الخطبة الأولى:
أما بعد: روى البخاري في صحيحه قال حدثنا عَبْدان، عن أبي حمزة عن الأَعْمش، عن سعيد بن جُبير، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله، يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)).
هذا حديث عظيم أيها الإخوة، يدل على صبر الله عز وجل، الصبر الذي لا يبلغه صبر. وأي صبر من أن يؤذي المخلوق الضعيف الحقير، يؤذي ربه وخالقه، ومع هذا الأذى يصبر الله عز وجل عليه، ولا ينتقم منه، بل يعافيه في بدنه، ويرزقه من الطيبات. هل تعلمون صبراً أعظم من هذا.
لو أن أحدكم لحقه ضرر أو أذى من أي شخص، تجده لابد أن ينتقم منه، ولو صار طيباً فإنه يتجاوز عنه، لكن أن يصل الأمر أن يحسن إليه، فهذا لا يحصل إلا من عظماء النفوس. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)).
لكن السؤال الآن: كيف يكون أذى الإنسان لربه؟ أو ما هي الصور والمجالات التي يؤذي فيها الإنسان، رب العزة. إن صور الإيذاء كثيرة، وكثيرة جداً، منها، ما ذكر في الحديث، وهو نسبة الولد إلى الله عز وجل.
ومن الإيذاء، ارتكاب المنهيات، والإصرار عليها، فكل معصية يفعلها العبد، تعتبر أذية لله عز وجل. وكل مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تعتبر أذية لله عز وجل. فتأملوا كل هذه المعاصي التي يفعلها العباد، وكلها أذية لله عز وجل، وفي المقابل صبر الله علينا. فاتقوا الله أيها المسلمون. أما تخشون من قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب: 57]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "أي الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم".
أيها المسلمون، مع ما نفعل من المعاصي، ومع مخالفتنا الكثيرة لأوامر الله عز وجل، فإنه سبحانه وتعالى يحسن إلينا بالصحة في أبداننا، والشفاء من أسقامنا، وكِلاءتنا بالليل والنهار مما يعرض لنا، ويرزقنا بتسخير ما في السماوات والأرض لنا. ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم. إنه ليس أمامنا -يا عباد الله- إلا التوبة. التوبة الناصحة الصادقة.
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 135، 136]. وقال تعالى: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه يحب التوابين.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فاتقوا الله عباد الله، توبوا إلى ربكم، توبة نصوحاً، فإن الله عز وجل قد أمهلنا كثيراً، وصبر علينا كثيراً، لا نمتثل بأمره، ولا ننتهي عن نهيه، وهو عز وجل مع ذلك، يرزقنا بالليل والنهار (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم: 8].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: والنصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها، بحيث لا يدع ذنباً إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة، في إخلاصها ووقوعها، لمحض الخوف من خشية الله. والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ حاله، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو لهربٍ من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك.
أيها المسلمون، شهر رمضان على الأبواب، لم يبقَ على قدوم الضيف إلا أيام قلائل، وإنها والله فرصة -يا عباد الله-، فرصة لا تعوض، من فاته شهر رمضان فقد فاته خيرٌ كثيرٌ.
جددوا توبتكم -يا عباد الله-، عسى أن يكتبنا المولى من عتقائه في هذا الشهر.
