وحجتهم:
أن الأحاديث التي فيها إذن باتخاذ لعب البنات جاءت مطلقة، ولم تتعرض للقيد صراحة، وأضيف على ذلك بأنه لو طمس الوجه لم يختلف أحد في إباحتها، واختلاف العلماء المتقدمون في لعب البنات إنما هو في صورة لها وجه، ولها يدان، ورجلان، ولذلك قال الإمام أحمد في عصره: قال أبو عبد الله: "فقد يصيرون لها صدراً، و عيناً، وأنفاً وأسناناً..." [29].
مما يدل أن كلام المتقدمين ليس في صورة لها وجه مطموس، أو صورة من عودين معترضين يشكلان على هيئة مخلوق صغير، ثم يلبس بالقماش، فإن هذا ليس منهياً عنه مطلقاً في حق الجميع من كبار وصغار، فعندما يقول العلماء المتقدمون: إن لعب الأطفال مخصوصة من النهي فذلك يعني صورة منهياً عنها، ولا تكون صورة منهي عنها إلا ولها عينان، وأنف، وأسنان، كما أن لها يدين ورجلين، وإلا فما معنى قولهم: إن لعب الأطفال مخصوصة من النهي، إذا كانت ليست على شكل صورة، وإنما هي صورة قد طمس وجهها.
قال القاضي عياض رحمه الله، وهو يتكلم على حديث: "كنت ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم-" قال: " فيه جواز اللعب بهن، وتخصيصهم من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما في ذلك من تدريب النساء في صغرهن على النظر لأنفسهن وبيوتهن، وأبنائهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن.... وعلى الجواز بلعب الجواري بهن جمهور العلماء.." [30].
فقوله: وتخصيصه من الصور المنهي عنها دليل على أنه يتكلم عن صورة منهي عنها، لا عن صورة مأذون فيها، فالصورة التي يتكلمون عليها، وهي الصورة المطموسة الوجه لا أحد يجادل أنه ليس منهياً عنها أصلاً، ولذلك ذكر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله للخروج من الشبهة بأن يطمس وجهها - يعني الصورة البلاستيكية- وإذا طمس وجهها أبيحت على كل حال، ولم تكن مخصوصة من النهي، وسوف أسوق كلامه بتمامه إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ ابن حجر: "واستدل بهذا الحديث - يعني: حديث لعب عائشة - على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور" [31].
فتأمل كلام الحافظ ابن حجر، وقوله: "وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور".
وقال الخطابي: "أرخص لعائشة - رضي الله عنها - ؛ لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ"[32].
فقوله: (أرخص لعائشة) دليل على أنه في حق صورة محرمة، لا في حق وسادة كبيرة خيط في أعلاها وسادة صغيرة، ولا في أعواد ربط بعضها ببعض.
وقال المناوي في فيض القدير: "ويستثنى من تحريم التصوير لعب البنات، فيجوز عند المالكية، والشافعية، لورود الترخيص فيه، وشذ بعضهم فمنعها، ورأى أن حلها منسوخ"[33].
وذهب آخرون إلى التوقف عن القول بالتحريم، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
قال في كتابه الشرح الممتع:
"قسم من البلاستك، وتكون على صورة الإنسان الطبيعي إلا أنها صغيرة، يكون لها حركة، وقد يكون له صوت، فقد يقول قائل: إنها حرام؛ لأنها دقيقة التصوير، وعلى صورة الإنسان تماماً، أي ليست صورة إجمالية، ولكن صورة تفصيلية، ولها أعين تتحرك، وقد نقول: إنها مباحة؛ لأن عائشة كانت تلعب بالبنات، ولم ينكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا استدللنا بحديث عائشة، فقد يقول قائل: بأن الصور التي عند عائشة ليست بهذه الصور الموجودة الآن، بينهما فرق عظيم، فمن نظر إلى عموم الرخصة، وأنه قد يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في باب السبق لما ذكر بعض آلات اللهو، قال: إنه يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار؛ لأن طبيعة الصغار اللهو، ولهذا تجد هذه الصور عند البنات الصغار كالبنات حقيقة، كأنها ولدتها، وربما تكون وسيلة لها لتربي أولادها في المستقبل، وتجدها تسميها أيضاً، هذه فلانة، وهذه فلانة، فقد يقول قائل: إنه يرخص لها فيها، فأنا أتوقف في تحريمها في الواقع، لكن يمكن التخلص من الشبهة بأن يطمس وجهها بالنار." اهـ كلام شيخنا رحمه الله.
والملاحظ أن شيخنا لم يتوقف في إباحتها، بل توقف عن القول بالتحريم، وبينهما فرق، وهذا من فقهه رحمه الله تعالى.
