شهر رمضان وما فيه من خصائص وخيرات وأمور حسان
الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، إلى يوم الدين وبعد:
قال الله جل في عُلاه: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
رمضان مأخوذ من الرَّمَض والرَّمْضَاء، إذا اشتد الحرُّ في الصحراء، هكذا كان حاله في البيداء!!..
وصيامُ شهر رمضان، هو الركن الرابعُ من أركان الإسلام.
والصيامُ من أفضلِ العبادات؛ لأنه تجتمع فيه أنواعُ الصبر الثلاثة:
1- الصبرُ على طاعة الله.
2- والصبرُ عن معاصي الله.
3- والصبر على أقدار الله المؤلمة.
ولأنَّ اللهَ تعالى نسب الصوم إلى نفسه، ووعد بالجزاء عليه من قِبَلِه سبحانه.
ولأنه سرٌّ بين الربِّ وبين عبده، فهو من أعظم الأمانات.
أمَّا حِكَمُه وأسرارُه؛... فأكثر من أن تعد في هذه الكلمات.
إنما هي إشارة إلى قليلٍ من كثير، ليعلمَ الناسُ شيئاً من أسرارِ الله في شرعه، فيزدادوا إيماناً ويقيناً في وقتٍ تزعزعت فيه العقائد، وتضعضعَ فيه الإيمان، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
فمن تلك الحكم الساميةِ؛ أن الصيام فيه عبادةُ الله سبحانه، والخضوعُ له، ليكونَ الصائم خاضعاً خاشعاً بين يدي ربه، حينما ينكرُ سلطانَ الشهوة.
فليعلمْ أنه ضعيف فقير، بين يدي الله سبحانه، فينكرُ في نفسه الكِبْرَ والعظمةَ، فيستكين لربه، ويلينُ لخلقه.
ومنها، حِكَمٌ اجتماعيَّةٌ، من اجتماعهم على عبادةٍ واحدة، في وقتٍ واحد، وصبرِهم جميعاً، كبيرِهم وصغيرِهم، غنيِّهم وفقيرِهم، على معاناتِها وتحمُّلِها، مما يسبِّبُ ربْطَ القلوبِ وتآلفَ الأرواحِ، وَلَمَّ الشمل، وتوحيد الكلمة.
كما أنه سببُ عطفِ بعضِهم على بعض، ورحمةُ بعضهم بعضاً، حينما يُحِسُّ الغنيُّ أَلـمَ الجوع، ولَدْغَ الظَّمأ.
فيتذَكَّرُ أنَّ أخاه الفقيرَ يعاني هذه الآلامَ دَهْرَه كلَّه، فيجودُ عليه من مالهِ بشيء يزيل الضغائنَ والأحقاد، ويَحِلُّ محلَّها المحبةُ والوئام، وبهذا يتمُّ السِّلْمُ بين الطبقات.
ومنها، حكم أخلاقيَّةٌ تَربوِيَّة، فهو يعلِّمُ الصبرَ والتحمُّلَ، ويقوِّي العزيمةَ والإرادة، ويُمَرِّنُ على ملاقاةِ الشدائدِ وتذليلِها، والصعابِ وتهوينِها.
ومنها حِكَمٌ صِحَّيَّة، فإنَّ المعدةَ بيتُ الداء، والحِمْيةَ رأسُ الدواء.
ولابدَّ للمعدةِ أن تأخذَ فترةَ استراحةٍ واستجمام، بعد تعبِ توالي الطعامِ عليها، واشتغالِها بإصلاحِه.
هذه نَبذةٌ يسيرةٌ إلى شيء من حِكَمِ الله تعالى وأسراره...
واعلموا أن من فاتَه رمضان ولم يغفر له فقد فاته خير عميم لا يُدرَك، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: (صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ)، (فَلَمَّا رَقِيَ الدَّرَجَةَ الْأُولَى قَالَ: "آمِينَ"، ثُمَّ رَقِيَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: "آمِينَ"، ثُمَّ رَقِيَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: "آمِينَ")، فَقَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ! سَمِعْنَاكَ تَقُولُ: آمِينَ، ثَلَاث مَرَّاتٍ؟!) قَالَ: "لَمَّا رَقِيتُ الدَّرَجَةَ الْأُولَى، أَتَانِي جِبْرِيلُ -عليه السلام- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ"[1]
حقًّا! أبعد الله (مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ).
