أقوال العلماء الأعلام على أحاديث عمدة الأحكام
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
باب الجمعة
الحديث الأول
125- عن سهل بن سعد الساعدي رب - رضي الله عنه- أن رجالاً تماروا في منبر رسول الله من أي عود هو، فقال سهل: من طرفاء الغابة وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي".
وفي لفظ: صلى عليها، ثم كبر عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى.
الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾ [الجمعة: 9].
• قوله: (من طرفاء الغابة) وفي رواية: "من أثلة الغابة" والأثل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه.
• قال الحافظ: والغابة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف[1].
• قوله: (وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر).
• قال البخاري: باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب.
قال أبو عبدالله: ولم ير الحسن بأسا أن يصلى على الجهد والقناطر وإن جرى تحتها بول أو فوقها أو أمامها إذا كان بينهما سترة. وصلى أبو هريرة على سقف المسجد بصلاة الإمام وصلى ابن عمر على الثلج[2].
حدثنا علي بن عبدالله قال حدثنا سفيان قال حدثنا أبو حازم قال: "سألوا سهل.
بن سعد من أي شيء المنبر فقال ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين عمل ووضع فاستقبل القبلة كبر وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض ثم عاد إلي المنبر ثم ركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه قال أبو عبدالله قال علي بن المديني سألني أحمد بن حنبل رحمه الله عن هذا الحديث قال فإنما أردت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث قال فقلت إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرا فلم تسمعه منه؟ قال لا" ثم ذكر حديث عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه وآلي من نسائه شهرا فجلس في مشربة له درجتها من جذوع فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به... " الحديث.
• قال الحافظ: (والغرض من إيراد هذا الحديث في هذا الباب جواز الصلاة على المنبر، وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك المصنف في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل. ولابن دقيق العيد في ذلك بحث، فإنه قال: من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة وفيه جواز الصلاة على الخشب)[3].
وقال: (ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلي حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال: "بعث معاوية إلي مروان- وهو عامله على المدينة- أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هي عليها اليوم"، ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: "فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس" قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلا أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤلف سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر الله له صالح عمله آمين.
• قوله: (وفي لفظ: "صلى عليها") أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر.
• قوله: (ثم نزل القهقرى) القهقرى: المشي إلا خلف. والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة.
• وعند الطبراني: فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر.
• قوله: (في أصل المنبر)، أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه.
• وقوله: (أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي).
• قال الحافظ: وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض، ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه. وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرا وإما تبركا)[4] انتهي.
وعن حذيفة مرفوعًا إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم رواه أبو داود. قال الموفق: ولا باس بالعلو اليسير لحديث سهل[5]. انتهى والله أعلم.
الحديث الثاني
128- عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل".
• قال البخاري: باب فضل الغسل يوم الجمعة.
وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء وذكر الحديث، ثم ذكر حديث مالك عن الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن ابن عمر- رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- فناداه عمر أية ساعة هذه قال إني شغلت فلم أنقلب إلي أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت فقال والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل" ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"[6].
• قال الحافظ: (قوله: "باب فضل الغسل يوم الجمعة" قال الزين بن المنير: لم يذكر الحكم لما وقع فيه من الخلاف، واقتصر على الفضل لأن معناه الترغيب فيه وهو القدر الذي تتفق الأدلة على ثبوته)[7].
• قوله: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) وفي رواية عند مسلم: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل" وعند أبي عوانة: كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" وعن ابن عمر عن حفصة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: والجمعة واجبة على كل محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل" رواه أبو داود والنسائي.
والحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس.
• قال الجمهور: يجزئ من بعد الفجر، وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزي.
• قال الحافظ: يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه وله صحبة "أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل".
• وقال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلي الجمعة.
• قال الحافظ: (وقد حكي ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به.
• قال الحافظ: وقد قال الشافعي في الرسالة بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد: احتمل قوله واجب معنيين، الظاهر منهما أنه واجب فلا نجزي الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة.
ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار. ا هـ.
• قال الحافظ: وعلى هذا الجواب عول أكثر المصنفين، قال وهو استدلال قوي - إلى أن قال- وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة وغيره، فيجب على الثاني دون الأول حكاه صاحب الهدي)[8] انتهى.
وكأنهم تمسكوا بما أخرجه أبو داود والطحاوي عن ابن عباس أنه "سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ فقال: لا، ولكنه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيقا، فلما آذى بعضهم بعضا قال النبي - صلى الله عليه وسلم-:
أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا" قال ابن عباس "ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع المسجد"، وعن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- قالت كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق فيخرج منهم العرق فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" متفق عليه.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم-:"حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده" متفق عليه، وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه- قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل". رواه الخمسة إلا ابن ماجه فإنه رواه من حديث جابر بن سمرة وعن أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" رواه الخمسة ولم يذكر الترمذي ومشى ولم يركب، وعن نبيشة الهذلي يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي قبلها. رواه أحمد. وبالله التوفيق.
الحديث الثالث
129- عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنهما- قال: جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: "صليت يا فلان؟" قال: لا. قال: "قم فاركع ركعتين".
