
كيف تعيش رمضان؟
مجمد حسين يعقوب
(17)
أيها الأحبة في الله ..
مشاهد العبودية في الصيام
إخوتاه ..
قيام رمضان
أخي .. وحبيبي:

فإذا استيقظ هذا القلب من منامه، صعد إلى الله بهمته وحبه وأشواقه، مشتاقًا إليه، طالبًا له، محتاجًا له، عاكفًا عليه، فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولابد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النَّفَس والطعام والشراب , فإذا نام غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه وإلى الشوق الشديد والحب المقلق، فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظة كما قال بعض المحبين لمحبوبه:
وآخِرُ شيءٍ أنتَ في كُلِّ هَجْعَةٍ ... وأولُّ شيءٍ أنتَ عِنْدَ هُبُوبي
فأُفٍّ لقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يُصَدِّق به، لقد صُرف عنه خيرُ الدنيا والآخرة.
فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه، واستعطافه والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يُخَلِّي بينه وبين نفسه وألا يكله إليها فيكله إلى ضعفٍ وعجز وذنبٍ وخطيئة، بل يكلأه كَلاءَةَ الوليد الذي لا يملك ضَرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نَشُورًا.
فأول ما يبدأ به: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" متدبرًا لمعناها؛ من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سَوِيًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات، التي هو عَرَضٌ وهدف لسهامِه كلِّها،

التي تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن. فمن الذي كلأه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] فإذا تصور العبد ذلك فقال: "الحمد لله" كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك.
ثم تفكر في أن الذي أعاده بعد هذه الإماتة قادرٌ على أن يعيده بعد موتته الكبرى، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلبٍ حاضرٍ مستصحبِ لما فيه، ثم يصلي ما كتب الله له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه، متذللٍ منكسر بين يديه، لا صلاة مُدِلّ بها

عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهَّلَهُ وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبةً إلى محبته، ويرى أن قُرَّةَ عينه، وحياةَ قلبه، وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله، ويهتمُّ بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك، فهو كما قيل:
يَوَدُّ أَنَّ ظلامَ الليلِ دامَ لَهُ ... وزِيْدَ فيهِ سَوادُ القلبِ والبصرِ
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًّا لكل آية حظها من العبودية.
1 - فتجذب قلبه وروحه إليه آياتُ المحبة والوِداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرَّف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم، وإحسانه إليهم.

2 - وتُطيِّبُ له السير آياتُ الرجاء والرحمة وسَعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه.
3 - وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه.
فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبالجملة: فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها.
ثم شأنٌ آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبلُ يلعبُ، كما قيل:

وكنتُ أرى أَنْ قَدْ تَناهى بيَ الهوى ... إلى غايةٍ ما بعدَهَا لي مذهبُ
فلما تلاقَيْنَا وعاينتُ حُسْنَها ... تيقنتُ أني إنما كنتُ ألعبُ
فوآأسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا وموته كمدًا، ومعاده حسرة وأسفًا.
فإذا صلى ما كتب الله له جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه، فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعد ليل، اضطجع على شقه الأيمن مُجِمًا لنفسه مُريحًا لها، مقوِّيًا لها على أداء وظيفة الفرض؛ فيستقبله نشيطًا بجِدِّهِ وهمته كأنه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا" (1). انتهى كلام طبيب القلوب وريحانة المتهجدين ابن القيم رحمه الله.

بكاؤهم .. وبحرُ الدُّمُوِع:
ولا يُذكر الليل إلا ويقارنه ذكرُ الدموع، والبكاءُ من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون، ومن أرق من المتهجدين أفئدة حين أتخذوا من الدمع رسولهم لربهم، فالدمعُ ألَحُّ شفعائهم، فقد كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" (2)، قيل لصفوان بن محرز عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن ذلك يورث العمى، فقال: ذلك شهادة لها فبكى حتى عمي.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما عاشرت رجلًا أرق قلبًا من سفيان الثوري، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل، ثم

ينتفض مرعوبا ينادي: النار .. النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثرِ وضوءه: اللَّهم إنك عالمٌ بحاجتي غير مُعَلَّم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي، إن الجزع قد أرقني، وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي، لو كان لي عذر في التخلي، ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يُقْبِل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنتُ لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه.
أما الحسن البصري شيخ البكائين الذي وصفوه بأنه إذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له، لما قيل له: ما يبكيك؟، قال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.
وفي رواية: وما يؤمنني أن يكون قد اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب فلا غفرت لك.
__________
(1) طريق الهجرتين (205 - 211).
(2) أخرجه أبو يعلى (7/ 307)، وصححهُ الألباني (4113) في "صحيح الجامع".