ورمضان نفحة من نَفَحَاتِ رحمةِ الله جل جلاله، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ"[2]
إن العمل الصالح في رمضان يتضاعف أجرُه، فالعمرةُ فيه تعدلُ حَجَّةً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟!" قَالَتْ: (يَا نَبِيَّ اللهِ! لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَتَرَكَ نَاضِحًا يَسْقِي أَرْضًا لَنَا)، قَالَ: "فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ، فَاعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي"[3]
وفيه أنزل الله الكتب على رسله عليهم الصلاة والسلام، فـ"أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاث عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ". [4] رمضان هو شهر تكفَّر فيه الذنوب، وتمحى فيه الخطايا؛ فـ"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ إِذَا اجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ"[5]
و"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[6]
و"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[7]
لذا اختُص شهر رمضان بصلاة التراويح جماعة في المساجد.
والآن ماذا يحدث في رمضان مما لا نراه ولا نسمعه ولا نعلمه إلا عن طريق الوحي؟
استمعوا إلى ما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عز وجل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ! وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ! وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ"[8]
وهذه من خصائص وفضائل شهر رمضان:
1- فـ(إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بِتَصْفِيدِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ...).أهـ[9]
2- وما أن يبدأَ رمضان إلا "وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ"، طيلة شهر رمضان، بينما في غير رمضان تفتح في ساعات معينة وتغلق في غيرها، فتفتح في وقت الزوال من الظهيرة وهي ساعة تمنع فيها الصلاة، فعن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ في حديثه عن أوقات الصلوات عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «... ثُمَّ الصَّلَاةُ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ، حَتَّى تَعْتَدِلَ الشَّمْسُ اعْتِدَالَ الرُّمْحِ بِنِصْفِ النَّهَارِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَتُسْجَرُ، فَدَعِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفِيءَ الْفَيْءُ،...»[10]
3- وكذلك الجنة تختلف عن بقية الشهور؛ فأبوابها مغلقة، فإذا دخل رمضان "فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ"، وذلك من أول ليلة، ففي غير رمضان ساعاتٌ تفتح فيها أبواب الجنة، ومنها ساعةُ ما بعد الزوال، وقتَ صلاة الظهر، فإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ زَاغَتْ، فَقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَوَاتِ وَأَبْوَابَ الْجَنَّةِ تُفْتَحْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَمَا يُرْتِجْنَ" -أي يغلقن-[11]
و"تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[12]
ألا واعلموا أن أبوابَ الجنة ثمانيةٌ؛ فالموحِّدون توحيدا خالصا يدخلون من أيِّها شاؤوا، عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ -مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيّهَا شَاءَ- عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ»[13]
وفي رواية: «مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَسَمِعَ وَعَصَى، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ أَمْرِهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَحِمَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»[14]
وكذلك من أحسنوا الوضوء وأتموه وأكملوه؛ فـ"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ" -أَوْ "فَيُسْبِغُ- الْوَضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ". [15]، زاد الترمذي: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الـمُتَطَهِّرِينَ". [16]، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"[17]
ولا ننسى من أصيبوا في أطفالهم، وأفلاذ أكبادهم، وفقدوا صغارَهم، فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ»[18]
وكذلك المنفقون من أموالهم بسخاء وإخلاص، ودون خوف من فقر أو إملاق، فـ"مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟!) قَالَ: «نَعَمْ! وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»[19]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ يُجْزَ غَدًا، وَمَلَكٌ بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"[20]
وبرُّ الوالدين يفتح لك أبواب الجنة، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: (إِنَّ لِيَ امْرَأَةً، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا)، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ"[21]
وأبواب الجنة تفتح لمن لم تتلطخ أيديهم بدماء المسلمين، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، لَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ".