ولذلك حين وجه للشيخ سؤالان عن هذه اللعب في اللقاء المفتوح معه، لم يشدد فيها. وإليك نص جوابه رحمه الله:
السؤال الأول: ما حكم اقتناء لعب الأطفال التي على شكل تمثال، من حصان، أو حمار، أو طير، أو غير ذلك؟
الجواب: الألعاب التي يلعب بها الصبيان نتسامح فيها قليلاً ؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - كان عندها لعب بنات تلعب بها، ويسامح للصغار ما لم يسامح للكبار، لكن الأفضل في هذه الحالة أن يشتري لهم لعبة من هذه اللعب التي بدأت تصدر حديثاً، وهي ألعاب من القطن، أو من الإسفنج، على شكل آدمي أو على شكل حصان، أو على شكل بعير، إلا أنها ليست بينة، أي: ما فيها أنف بارزة، ولا شفتان، ولا شيء من الأشياء البارزة، يتلهى بها الصبي، وهو أحسن وأحوط. اهـ جوابه رحمه الله.
وأما السؤال الثاني في اللقاء المفتوح، فجاء فيه: بالنسبة للعبة الأطفال التي تسمى العروسة، سمعنا أنك أفتيت فيها بالجواز؟
فكان جوابه رحمه الله: أي نعم، لعب الأطفال، أنا لا أشدد فيها.
أولاً: لأن حديث عائشة (أنها كانت تلعب بالبنات) صحيح ثابت في البخاري وغيره، في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لا نعلم أن الصناعة وصلت إلى هذا الحد المعروف الآن. فنقول: ما دام المعنى الذي من أجله أبيح للبنات اللعب، هو موجود الآن حتى في هذه الصور، ولذلك تجد الصبية إذا صار لها بنت من هذه الصور تعتني بها اعتناءً كاملاً، تلبسه الثياب، وتغسله، وتضعه أمام المكيف، وتقول له: يا حلالي، ويا حبيبتي، وما أشبه ذلك، فالحكمة من ذلك اعتياد البنت على تربية أبنائها، فما دامت هذه العلة، فهي موجودة، لكن مع ذلك لا نحبذ هذا الشيء، ونقول: من الممكن تأتي بالصورة هذه، وتقلع وجهها بالسكين، وتجعلها شيئاً آخر، وتكون كأنها بنت متغللة عليها غلال واحد. اهـ جوابه.
[1] الدر المختار (5/226)، حاشية ابن عابدين (1/650)، عمدة القارئ (12/40)، و (11/70).
[2] مواهب الجليل (4/267)، تفسير القرطبي (14/275)، إكمال المعلم (7/447)، شرح الزرقاني للموطأ (4/469)، الفواكه الدواني (2/315).
[3] شرح النووي على صحيح مسلم (11/82)، مغني المحتاج (4/247-248)، إعانة الطالبين (3/363)، أسنى المطالب (3/226).
[4] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/180-183).
[5] المحلى (مسألة: 1910).
[6] نسب القاضي عياض القول بالجواز إلى الجمهور، قال في إكمال المعلم (7/447)وهو يتكلم على حديث (كنت ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فيه جواز اللعب بهن، وتخصيصهم من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما في ذلك من تدريب النساء في صغرهن على النظر لأنفسهن، وبيوتهن، وأبنائهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن.... وعلى الجواز بلعب الجواري بهن جمهور العلماء..» وانظر فتح الباري (10/527)، وشرح النووي على صحيح مسلم (14/82)، والموسوعة الكويتية (12/121).
[7] السنن الكبرى للنسائي (5/305)، قال الحافظ في الفتح (10/527): «فلم يقيد بالصغر، وفيه نظر ».
[8] قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/415): «روى الإمام أحمد , والبخاري , ومسلم: أن عائشة - رضي الله عنها - وجواري كن معها يلعبن بالبنات، وهو اللعب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراهن. فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار ». فقوله: يرخص فيه:لا أعتقد أنه يعني من اللهو واللعب، لأن ذلك ليس بحرام على الكبار، فيتجه أن الترخيص للصور، وإذا كان ذلك على سبيل الرخصة كان ذلك في صور محرمة في حق الكبار، والله أعلم.
[9] الدر المختار (5/226)، حاشية ابن عابدين (1/650)، مرقاة المفاتيح (6/407).
[10] جاء في البيان والتحصيل (18/573): «وسئل أصبغ عن اللعب المصورة يلعب بها النساء والجواري، أيحل لهن ذلك؟
قال: ما أرى به بأساً ما لم تكن تماثيل مصورة مخروطة، فلا يجوز؛ لأن هذا يبقى، ولو كانت فخاراً أو عيداناً تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله... » وعلق عليه ابن رشد بكلام يحسن بك أن تراجعه تركته لطوله.
[11] جاء في معالم القربة في طلب الحسبة (ص: 56): «وكذلك بيع الصور المصنوعة من الطين كالحيوانات التي تباع في الأعياد للعب الصبيان فإن كسرها واجب شرعاً». وانظر سنن البيهقي (10/219).
[12] كشف المشكل لابن الجوزي (4/321).
[13] جاء في كتاب الورع رواية المروزي (ص: 154): «قيل لأبي عبد الله: ترى للرجل الوصي تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة؟ فقال: إن كانت صورة فلا، وذكر شيئاً. قلت: الصورة أليس إذا كانت لها يد أو رجل؟ فقال: عكرمة يقول: كل شيء له رأس فهو صورة. قال أبو عبد الله: فقد يصيرون لها صدراً، و عيناً، وأنفاً وأسناناً، قلت: فأحب إليك أن يجتنب شراؤها؟ قال: نعم. قلت: أفليس عائشة تقول: كنت ألعب بالبنات؟ قال: نعم، هذا محمد بن إبراهيم يرفعه، وأما هشام فلا أراه يذكر فيه كلاماً، في حديث محمد بن إبراهيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرحهن إلي ».
وجاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (3/509-510): «وظاهر كلام الإمام أحمد المنع منها وإنكارها إذا كانت على صورة ذوات الأرواح. قال في رواية المروذي وقد سئل عن الوصي يشتري للصبية لعبة إذا طلبت؟ فقال: إن كانت صورة فلا. وقال في رواية بكر بن محمد، وقد سئل عن حديث عائشة: كنت ألعب بالبنات , قال لا بأس بلعب اللعب، إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا, وظاهر هذا أنه منع من اللعب بها إذا كانت صورة. وقد روى أحمد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة، وهي تلعب بالبنات، ومعها جوار فقال ما هذه يا عائشة؟ فقالت هذا خيل سليمان فجعل يضحك من قولها - صلى الله عليه وسلم -.
قال أحمد: وهو غريب لم أسمعه من غيرهم عن يحيى بن سعيد انتهى كلام القاضي، وفي الصحيح أنها كانت في متاع عائشة - رضي الله عنها - لما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن العلماء من جعله مخصوصاً من عموم الصور, ومنهم من جعله في أول الأمر قبل النهي عن الصور ثم نسخ ».
[14] فيض القدير (1/518).
[15] إكمال المعلم (7/448).
[16] صحيح البخاري (6130)، ومسلم (2440).
[17] صحيح البخاري (5236)، ومسلم (892).
[18] مسند الحميدي (260).
[19] السنن الكبرى (8948).
[20] سنن أبي داود (4932).
[21] ورواه النسائي في الكبرى (8950) والبيهقي في السنن (10/219) من طريق محمد ابن إبراهيم به. وصححه الغزالي في إحياء علوم الدين (2/278).
وقد نقلت فيما تقدم من كتاب الورع رواية المروزي (ص: 154): «قيل لأبي عبدالله:... أفليس عائشة تقول: كنت ألعب بالبنات؟ قال: نعم، هذا محمد بن إبراهيم يرفعه، وأما هشام فلا أراه يذكر فيه كلاماً. في حديث محمد بن إبراهيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرحهن إلي ».
وجاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (3/509-510): «قال - يعني أحمد - في رواية بكر ابن محمد، وقد سئل عن حديث عائشة: كنت ألعب بالبنات , قال لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا, وظاهر هذا أنه منع من اللعب بها إذا كانت صورة. وقد روى أحمد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وهي تلعب بالبنات ومعها جوار فقال ما هذه يا عائشة؟ فقالت هذا خيل سليمان فجعل يضحك من قولها - صلى الله عليه وسلم -.
قال أحمد: وهو غريب لم أسمعه من غيرهم عن يحيى بن سعيد انتهى كلام القاضي».
وقد رواه ابن حبان في صحيحه (5864) من طريق أبي النضر، عن عروة، عن عائشة بنحوه، وليس فيه ذكر ( بنات لعائشة ) وإنما فيه وأنا ألعب باللعب، فقال: ما هذا يا عائشة، فقالت: لعب. ولم تقل: بناتي. فإن كان استنكار الإمام أحمد أن يكون فيه ذكر للصور، وإنما فيه ذكر للعب، ولا يلزم من اللعب أن يكون فيها صورة، فإن الحديث من طريق هشام صريح بذكر بنات عائشة، كما أن الفرس الذي له أجنحة هو صورة أيضاً. وإلا فإن كلام الإمام أحمد يحتاج مني إلى تأمل أكثر لفهمه، ومعرفة المراد منه، فإن كلام الأئمة في العلل يحتاج قبل الاعتراض عليه إلى فهمه فهماً صحيحاً وإلا فقد يقع الباحث إذا تسرع في سوء فهمه، وإذا لم يفهمه الإنسان فلا مانع أن يطلب فهمه من إخوانه من أهل الطلب، والله المستعان، وأنصح إخواني وأبنائي الطلاب ألا يتجرأ أحد على الاستدراك على كلام الأئمة في العلل خاصة، وحصرياً من تقدم منهم، فإنك لا تجد أحداً أكثر من الاستدراك عليهم إلا رأيته قد أتي من سوء فهمه، وكما قال الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحاً 
وآفته من الفهم السقيم. 
[22] البخاري (1960)، ورواه مسلم (1136).
[23] البخاري (5951)، ومسلم (2108).
[24] البخاري (2225)، ورواه مسلم بنحوه (2110).
[25] فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/180-183).
[26] إعلان النكير (ص: 97).
[27] فقه السنة (3/500).
[28] الحلال والحرام (ص: 103-104).
[29] الورع (ص: 154) وقد نقلنا النص بتمامه.
[30] إكمال المعلم (7/447).
[31] الفتح (10/527).
[32] عمدة القارئ (22/170).
[33] فيض القدير (1/518).