إمام أهل السنة: أحمد بن حنبل
الشيخ صلاح نجيب الدق
زهد وورع الإمام أحمد:
(1) قال صالح بن أحمد: دخلتُ على أبي في أيام الخليفة الواثق، والله يعلم في أي حالة نحن، وخرج لصلاة العصر، وكان له جِلد يجلس عليه قد أتت عليه سنون كثيرة حتى قد بلي، فإذا تحته كتاب فيه: بلغني يا أبا عبدالله ما أنت فيه وعن الضيق وما عليك من الدَّين، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدَيْ فلان؛ لتقضي بها دَينك، وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، إنما هو شيءٌ ورثته من أبي، فقرأت الكتاب ووضعته، فلما دخل قلت له: يا أبت، ما هذا الكتاب؟! فاحمرَّ وجهه، وقال: رفعتُه منك، ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك إليَّ ونحن في عافية، فأما الدَّين فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا فهم بنعمة الله والحمد لله، فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فقال: ويحك! لو أن أبا عبدالله قبل هذا الشيء ورمى مثلًا في دجلة، كان مأجورًا؛ لأن هذا الرجل لا يُعرف له معروف، فلما كان بعد حين، ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه الجواب بمثل ما رد، فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 344: 343).
(2) قال محمد بن موسى بن حماد الزيدي: حمل إلى الحسن بن عبدالعزيز الحروي من ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس، في كل كيس ألف دينار، فقال: يا أبا عبدالله، هذه ميراث حلال، فخُذْها فاستعن بها على عائلتك، فقال: لا حاجة لي فيها، أنا في كفاية، فردها ولم يقبل منها شيئًا؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 344).
(3) قال المروذي: كان أبو عبدالله إذا ذكر الموت، خنقته العَبْرة.
وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت، هان عليَّ كلُّ أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئًا، ولو وجدت السبيل، لخرجتُ حتى لا يكون لي ذِكر.
وقال: أريد أن أكون في شِعب بمكة حتى لا أعرف، قد بُليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحًا ومساءً؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 216: 215).
قال المروذي: قلت لأحمد: كيف أصبحتَ؟ قال: كيف أصبح مَن ربُّه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنَّة، والملَكان يطلبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملَك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟! (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ: 227).
وقال المروذي: قال لي أحمد: ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة دينارًا، فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ: 214).
(4) قال إسحاق بن راهويه: لما خرج أحمد إلى عبدالرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة، فلم يأخذ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ: 214).
(5) قال أبو داود السجستاني: كانت مجالسُ أحمدَ بن حنبل مجالسَ الآخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيتُ أحمدَ بن حنبل ذكر الدنيا قط؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 340).
(6) كان الإمام أحمدُ لا يصلِّي خلف عمه إسحاق بن حنبل ولا خلف بَنِيه، ولا يكلِّمهم أيضًا؛ لأنهم أخذوا جائزة السلطان؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 342).
(7) مكث مرةً ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله، حتى بعث إلى بعض أصحابه، فاستقرض منه دقيقًا، فعرَف أهله حاجته إلى الطعام، فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعًا، فقال: ما هذه العجلة؟! كيف خبزتم سريعًا؟! فقالوا: وجدنا تنُّورَ بيت صالح مسجورًا فخبزنا لك فيه، فقال: ارفعوا، ولم يأكل، وأمر بسدِّ بابه إلى دار صالح؛ لأن صالحًا أخذ جائزة المتوكل على الله؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 342).
(8) قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث لمائدته شيئًا كثيرًا، وكان أحمد لا يتناول من طعامه شيئًا؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 342).
(9) قال البيهقي: بعث الخليفة المأمون مرةً ذهبًا؛ ليقسم على أصحاب الحديث، فما بقي منهم أحد إلا أخذ، إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 342).
(10) قال سليمان الشاذكوني: رهن أحمد سطلًا (وعاء) عند رجل، فأخذ منه شيئًا يتقوَّته، فجاء فأعطاه فَكاكه، فأخرج إليه سطلين، فقال: انظر أيهما سطلك فخذه، قال: لا أدري، أنت في حِلٍّ منه ومما أعطيتك، ولم يأخذ شيئًا، قال الرجل: واللهِ إنه لسَطله، وإنما أردت أن أمتحنه فيه؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 348: 347).
