وعلاج النَّوع الأول:
باستحضار اليقين، وكلامُنا مع مَن اعتقد وجودَ الله؛ أمَّا المُلْحد فلا خطابَ معه، وعندي: أنَّ الإلحاد هو النَّوع الوحيد من الجُنون الذي يُؤاخَذ الإنسان به، فمَن أيقن وجود الله وربوبيَّته، وهيمنتَه وتصرُّفَه، وعدْلَه وحِكْمَته - مثَّل هذا اليقين بالشمسِ يراها، ثم يستعرض الشُّبهات ويمثِّلها بمن يُماريه في رؤيته للشمس، ويُجادله في الدليل المفيد لطلوعها، حينئذٍ يردِّد قولَه - عزَّ وجلَّ -:
ï´؟ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ï´¾
[إبراهيم: 10]
ويردِّد قوله: آمنتُ بالله، ويستعيذ بالله من نزغ الشيطان، معتَصِمًا بالله، لائذًا بحفظه وكَلاءته، متعجِّبًا من تفاهة شُبهتِه:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ 
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ 
وأما النوع الثانِي:
فهو الأعمُّ الأفشى بين الناس، وعلاجه من أصعب العلاجات، لكنَّنا نأتي على ذِكْر جملةٍ من الفوائد المهمَّة، المُجتثَّة لهذا المرض من جذوره.
فاعلم - أيُّها الأريب - أنَّ الشهوات في أصلها فطريَّة قدَرِيَّة، لا فكاك للعبد منها، فهو مَفْطور على الغضب واللَّذة، وحُبِّ الطعام والشَّراب، غير أنَّ هذه الشهوات رُكزت في الجبِلَّة لغاياتٍ، هي: حفظ النَّفس بالطعام، وردُّ الاعتداء وصيانة الذَّات بالغضب، وحفظ النَّسل باللذَّة - أعني شهوة الفَرْج - فإذا تعدَّت هذه الشَّهوات غاياتها، كانت وبالاً على أصحابها؛ ولذلك جاء عن النبيِّ - عليه السَّلام - التنبيهُ على حِفْظ الفَرْج والبطن واللِّسان، وأنَّه مِن أعظم أسباب النجاة والفوز.
فإذا علمتَ ذلك، تبيَّن سلطانُك على هذه الشَّهوات، وأنَّ الله - تعالى - قد أَمَّرَك في الحقيقة عليها، وأعطاك زمام قيادتها، فما عليك إلا ممارسةُ هذه الإمارة دون خوفٍ أو تباطؤ.
وحسم مادة الشهوات يكون بِحَسم موارد حياتِها، وأهمُّ تلك الموارد حبُّ الدنيا، والرغبة في نوال كلِّ ما يراه من جميلٍ فيها، فقَطْعُ شجرة الدنيا من القلب كفيلٌ بِصَرف الهمة مطلقًا عن الدنيا، والاهتمام بما تحصل به النَّجاة.
وهاك بعضَ الفوائد المُعِينة على حسم مادة الشهوات، وصَرْفِ واردات الخواطر الشيطانيَّة:
أوَّلاً:
التبَرُّؤ من حول النفس وقوَّتِها، والالْتِجاء والاعتصام والاستعاذة بالله تعالى، ومن جليل ما ينبغي ترداده في حقِّ المبتلى بالشهوة: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله"، ومعناها: لا تحوُّل عن معصيةٍ إلاَّ بمعونة الله - عزَّ وجلَّ - ولا قوَّة على طاعةٍ إلاَّ بتوفيقٍ من الله - تبارك وتعالى.
ثانيًا:
تذكُّر المنغِّصات: سكرات الموت، ونزع الرُّوح، والقبر وأهواله، وسؤال الملَكَين، والبعث والنُّشور، وأهوال يوم القيامة، والمُثول بين يدي الله عاصيًا مذنِبًا، والنار وأهوالها.
ثالثًا:
تذكُّر المشوقات: كلذَّة المناجاة، وتوفيق الله للطاعة، وشرف الولاية، والانتساب إلى حِزْب الله، والكرامات اللاَّئقة لأوليائه عند موتهم، ودخولهم الجنَّة وما فيها من الحور العين، اللائي لا تُقارَن الدُّنيا كلها بأنملة من أنامل الواحدة منهنَّ، ورؤية الله يوم القيامة، ورضوانه على أهل الجنة.
رابعًا:
تذكُّر جمال خالق الجمال البشريِّ، الذي سماه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - جميلاً، فكلُّ جمال فُتِن به المرء لو تذكَّر معه جمال الله - تعالى - لتلاشَتْ كلُّ خواطره الرَّديئة.
خامسًا:
تذكُّر مثالب الصور المعشوقة وآفاتها وأمراضها، وفساد بواطنها وظواهرها.