وأي فرصة، في شهر، تصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان، إذا لم نتب من ذنوبنا في رمضان، فمتى نتوب، إذا لم نتخلص من شوائبنا ومعاصينا، في شهر الرحمة، وفي شهر القرآن، فمتى يكون؟
دعوني على نفسي أنوح وأندب *** بدمـع غزيـر واكـفٍ يتصـبب
دعوني على نفسي أنوح فإنني *** أخاف على نفسـي الضعيفة تعطب
وإني حقيـق بالتضـرع والبكـا *** إذا مـا هـدا النَّوام والليـل غيهب
وجـالت دواعي الحزن من كل جانب *** وغارت نجوم الليل وانقضى كوكب
كفـى أن عينـي بالدمـوع بخيلـةٌ *** وإنـي بآفـات الذنـوب معـذّب
فمن لي إذا نادى المنادى بمن عصى *** إلى أين التجائـي إلى أيـن أهـرب
وقـد ظهرت تلـك الفضـائح كلها *** وقد قرب الميـزان والنـار تلهـب
فيا طول حزني ثم يا طـول حسـرتي *** لئـن كنت في قعـر الجحيم أعذب
فقـد فـاز بالملك العظيـم عصابـةٌ *** تبيت قياماً في دجـى الليل ترهـب
إذا أشـرف الجبار من فـوق عرشه *** وقد زينت حور الجنان الكواعـب
فنـاداهمُ أهـلاً وسـهلاً ومرحباً *** أبحـب لكم داري وما شئتم أطلبوا
اعلموا رحمكم الله، أن التوبة إذا صحت، بأن اجتمعت شروطها، وانتفت موانعها قبلت بلا شك، إذا وقعت قبل نزول الموت، ولو كانت عن أي ذنب، وكانت قبل طلوع الشمس من مغربها، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 158]. روى الإمام أحمد والترمذي، من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
قلت لكم أيها الأخوة، بأن التوبة تقبل، إذا صحت شروطها وانتفت موانعها، فلا يكفي في قبول التوبة أن يأتي الإنسان بشروطها، لكن لابد من انتفاء الموانع والعقبات. فمن المعوقات الضارة، التسويف بالتوبة. بعض عباد الله، يعلم بأنه مذنب، ويعلم بأنه على معصية، ولكنه يؤخر التوبة، فلا أعلم، من أين علم هذا المسكين أنه يبقى إلى أن يتوب، فتارك المبادرة بالتوبة بين خطرين عظيمين:
أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى تصير طبعاً له.
ثانيهما: أن يعاجله المرض، فلا يجد مهلة للاشتغال بمحو ما وقع من الظلمة في قلبه، فيأتي ربه بقلب غير سليم، أو يدرك الموت.
إن مثل من يؤجل التوبة، كمثل من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود أليها، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازدادت قوة لرسوخها، وكلما طال عمره ازداد ضعفه.
يقول العلامة، الإمام ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبده خيراً، فتح له أبواب التوبة والندم والذل والانكسار والافتقار، والاستعانة به، ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة سبب رحمته، حتى يقول عدو الله ـ إبليس ـ يا ليتني تركته ولم أوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف، إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالوا كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينه، خائفاً منه، مشفقاً وجلاً باكياً نادماً، مستحيياً من ربه، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب، أنفع له من طاعات كثيرة، بما ترتب عليه من هذه الأمور، التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخول الجنة، ويفعل الحسنة، فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه شيئاً، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العُجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.
نسأل الله عز وجل، أن يوفقنا إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة.
إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية:
أما بعد: عباد الله، هذه آخر جمعة لنا في هذا الشهر، وبعد أيام قلائل يهلُّ علينا رمضان، ضيفاً كريماً عزيزاً، شهر كله خير وبركات، شهر المنح والهبات، شهر محفوف بالرحمة، والمغفرة، والعتق من النار، شهر التائبين من معاصيهم، شهر العائدين إلى ربهم، هل يجد التائب فرصة أفضل من شهر تستغفر له الملائكة حتى يفطر. هل هناك فرصة أعظم أيها الإخوة، من شهر يغفر الله عز وجل فيه، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة فيه، إذا قاموا بما ينبغي أن يقوموا به من الصيام والقيام.
إن رمضان سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ففي الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
كان معنا في العام الماضي، أناس انتقلوا إلى ربهم، وهم اليوم من الموتى، لم يدركوا رمضان هذه السنة، فهل نستشعر هذه الحقيقة، هل نستشعر هذا الفضل من رب العالمين علينا، بأن جعلنا ندرك هذا الشهر، وأعطانا فرصة أخرى لكي نعود إليه، ونترك معاصينا وراءنا، ولا نعود إليها بعد رمضان، كما يفعل غالب الناس هداهم الله.