(11) قال أحمد بن منصور الرمادي: سمعتُ عبدالرزاق - وذكر أحمد - فدمعت عينه وقال: قدم وبلغني أن نفقته نفِدت، فأخذتُ عشَرة دنانير، وعرضتها عليه، فتبسم، وقال: يا أبا بكر، لو قبلتُ شيئًا من الناس، قبلتُ منك، ولم يقبل مني شيئًا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ: 229).
أقوال العلماء في الإمام أحمد:
(1) قال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد، فما خلَّفت بها رجلًا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 195).
وقال الشافعي أيضًا: يا أبا عبدالله، إذا صح عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبرٌ صحيحٌ، فأعلِمْني حتى أذهب إليه؛ كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 213).
(2) قال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء، ويُمسك ما شاء؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 337).
(3) قال إسحاق بن راهَويه: أحمدُ حجةٌ بين الله وبين خَلْقه؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 196).
(4) قال عبدالرزاق بن همام: ما رأيتُ أحدًا أفقهَ ولا أورع من أحمد بن حنبل؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 195).
(5) قال يحيى بن آدم: أحمد بن حنبل إمامنا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 189).
(6) قال عمرٌو الناقد: إذا وافَقني أحمد بن حنبل على حديث، لا أبالي مَن خالفني؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 198).
(7) قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل، أيهما أحفظ؟ فقال: كانا في الحفظ متقاربينِ، وكان أحمدُ أفقهَ، إذا رأيت من يحب أحمدَ، فاعلم أنه صاحبُ سُنة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 198).
(8) قال محمد بن يحيى الذُّهلي: جعلتُ أحمد إمامًا فيما بيني وبين الله؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 198).
(9) قال أبو عمر ابن النحاس وذكر أحمد يومًا فقال: رحمه الله، في الدِّين ما كان أبصرَه! وعن الدنيا ما كان أصبَرَه! وفي الزهد ما كان أخبَرهَ! وبالصالحين ما كان ألحقَه! وبالماضين ما كان أشبهَه! عرضت له الدنيا فأباها، والبِدَع فنفاها؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 14 صـ 407).
(10) قال بِشر بن الحارث الحافي بعدما ضُرب أحمدُ بن حنبل: أُدخل أحمدُ الكِيرَ فخرج ذهبًا أحمر؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 14 صـ 407).
(11) قال نصرُ بن عليٍّ الجَهْضمي: أحمدُ أفضلُ أهل زمانه؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 197).
(12) قال علي بن المديني: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيدًا كان له نظراء.
وقال عليُّ بن المديني أيضًا: أعزَّ الله الدِّين بالصِّدِّيق يوم الرِّدة، وبأحمدَ يوم المحنة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 196).
وقال علي بن المديني: أمرني سيدي أحمدُ بن حنبل ألا أحدِّث إلا من كتاب؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 200).
(13) قال يحيى بن معين أيضًا: كان في أحمد بن حنبل خصالٌ ما رأيتُها في عالم قط، كان محدثًا، وكان حافظًا، وكان عالمًا، وكان ورِعًا، وكان زاهدًا، وكان عاقلًا؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 350).
(14) قال قتيبة: خيرُ أهل زماننا: ابن المبارك، ثم هذا الشاب - يعني: أحمد بن حنبل - وإذا رأيت رجلًا يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سُنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث، لكان هو المقدَّم عليهم، فقيل لقتيبة: يضم أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين.
وقال قتيبة: لولا الثوري لمات الورعُ، ولولا أحمدُ لأحدَثوا في الدِّين؛ أحمد إمام الدنيا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 195).
(15) قال وكيع بن الجراح: ما قدِم الكوفةَ مِثلُ أحمد بن حنبل؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 338).
(16) قال أبو عاصم النبيل، وقد ذكر طلاب العلم، فقال: ما رأينا في القوم مِثلَ أحمد بن حنبل؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 339).
ابتلاء أحمد بفتنة خلق القرآن:
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): كان قد اجتمع على الخليفة المأمون واستحوذ عليه جماعةٌ من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزيَّنوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل.