وفي رواية: "فصل ركعتين".
• قال البخاري: باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين.
وذكر الحديث ولفظه: قال جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليت يا فلان، قال: لا، قال: قم فاركع".
• قوله: (جاء رجل) وعند مسلم: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر، فقعد عليك قبل أن يصلي، فقال له: أصليت ركعتين؟ فقال: لا. فقال: قم فاركعهما" وفي رواية: "فقال له: يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما".
• قوله: (فقال صليت؟) كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبت في رواية الأصيلي.
• قوله: (قم فاركع ركعتين).
فيه دليل على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد، روى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبي حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يأمر بهما [9] انتهى.
• قال الحافظ: (ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك، وقال بعد ما ذكر أجوبة المانعين منها والإمام يخطب، وهذه الأجوبة التي قد قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قيادة "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" متفق عليه وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: "سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:"وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب- أو قد خرج- فليصل ركعتين" متفق عليه أيضا، ولمسلم من طريق أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما "ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" قال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه.
• قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى.
وفيه أن التحية لا تفوت بالقعود، لكن قيده بعضهم بالجاهل أو الناسي، وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهى ويبين الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها، بل لقائل أن يقول كل ذلك يعد من الخطبة إلا أن قال قال الشافعي: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة، فإن لم يفعل كرهت ذلك. وحكي النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحيه أو متنفلا حال إقامة الصلاة. واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف.
• قال الحافظ: وفيه نظر لطول زمن الطواف بالنسبة إلي الركعتين. والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف)[10]. والله أعلم. انتهى.
الحديث الرابع
130- عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس.
• قال البخاري: باب الخطبة قائما.
وقال أنس بينا النبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب قائما وذكر حديث ابن عمر ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن"[11].
• قال ابن دقيق العيد: (الخطبتان واجبتان عند الجمهور من الفقهاء)[12].
• قوله: (يفصل بينهما بجلوس) وفي رواية: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين يقعد بينهما، ولأبي داود كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين وكان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب" والحديث يدل على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، وعن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا "وتركوك قائما" وعن طاووس "خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية" أخرجه ابن أبي شيبة، وعنده عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه، وعن قيادة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما" أخرجه عبد الرزاق، وروي سعيد بن منصور عن الحسن قال: أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعيا جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية.
• قال الحافظ: (ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعدا لأنه تبين أن ذلك للضرورة)[13].
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب. أخرجه مسلم [14] وبالله التوفيق.
• قال ابن دقيق العيد: (وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين فمن أراد تصحيحه فعليه إبرازه)[15].
• قال الحافظ: (وللنسائي والدار قطني "كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس" وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصحيحين"[16] انتهى والله أعلم.
الحديث الخامس
131- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت".
• قال البخاري: باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا، وقال سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ينصت إذا تكلم الإمام ثم ذكر الحديث[17].
• قوله: (فقد لغوت) قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه.
• وقال ابن دقيق العيد: هو درئي الكلام ومالا خير فيه وقد يطلق على الخيبة وقيل اللغو الإثم كقوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما، وقال الزين بن المنير اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام، وقال النضر بن شميل معنى لغوت خبت من الأجر وقيل بطلت فضيلة جمعتك وقيل صارت جمعتك ظهرا، قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة، ولأحمد من حديث علي مرفوعًا: من قال: صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له، ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعًا: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة، وقد وقع عند أحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث بعد قوله "فقد لغوت: عليك بنفسك ".
• قال الحافظ: (واستدل به على من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها، وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة- إلى أن قال- والبزار من حديث ابن عباس مرفوعًا "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة" وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمي عن ابن عمر موقوفا، قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة لإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه، وحكى ابن التين عن بعض من جوز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله "فقد لغويا أي أمرت بالأنصار من لا يجب عليه، وهو جمود شديد، لأن الإنصات لم يختلف في مطلوبيته فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغيا، بل النهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة، لأنه إذا جعل قوله "أنصت" مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا.
وقد وقع عند أحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث بعد قوله ونقد لغوت: عليك بنفسك " واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها، وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة- إلى أن قال- واختلف السلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يحمل ما نقل عن السلف من الكلام حال الخطبة. قال ويدل على الوجوب في حق السامع أن في حديث علي "ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر"، ونقل صاحب "المغني" الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر، وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأسا إذا لم يفهم عنه بالإيماء أن يتكلم. وقد استثنى من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلي كل ما لم يشرع مثل الدعاء للسلطان مثلا، بل جزم صاحب التهذيب بان الدعاء للسلطان مكروه، وقال النووي: محله ما إذا جازف وإلا فالدعاء لولاة الأمور مطلوب.
• قال الحافظ: ومحل الترك إذا لم يخف الضرر، وإلا فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه)[18].
وعن عبدالله بن بسر- رضي الله عنه- قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-"اجلس فقد آذيت" رواه أبو داود والنسائي.
وعن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار رواه أحمد. وبالله التوفيق.
يتبع