفلة عنه.4 - معرفة عظمة مُنَزِّل هذا الكلام - عزَّ وجلَّ - بالتفكُّر في أسمائه وصفاته التي هي البوَّابة العُظْمى لزيادة الإيمان.5 - تدبُّر ما فيه، وفَهْم معانيه؛ لتنفيذ ما جاء فيه من أوامِرَ ونواهٍ، ولاستشعار عظمة الخَالق - تبارك وتعالى.6 - تحاشي موانع الفهم؛ كأن يَصْرف هَمَّه كله - دائمًا وأبدًا - إلى التجويد - حتَّى بعد إتقانه - أو أن يُصِرَّ على ذنب، أو أن يتكبَّر، أو أن يملأ قلبه بالدُّنيا، وعليه ألاَّ يعتقد بأنَّ معاني القرآن محصورةٌ فيما ورَد فيها من تفسير.7 - استشعار القارئِ بأنَّ كل آيةٍ في القرآن موجَّهةٌ إليه؛ فيخاف عند الوعيد، ويَستبشر عند الوعد، ويرتَعِد من النَّار عند ذِكْرها، ويَشتاق إلى الجنَّة عند وصفها.8 - إقامة حروفه في التِّلاوة، وتَحْسين تجويده، وتَزْيين القرآن بِصَوته.9 - التَّصديق بكلِّ ما فيه.10 - الوقوف مع أحكامه، وتفهُّم علومه وأمثالِه، والاعتناء بِمَواعظه، والتفكُّر فيه.11 - العمل بِمُحْكَمِه، والتسليم لِمُتشابهه.12 - تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق.13 - يَحْرم تفسيره بغير علم، والكلام في معانيه لِمَن ليس من أهلها.14 - يَحْرم المِرَاء في القُرآن والجدال فيه بغير حق.15 - يَنبغي لِمَن أراد السُّؤال عن تقديم آيةٍ على آية في المصحف، أو مناسبة هذه الآية في هذا الموضع، ونحو ذلك، أن يقول: ما الحِكْمة في كذا؟16 - يُكْرَه أن يقول: نَسِيت آيةَ كذا، بل يقول: أُنْسِيتُها أو أسقطتها.17 - لا يُمنَع الكافر من سماع القرآن؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6].18 - يُكْرَه نَقْش الحيطان والثِّياب بالقرآن، وبأسماء الله - تعالى - تعظيمًا لها.19 - حبُّ القرآن، والاستغناء به، والاستمتاع والتلذُّذ بتلاوته.20 - التَّداوي بالقرآن عقيدةً ويقينًا؛ فإنَّه شفاء لجميع الأمراض القلبيَّة والبدَنية، الحسِّية والمعنويَّة.وبعد؛ أعَلِمت - أخي يا بن الإسلام - هذه الآداب وتلك الحرمات؟! وإذا علمتها فهل عملت بها؟! والله إن القرآن الكريم بيننا، ونحن في أمس الحاجة إليه، فهل عرفنا حقه؟وسائل تحصيل لذَّة التِّلاوة:والكلام عن القرآن لا يَنتهي - يا بن الإسلام - ومَنْزلة أهله عظيمةٌ جدًّا؛ فهُم أهل الله وخاصَّتُه، ولكن في ختام الكلام عن القرآن - في شهر القرآن - أحبُّ أن أَذْكُر بعض الوسائل التي تُعين العبد على تحصيل لذَّة التلاوة وقراءة القرآن، وهذه اللذَّة لن تَحْصل إلاَّ بِتَوافر عشرة آدابٍ عند التلاوة، وهي: فَهْم أصل الكلام، ثم التَّعظيم، ثُمَّ حضور القلب، ثم التدبُّر، ثم التفهُّم، ثم التخلِّي عن موانع الفهم، ثم التَّخصيص، ثم التأثُّر، ثم الترقِّي، ثم التبَرِّي، وهذا هو الموجز، وإليك البيانَ بقليلٍ من التفصيل:فالأوَّل: فهم عظمة الكلام وعُلوِّه، وفَضْل الله - تعالى - ولُطْفه بِخَلقه في نزوله عن عرشِ جلاله إلى درجة إفهام خَلْقِه، ولْيَنظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهام خلقه، وكيف تجلَّت لهم تلك الصفة في طيِّ حروفٍ وأصوات، هي صفات البشر؛ إذْ يعجز البشر عن الوصول إلى فَهْم صفات الله - عزَّ وجلَّ - إلاَّ بوسيلة صفات نفسه، ولولا استِتارُ كُنْهِ جلالة كلامه بكِسْوة الحروف، لَما ثبَتَ لسماع الكلام عرض ولا ثري، ولَتلاشى ما بينهما من عظَمة سلطانه، وسُبُحات نوره، كما قال - تعالى -: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]، ولولا تثبيتُ الله - عزَّ وجلَّ - لموسى - عليه السَّلام - لمَا أطاق سماعَ كلامه، كما لَم يُطِق الجبلُ مبادئ تجلِّيه، حيث صار دكًّا، كما في سورة الأعراف.