وفي رواية: "دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ"[22]
فـ"الجَنَّةُ لَها ثَمانِيَةُ أبْوابٍ، والنَّارُ لَها سَبْعَةُ أبْوابٍ"[23]
[إنما كانت أبوابُ الجنة ثمانيةً؛ لأن مفتاحَ الجنة: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وكذلك المفتاح -له- ثمانيةُ أسنان: الصلاة والصيام، والزكاةُ والحجُّ، والجهادُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والبرُّ والصلةُ، فلكون أنواعِ الأعمالِ ثمانيةً جُعلت أبوابها ثمانية.
وإنما كانت أبوابُ النار سبعةً؛ لأن الأديانَ سبعةٌ: واحدٌ للرحمن، وستةٌ للشيطان، فالتي للشيطان: اليهوديةُ والنصرانية، والمجوسيةُ والوثنية، والدهريةُ والإبراهيمية، والصنف السابع -عُصاةُ- أهلِ التوحيد؛ كالخوارج والمبتدعة، والظلمة والمصرِّين على الكبائر، فهؤلاء كلُّهم صنفٍ، فوافق عدَّةَ الأبوابِ عدةَ الأصناف. ذكره السهيلي][24]
[... وطبقات -النار-... هي جهنم ثم لظى، ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية]. من حاشية فيض القدير، عافانا الله وإياكم وسائر المسلمين من النار الحامية، ومن كل ما يؤدي إلى الهاوية.
3-وفي أول ليلة من رمضان مما لا نسمعه ولا نعلمه إلا عن طريق الوحي؛ أنه "يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ"، وهو مَلَكٌ كما ثبت عند أحمد: "وَيُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَبْشِرْ، يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ"[25]
وفي رواية: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ...".
وفي رواية: "يَا طَالِبَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ أَمْسِكْ". [26]، وهذا في كلِّ ليلة من ليالي رمضان.
وفي غير رمضان هناك ملكان ينادان صباحان ومساءً، فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ، إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَا خَلَقَ اللهُ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى، خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى.
وَلَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا فِي قَوْلِ الْمَلَكَيْنِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25].
وَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 1- 10] [27]
4- (وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ)، فإن اللهَ سبحانه اختصَّ رمضانَ بعتقِ رقابِ كثير من المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ"[28]
وفي رواية: "... لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ"[29]
بينما هناك أعمالٌ يقوم بها المسلم تكون سببا للعتق من النار، في رمضان وفي غير رمضان أيضا، منها يوم عرفة، فـ"مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"[30]
وكذلك إنفاقُك على أطفالِك سببٌ للعتقِ من النيران، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: (جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا)، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ»[31]
ومن داوم على الصلوات في جماعة أُعتق من النار، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عِتْقًا مِنْ النَّارِ"[32]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ"[33]
وهناك ذِكْرٌ لله من كرَّره ثلاث مرات أُعتق من النار، عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ، وَأُشْهِدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، مَنْ قَالَهَا مَرَّةً؛ أَعْتَقَ اللَّهُ ثُلُثَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ؛ أَعْتَقَ اللَّهُ ثُلُثَيْهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا؛ أَعْتَقَ اللَّهُ كُلَّهُ مِنَ النَّارِ»[34]
والذبُّ عن عِرض المسلم بظهر الغيب سببٌ للعتق من النار، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغَيْبَةِ؛ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ". [35]، أي: دافع عن أخيه الغائب عن ذلك المجلس، ومَنَعَ المتكلِّمَ من اغتيابه.
5- (وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ").
قوله: (إلا كل محروم) أي كل من لاحظ له من السعادة، والمراد من قوله: (من حرمها) من حرم لطف الله وتوفيقه، ومنع عن الطاعة فيها، والقيام بها[36]
ففيها ينزل جبريل مع الملائكة بالخيرات، والبركات والرحمات إلى أهل الأرض، وهي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهي في العشر الأواخر، في الوتر منها.
يتبع