قال الحافظ البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله، لا من بني أمية ولا من بني العباس، خليفة إلا على منهج السلف، حتى وَلِيَ هو الخلافة، فاجتمع به هؤلاء، فحملوه على ذلك، قالوا: واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو بلاد الروم، فعَنَّ له أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخَلْق القرآن، واتفق ذلك في آخر عمره، قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما وصل الكتاب، كما ذكرنا، استدعى جماعةً من أئمة الحديث، فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب، وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرُهم مكرَهين، واستمر على الامتناع في ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحُملا على بعير، وسيَّرهما إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانوا ببلاد الرحبة، جاء رجل من الأعراب من عبَّادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلَّم على الإمام أحمد، وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن مشؤومًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم؛ فإياك أن تجيب فيجيبوا، وإن كنت تحب الله، فاصبِرْ على ما أنت فيه؛ فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقتَل، وإنك إن لم تُقتَل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عشت حميدًا، قال الإمام أحمد: فكان ذلك ما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك، فلما اقتربوا من جيش المأمون ونزلوا دونه بمرحلة، جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرَف ثيابه، وهو يقول: يعِزُّ عليَّ يا أبا عبدالله أن المأمون قد سل سيفًا لم يسُلَّه قبل ذلك، وبسط نطعًا لم يبسطه قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن، ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، ثم قال: سيدي، غرَّ حِلمُك هذا الفاجر حتى يتجبر على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكُنِ القرآن كلامَك غيرَ مخلوق، فاكفِنا مؤنته، قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.
قال أحمد: ففرحت بذلك، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد وَلِيَ الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني معهم أذًى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها وهو مريض، وذلك في رمضان، فأُودِع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وقد كان الإمام أحمد هو الذي يصلي بأهل السجن وعليه قيود في رجليه، ولما أحضره المعتصم من السجن زِيد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤوني بدابة، فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار الخلافة، فأدخلت في بيت، وأغلق عليَّ، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت أصلي، ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة، ولله الحمد، قال: ثم دُعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إليَّ، وعنده ابن أبي دؤاد، قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن، وهذا شيخ مكتهل؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعةً، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إلامَ دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبدالقيس، ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه؛ وذلك لأني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبدالرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظروه، يا عبدالرحمن، كلِّمه، فقال لي عبدالرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه، فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين، كفَّرك وكفَّرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبدالرحمن: كان الله ولا قرآن؟ فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت، فجعلوا يتكلمون من ها هنا وها هنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنَّة رسول الله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟
وجرت بينهما مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ﴾ [الأنبياء: 2]، وعنه في ذلك أجوبة بحدث إنزاله، أو ذكر غير القرآن محدث، كما تقدم، ورشح هذا بقوله: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1] يعني به القرآن، بخلاف الذِّكر؛ فإنه غير القرآن، وبقوله: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]، فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌّ مضلٌّ مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسَلْهم، فقال لهم: ما تقولون فيه؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني فناظروه أيضًا، ثم في اليوم الثالث فناظروه أيضًا، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلِب حجتُه حُجَجهم، قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهل الناس بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة، ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار، ويردون الاحتجاج بها.
وقال أحمد: سمعتُ منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدًا يقولها، وقد تكلم معي برغوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يُضعفوا إسناده، ويلفقوا عن بعض المحدِّثين كلامًا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات ﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 52]، وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة، ويقول: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي، وممن يطأ بساطي، فأقول: يا أمير المؤمنين، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها، واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الاحتجاج بالآثار بقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، وبقوله:﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وبقوله: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]، وبقوله: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وبقوله: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40] إلى غير ذلك من الآيات، فلما لم يقم لهم معه حجة، عدَلوا إلى استعمال جاه الخليفة في ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا كافر ضال مضل، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلِب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكةً، وهو يظن أنهم على شيء، قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعتُ فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأُخذت وسُحبت وخُلعت، وجيء بالعقابين والسياط، وأنا أنظر، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرور في ثوبي، فجردوني منه، وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث))، وتلوت الحديث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم))، فبمَ تستحل دمي؟! ولم آتِ شيئًا من هذا، يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك، ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين، إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فأقمت بين العقابين، وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين، فلم أفهم، فتخلَّعت يداي، وجيء بالضرَّابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له - يعني المعتصم -: شُدَّ، قطع الله يدك! ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا، فأغمي علي، وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود إليَّ عقلي، وقام المعتصم إليَّ يدعوني إلى قولهم، فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك، الخليفة على رأسك، فلم أقبل، فأعادوا الضرب، ثم عاد إليَّ فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إليَّ الثالثة، فدعاني فلم أعقِلْ ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي، فلم أحسَّ بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمَر بي فأُطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رِجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل: ثمانين سوطًا، لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا جدًّا.
ولما حُمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم، وهو صائم، أتوه بسويق وماء؛ ليفطر من الضعف، فامتنع من ذلك، وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم، فقال له ابن سماعة القاضي: صليت في دمك؟ فقال له أحمد: قد صلى عمرُ وجرحه يثعب دمًا، فسكت؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 349: 346).