ياذا الذي ما كفـاه الذنب في رجب *** حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما *** فـلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسـبح فيـه مجتهداً *** فإنـه شهر تسـبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وجيـران وإخوان
أفنـاهم الموت واستبقاك بعدهمـو *** حياً فما أقرب القاصي من الداني
عباد الله، لازموا صلاة التراويح، ولا تفرطوا فيها فإن ثوابها عظيم، روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
والتراويح يا عباد الله، سنة مؤكدة، وفعل الصحابة لها مشهور، وتلقته الأمة بالقبول، خلفاً بعد سلف.
ليس هناك تلفظ بنية الصوم، كما يفعله بعض العامة، وذلك بقوله بعد سحور كل يوم. نويت أن أصوم هذا اليوم لله تعالى. فإن هذا بدعة، والنية محلها القلب.
ثم عليكم تلاوة القرآن: اقتداءً بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان يلقاه جبريل ويدارسه القرآن في شهر رمضان، وكان السلف الصالح، يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان، لما لهذا الشهر من خاصِيَّة بالقرآن، على غيره من الشهور. قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185].
ولتكن قراءتكم بتدبر وخشوع، وحضور قلب، وترتيل لآياته، ولا يكن همُ أحدكم الختمة فقط، كما يفعله بعض الناس هداهم الله، وهو أنهم يتباهون بعدد الختمات. اقرؤوه في المساجد والبيوت، وأكثروا من تلاوته وترديده، ألزِموا أولادَكم بتلاوته أيضا، وتفقدوهم في ذلك، ولا تتركوهم يهيمون في الشوارع طوال ليالي رمضان كما هو حال الأغلب والله المستعان.
اقتصدوا في شراء الأطعمة والأشربة في رمضان، لا داعي لما عليه الحال اليوم، من تنويع في المآكل والمشارب إلى حد الإسراف والتبذير، فإن هذا لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف قبلنا، بل هو من الأمور التي فرضناها نحن على أنفسنا لغير حاجة، -فاتقوا الله أيها المسلمون-، وليكن صوم رمضان، تذكيراً لكم بما يمر به غيركم من الحاجة والجوع، ونحن على العكس، نستهلك في رمضان من الأكل ما يعادل شهرين أو ثلاثة من غيره من الأشهر، وهذا لا يليق بعاقل أيها الإخوة.
النوم: وما أدراك ما النوم، هناك صنف من الناس، لا يعرف رمضان، إلا أنه شهر النوم، فتجده معظم نهاره نائماً، لا يقوم إلا لأداء المفروضات ثم يعود ويواصل المسيرة، والذي شر منه، من لا يقوم حتى للصلوات، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كيف فهم معنى الصيام، هذا الصنف من البشر، لا أدري، غالب الناس تجده في رمضان أقل نشاطاً من غيره، الغالب عليه الكسل والخمول، وإذا سألته، قال الناس صيام. سبحان الله. وكأن الله عز وجل، لم يفرض الصيام إلا ليقل النشاط والحركة والإنتاج، وهذا فهم لا شك في انحرافه.
ولا أريد أن أفصل في أن كبرى انتصارات ومعارك المسلمين كانت في رمضان.
التقاويم: الذي أقصده، ما رسخ في أذهان كثير من الناس، صحة التقاويم، وأن التقويم الموضوع قبل زمن، بأن رمضان يكون يوم كذا لابد أن يكون. وهذا غير صحيح. فالاعتماد على التقاويم في تحديد بداية أو نهاية رمضان، من الأمور غير المشروعة، والتي تعد من البدع، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)). أي رؤية الهلال. فإن وافقت التقاويم رؤية الهلال فبها، وإذا خالفت، فإن الذي أُمِرْنا به هو الاعتماد على الرؤية، وليس على التقويم. ومن جعل التقويم هو الأساس، فإنه قد أحدث في الدين ما ليس منه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما عند البخاري وغيره: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وصلوا وسلموا.