سادسًا:
البُعْد عن المُثِيرات؛ كالسَّيْر في الطُّرقات العامة - وخاصَّة في هذه الأزمنة - وفي أماكن الفجور والفسوق، أو مشاهدة التليفزيون والفيديو، والمجلاَّت والجرائد السَّاقطة، التي تهدف غواية النُّفوس المطمئنَّة، وتحبُّ أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، ومن هذا القبيل عدَمُ المكوث في خلوة إذا طرأ عارض الشَّهوة، بل يشتَغِل بالصَّوارف التي تلهيه عن تلك الخواطر؛ كذِكْر الله، وزيارة الصَّالحين، وحضور مجالس العلم، أو خدمة الأهل والمسلمين.
ويَنصح ابنُ القيِّم بما يلي:
• العلم الجازم باطِّلاع الرَّب - سبحانه - ونظره إلى قلبك، وعِلمه بتفصيل خواطرك.
• حياؤك منه.
• إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في البيت الذي خلَقه لتُسْكِنَه معرفته ومحبَّته.
• خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
• إيثارك له أن تُساكن قلبك غير محبته.
• خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرَرُها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبَّة الله، فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
• أن تعلم أن هذه الخواطر بِمَنْزِلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليُصاد به، فاعلم أن كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخٍّ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
• أن تَعْلم أنَّ الخواطر الرَّديئة لا تجتمع مع خواطر الإيمان ودواعي المحبَّة أصلاً، بل هي ضِدُّها من كلِّ وجه.
• أن تعلم أنَّ الخواطر بحرٌ من بحور الخيال، لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص، فلا يجد إليه سبيلاً، فيكون بعيدًا عن الفلاَح.
• أن تعلم أنَّ الخواطر وادي الحَمْقى، وأماني الجاهلين، فلا تُثْمر إلاَّ الندامةَ والخِزْي، وإذا غلبَتْ على القلب أورثَتْه الوساوس وعزلَتْه عن سلطانها، وانسدَّت عليه عينُه، وألقَتْه في الأَسْر الطويل.
أما النوع الثَّالث
وهو آفات القلب؛ كالحِقْد والحسَد، والكبرياء والعُجْب - فهو باطن الإثم، قال - تعالى -:
ï´؟ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ï´¾
[الأنعام: 120]
وجِمَاع دواء هذه الآفات رؤية عَجْز النَّفس، وقيامها بالله، ومشاهدة حِكْمة الله - تعالى - وتصرُّفِه في الخلق، فمِثْل هذا الاستحضار يَحُول بينه وبين الاعتراض على تقسيم الرِّزق والنِّعَم، ويحول بينه وبين رؤية النَّفس وقدرتها، ويؤول به الحال إلى التسليم بِمنَّة الله وعدله وحكمته.
وقد تكلَّم الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - كلامًا نفيسًا عن هذه الآفات في كتابه: "الطب الرُّوحاني"، فراجِعْه هناك؛ تجِدْ علاجاتٍ تفصيليةً لكلِّ آفة ومرض، وحَسْبُنا من الألْف شاهد مثالٌ واحد.
لكن ابن القيِّم - رحمه الله - يَلْمس مَكمن الداء، ويَصِفه وصفًا دقيقًا، ثم يقترح العلاج المناسب، فيقول: "واعلم أنَّ الخطرات والوساوس تؤدِّي متعلّقاتها إلى الفكر، فيأخذ الفِكْرُ فيؤدِّيها إلى التذكُّر، فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة إلى الجوارح والعمل، فتستحكم، فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوَّتِها وتمامِها، ومعلومٌ أنه لم يُعطَ الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوَّة على قطعها وهي تَهْجم عليه هجوم النفس، إلاَّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومُساكنته له، على رفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إنَّ أحدنا يجد في نفسه ما لأَنْ يحترق حتى يصير حممةً أحبُّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: ((أوَقدْ وجدتُموه؟)) قالوا: نعَم، قال: ((ذاك صريح الإيمان))
وفي لفظ: ((الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)).
وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ ردَّه وكراهته صريحُ الإيمان.
والثاني:
أنَّ وجوده وإلقاء الشيطان له في نفسه صريح الإيمان؛ فإنه إنَّما ألقاه في النَّفس؛ طلبًا لِمُعارضة الإيمان، وإزالته به، وقد خلق الله - سبحانه - النَّفس شبيهة بالرَّحى الدَّائرة التي لا تَسْكن، ولا بُدَّ لها من شيءٍ تَطْحنه، فإن وُضع فيها حيٌّ طحنَتْه، وإن وضع فيها تراب أو حصًى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنْزِلة الحَبِّ الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرحى معطَّلة قطُّ، بل لا بدَّ لها من شيءٍ يوضع فيها، فمن الناس من يَطْحن رَحاه حَبًّا يخرج دقيقًا، ينفع به نفسَه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصًى وتِبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحنه".
فهذه نماذج من قُطَّاع طريقك إلى الله، وسفَرِك في درب الآخرة، وسعيك في عتق رقبتك من النار، وبَذْل ثَمن الجنة، فاحذر مثل تلك الصَّوارف وأعِدَّ لها عُدَّتها، والله الموفِّق.