ندم الخليفة المعتصم على ضرب أحمدَ:
لما رجع الإمام أحمد بن حنبل إلى منزله، جاءه الطبيب فقطع لحمًا ميتًا من جسده، وجعل يداويه، والنائب يبعث كثيرًا في كل وقت يسأل عنه؛ وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندمًا كثيرًا، وجعل يسأل النائب عنه، والنائب يستعلم خبره، فلما عُوفي، فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية، بقي مدةً وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كلَّ مَن سعى في أمره في حِلٍّ إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]، ويقول: ماذا ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم في سبيلك؟ وقد قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وينادى يوم القيامة: "ليَقُمْ مَن أجره على الله"، فلا يقوم إلا مَن عفا؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 349)
ثبات أحمد على الحق وانتهاء المحنة:
خرج أحمدُ من سجنه إلى منزله وهو ثابت على الحق، ولزم منزله، وامتنع من التحديث، وذلك بأمر الخليفة المعتصم، وأحمد صابر محتسب، ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما وَلِيَ المتوكل على الله جعفر بن المعتصم استبشر الناس بولايته؛ فإنه كان محبًّا للسنَّة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق ألا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه، فأكرمه إسحاق وعظمه؛ لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن، فقال له أحمد: سؤال تعنت أو استرشاد؟ فقال: بل سؤال استرشاد، فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة بسُرَّ مَن رأى؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 351).
اهتمام الخليفة المتوكل بعلاج أحمد:
لما طالت علة أبي عبدالله، كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب، فيصف له الأدوية، فلا يتعالج، ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين، ليست بأحمد علة، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة، فسكت المتوكل؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 271).
وفاة الإمام أحمد بن حنبل:
قال صالح بن أحمد: لما كان أول ربيع الأول أصابت أبي الحمى ليلة الأربعاء، وبات وهو محموم، يتنفس تنفسًا شديدًا، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرِّضه إذا اعتل، قال المروذي: مرض أبو عبدالله ليلة الأربعاء لليلتين خلَتا من شهر ربيع الأول، ومرض تسعة أيام، وتسامع الناس، فأقبلوا لعيادته، فربما أذن للناس فيدخلون أفواجًا يسلمون عليه فيرد عليهم بيده، وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض، فترك الأنين، فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها، فأنَّ حين اشتد به الوجع.
وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضِّئوه، فجعلوا يوضئونه، وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي، وهو يذكر الله في جميع ذلك، فلما أكمَلوا الوضوء توفي - رحمه الله ورضي عنه، وكان ذلك يوم الجمعة، الثاني عشر من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة، وكان عمره سبعًا وسبعين سنة.
جنازة الإمام أحمد:
كانت وفاة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - صبيحة يوم الجمعة حين مضى نحو من ساعتين من النهار، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن عبدالله بن طاهر حاجبه ومعه غلمان يحملون مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة؛ فإنه لو كان حاضرًا لبعث بهذا، فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وهذا مما يكره، وأبوا أن يكفنوه في تلك الأثواب، وأتوا بثوب كان قد غزلته جاريته، فكفنوه فيه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطًا، واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء من بيوتهم؛ لأنه كان قد هجر بيوتهم، فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئًا، وكان لا يزال متغضبًا عليهم؛ لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكانوا عالةً فقراء، وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يقبلون بين عينيه، ويدعون له، ويترحمون عليه، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لا يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبدالله بن طاهر واقف في الناس، فتقدم خطوات، فعزى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة من الناس الصلاة على القبر بعد الدفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر؛ وذلك لكثرة الناس.
روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن عبدالله بن طاهر أمر بحزر الناس، فوجدوا ألف ألف وثلاثمائة ألف، وفي رواية: وسبعمائة ألف، سوى من كان في السفن، وأقل ما قيل: سبعمائة ألف.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس عليه حيث صلي على أحمد بن حنبل، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف.
قال عبدالوهاب الوراق: أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنَّة والطعن على أهل البدع، فسَرَّ الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة، لما رأوا من العز وعلو الإسلام وكبت أهل الزيغ، ولزم بعض الناس القبر، وباتوا عنده، وجعل النساء يأتين حتى مُنِعن.
قال عبدالوهاب الوراق أيضًا: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية والإسلام كان أكثر من الجمع على جنازة أبي عبدالله؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 342: 334)، (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 356).
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل، وجمعنا معه في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالَمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.