والثانِي: التعظيم للمتكلِّم؛ فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يُحضِر في قلبه عظمةَ المتكلِّم، ويعلم أنَّ ما يقرؤه ليس من كلام البشَر، وأنَّ في تلاوة كلامِ الله غايةَ الخطر؛ فإنه - تعالى - قال: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79]، وكما أنَّ ظاهر جِلد المصحف وورقه محروسٌ عن ظاهر بَشرة اللاَّمس إلاَّ إذا كان متطهِّرًا، فباطن معناه أيضًا بِحُكم عزِّه وجلاله محجوبٌ عن باطن القلب، إلاَّ إذا كان متطهِّرًا عن كلِّ رجس، ومستنيرًا بنور التعظيم والتوقير، وكما لا يصلح لِمَسِّ جلد المصحف كلُّ يد، فلا يصلح لتلاوة حروفِه كلُّ لسان، ولا لِنَيْلِ معانيه كلُّ قلب.فتعظيم الكلام تعظيمُ المتكلِّم، ولن تَحْضره عظَمةُ المتكلم ما لم يتفكَّر في صفاته وجلاله وأفعاله، فإذا حَضر ببالهِ العَرْشُ واستواءُ ربِّه عليه - كما يليق بجلاله - والكرسيُّ الذي وَسِعَ السَّمواتِ والأرضَ، واستحضر مشهدَ السموات والأرض، وما بينهما من الجنِّ والإنس، والدوابِّ والأشجار، وعلم أنَّ الخالق لجميعها، والقادِرَ عليها، والرازقَ لها واحدٌ، وأنَّ الكل في قبضة قدرتِه، متردِّدون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته؛ إنْ أنْعَمَ فبِفَضله، وإن عاقب فبِعَدله، وأنَّه الذي يقول: هؤلاء إلى الجنَّة ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهذا غاية العظَمة والتعالي، فبالتَّفكير في أمثال هذا يَحْضر تعظيمُ المتكلِّم، ثم تعظيم الكلام.والثالث: حضور القلب، وتَرْك حديث النفس؛ قيل في تفسير: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: 12]؛ أيْ: بِجدٍّ واجتهاد، وأَخْذُه بالجِدِّ أن يكون متجرِّدًا له عند قراءته، منصرِفَ الهمَّة إليه عن غيره، وقيل لبعضهم: إذا قرأتَ القرآن تُحدِّثُ نفسك بشيء؟ فقال: أوَشيء أحبُّ إليَّ من القرآن حتَّى أحدِّث به نفسي؟!
وكان بعضُ السَّلف إذا قرأ آيةً لَم يكن قلبه فيها، أعادها ثانيةً، وهذه الصِّفة تتولَّد عمَّا قبلها من التعظيم؛ فإن المعظِّم للكلام الذي يَتْلوه يستبشر به، ويستأنس، ولا يَغْفل عنه، ففي القُرآن ما يَستأنس به القلب، إن كان التَّالي أهلاً له، فكيف يطلب الأُنس بالفِكْر في غيره، وهو مُتنَزِّه ومتفرِّج، والذي يتفرَّج في المتنَزَّهات لا يتفكَّر في غيرها، فقد قيل: إنَّ القرآن ميادينُ وبساتين، ومقاصير وعرائس، وديابيج ورِيَاض، فإذا دخل القارئُ الميادينَ، وقطفَ من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس، ولبس الديابيج، وتنَزَّه في الرياض، استغرَقه ذلك، وشغله عمَّا سواه، فلم يَعْزُب قلبه، ولم يتفرَّق فِكْرُه.الرابع: التدبُّر، وهو وراء حضور القلب؛ فإنَّه قد لا يتفكَّر في غير القرآن، ولكنه يقتصر على سماعه من نفسه، وهو لا يتدبَّره، والمقصود من القراءة التدبُّر؛ ولذلك سُنَّ الترتيل في الظَّاهر؛ ليتمكَّن من التدبُّر بالباطن، قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "لا خير في عبادةٍ لا فِقْه فيها، ولا في قراءةٍ لا تدبُّر فيها".وإذا لم يتمكَّن من التدبُّر إلاَّ بترديد فليردِّد، إلاَّ أن يكون خلف إمام، فإنَّه لو بقي في تدبُّر آيةٍ وقد اشتَغل الإمامُ بآية أخرى، كان مسيئًا! مثل مَن يشتغل بالتعجُّب من كلمةٍ واحدة مِمَّن يُناجيه عن فهم بقيَّة كلامه، وكذلك إن كان في تسبيح الرُّكوع، وهو متفكِّر في آيةٍ قرأَها إمامُه فهذا وسواس؛ فقد رُوِي عن عامر بن عبدقيس أنِّه قال: "الوسواس يَعْتريني في الصلاة"، فقيل: في أمر الدُّنيا؟ فقال: "لأَنْ تختلف في الأسِنَّة أحبُّ إليَّ من ذلك، ولكن يشتغل قلبِي بموقفي بين يدَيْ ربِّي - عزَّ وجلَّ - وأنِّي كيف أنصرف"! فعدَّ ذلك وسواسًا، وهو كذلك؛ فإنه يشغله عن فَهْمِ ما هو فيه، والشيطان لا يقدر على مثله إلاَّ بأن يشغله بمهمٍّ ديني، ولكن يمنعه به عن الأفضل.وعن أبي ذرٍّ قال: قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنا ليلةً، فقام بآيةٍ يردِّدُها، وهي: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ...﴾ [المائدة: 118]؛ الآية، وقام تميمٌ الدَّاريُّ ليلةً بهذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...﴾ [الجاثية: 21]؛ الآية، وقام سعيدُ بن جُبَير ليلةً يردِّد هذه الآية: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: 59].وقال بعضهم: إنِّي لأفتَتِح السُّورة، فيوقفني بعضُ ما أشهد فيها عن الفراغ منها، حتَّى يطلع الفجر، وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهَّمُها ولا يكون قلبي فيها لا أعدُّ لها ثوابًا، وحُكي عن أبي سليمان الدارانيِّ أنه قال: إنِّي لأَتْلو الآية، فأقيم فيها أربع ليالٍ، أو خمس ليالٍ، ولولا أنِّي أقطع الفِكْر فيها ما جاوَزْتُها إلى غيرها، وعن بعض السَّلَف أنَّه بقي في سورة هود ستَّة أشهر يكرِّرها، ولا يفرغ من التدبُّر فيها.وقال بعضهم: لي في كل جمعة خَتْمة، وفي كلِّ شهر ختمة، وفي كلِّ سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغتُ منها بعد! وذلك بحسب درجات تدبُّرِه وتفتيشه، وكان هذا أيضًا يقول: أقمتُ نفسي مقام الأُجَراء؛ فأنا أعمل مُياوَمةً، ومُجامعةً، ومُشاهَرةً، ومُسانَهةً؛ أيْ: بأجر كل يومٍ، وكل جُمعة، وكل شهر، وكل سَنة، يشير إلى خَتماته في تلك الأزمنة.الخامس: التفهُّم؛ وهو أن يَستوضح من كلِّ آية ما يليق بها؛ إذِ القرآن يَشتمل على ذِكْر صفات الله - تعالى - وذِكْر أفعاله، وذِكر أحوال الأنبياء - عليهم السَّلام - وذكر أحوال المكذِّبين لهم، وأنَّهم كيف أُهْلِكوا، وذِكْرِ أوامره وزواجرِه، وذِكْر الجنَّة والنار.أمَّا صفات الله، فكقوله - تعالى -: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وكقوله: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: 23]، فليتأمَّل معانِيَ هذه الأسماء والصِّفات؛ لينكشف له أسرارُها، فتَحْتَها معانٍ مدفونةٌ لا تنكشف إلاَّ للمُوفَّقين، وإليه أشار عليٌّ - رضي الله عنه - بقوله لَمَّا سُئل: هل عندكم من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيءٌ سوى القرآن؟ فقال: لا، والذي خلَق الحبَّة، وبَرَأ النَّسمة، إلاَّ أن يُعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه.وأمَّا أفعاله - تعالى - فكَذِكْره خلْقَ السَّموات والأرض وغيرها، فيَفهم التَّالي منها صفاتِ الله - تعالى - وجلالَه؛ إذِ الفعل يدلُّ على الفاعل، فتدلُّ على عظَمتِه.وأمَّا أحوال الأنبياء - عليهم السَّلام - فإذا سمع منها كيف كُذِّبوا وضُربوا وقُتل بعضهم، فليفهم منه صفة الاستغناء لله - تعالى - عن الرُّسل والمُرسَل إليهم، وأنه لو أهلك جميعَهم لَم يؤثِّر ذلك في ملكه شيئًا، وإذا قدَّرَ نُصرتَهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله - تعالى - وإرادتَه لِنُصرة الحق.وأمَّا أحوال المكذِّبين؛ كعادٍ وثَمود وما جرى عليهم، فلْيَكن فَهْمُه منه استشعارَ الخوف مِن سطوته ونقمته، ولْيَكن حظُّه منه الاعتبارَ في نفسه، وأنَّه إن غفل وأساء الأدب واغترَّ بما أُمهل، فرُبَّما تدركه النقمة، وتنفذ فيه القضية.وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنَّار وسائرَ ما في القرآن، فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه؛ لأنَّ ذلك لا نهاية له، وإنَّما لكلِّ عبدٍ بِقَدْرِ رِزْقه: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].فالغرَض مما ذكَرتُه التَّنبيه على طريق التفهُّم؛ لينفتح بابه، فأمَّا الاستِقْصاء فلا مَطْمَع فيه، ومن لَم يكن له فَهْم ما في القرآن، ولو في أدنى الدَّرجات، دخَل في قوله - تعالى -: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد: 16]، والطَّابع هي الموانع التي سأذكُرها - إن شاء الله - في موانعِ الفهم.السادس: التخلِّي عن موانع الفَهْم؛ فإنَّ أكثر الناس مُنِعوا عن فهم معاني القرآن لأسبابٍ وحجُب أسدلَها الشيطانُ على قلوبِهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن.وحُجُب الفهم ثلاثة: أوَّلُها: أن يكون الهمُّ منصرِفًا إلى تحقيق الحروف؛ بإخراجها من مَخارجها، وهذا يتولَّى حِفْظَه شيطانٌ وُكِّل بالقُرَّاء؛ لِيَصرفهم عن فَهْم معاني كلام الله، فلا يَزال يحملهم على ترديد الحرف؛ يخيِّل إليهم أنه لم يَخْرج من مخرجه، فهذا يكون تأمُّله مقصورًا على مخارج الحروف، فأنَّى تنكشف له المعاني؟! وأعظم ضحكةٍ للشيطان مِمَّن كان مطيعًا لمثل هذا التَّلبيس.ثانيها: أن يكون مقلِّدًا لمذهبٍ سَمِعه بالتَّقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصُّب له بمجرد الاتِّباع للمسموع، من غير وصولٍ إليه ببصيرةٍ ومُشاهَدة، فهذا شخصٌ قيَّده مُعتقَدُه عن أن يتَجاوزه فلا يُمكنه أن يخطر بباله غير معتقَده، فصار نظره موقوفًا على مسموعه، فإنْ لَمع برق على بُعد، وبدا له معنًى من المعاني التي تُباين مسموعه، حمل عليه شيطانُ التقليد حملةً، وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلافُ معتقَدِ آبائك؟ فيرى أنَّ ذلك غرورٌ من الشيطان، فيتباعد منه، ويتحرَّز عن مثله.ومثله مَن يقرأ قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وما يحتويه معنى الآية مِن عُلوِّ الله - عزَّ وجلَّ - على كلِّ مخلوقاته وهيمنته، وتصرُّفه في كلِّ الموجودات، فيجيئه تقليد المعتقدات الموروثة في وجوب تَنْزيه الله عن الجهة، فيُحْرَم من تجلِّياتِ تأمُّل صفة العُلوِّ والاستواء، وهي من الصِّفات التي تكرَّرت في القرآن بِغَرض التَّنبيه على جلال الله وعظَمتِه، وحقيقة عُلوِّه على خلقه.ثالثها: أن يكون مُصرًّا على ذنب، أو متَّصفًا بكِبْر، أو مبتلًى - في الجملة - بِهوًى في الدُّنيا مطاعٍ؛ فإنَّ ذلك سببُ ظُلمة القلب وصَدئه، وهو كالخبَثِ على المرآة، وهو أعظم حجابٍ للقلب، وبه حُجِبَ الأكثرون، وكلَّما كانت الشهوات أشدَّ تراكمًا كانت معاني الكلام أشدَّ احتجابًا، وكلَّما خفَّ عن القلب أثقالُ الدنيا قَرُب تجلِّي المعنى فيه؛ فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصُّور التي تتراءى في المرآة، والرِّياضة للقلب بإماطة الشَّهوات مثل تصقيل الجلاء للمِرآة، وقد شرط الله - تعالى - الإنابة في الفَهْم والتَّذكير، فقال - تعالى -: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8]، وقال: ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ [غافر: 13]، وقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19]، فالَّذي آثر غرور الدُّنيا على نعيم الآخرة، فليس من ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرارُ الكتاب.