أقوال العلماء الأعلام على أحاديث عمدة الأحكام
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
(بابٌ جامع)
تتمة:
اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة: فقال بعضهم ليس بعورة، وقال بعضهم: عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة.
والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه، ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة.
وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا وعلى الشريعة عموما وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول.
ولا تصح الصلاة في الثوب المغصوب ولا الحرير ولا المكان المغصوب هذا إذا كانت الصلاة فرضا وهو أصح الروايتين عن أحمد.
وإن كانت نفلا فقال الآمدي لا تصح رواية واحدة.
• وقال أبو العباس: أكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأن منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه وينبغي أن يكون الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة على هذا الخلاف لأن المذهب أنه حرام وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير.
قلت لازم ذلك أن كل ثوب يحرم لبسه يجري على هذا الخلاف وقد أشار إليه صاحب المستوعب والله أعلم.
ولو كان المصلي جاهلا بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه سواء قلنا إن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة.
وأما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولا واحدا لأن لبثه فيه ليس بمحرم.
ومن أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد إلا الثوب النجس.
وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب في الروايتان وأولى وكذلك كل مكره على الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضررا من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس.
وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير إذنه إذا لم يكن محوطا عليه وجهين وأن المذهب الصحة يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأحرى، والمقبوض بعقد فاسد من الثياب والعقار أفتى بعض أصحابنا بأنه كالمغصوب سواء.
وعلى هذا فإن لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالا في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا حق لعباده وإلا لم تصح فيه الصلاة، وكذلك الماء في الطهارة، وكذلك المركوب والزاد في الحج وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة ولو صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة. وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان أظهرهما البطلان.
ولو غصب مسجدا وغيره بأن حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه وإن أبقاه مسجدا ومنع الناس من الصلاة فيه ففي صحة صلاته فيه وجهان، والأقوى البطلان.
ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل وقياس المذهب ضمانه.
وإن لم يجد العريان ثوبا ولا حشيشا ولكن وجد طينا لزمه الاستتار به عند ابن عقيل ولا يلزمه عند الآمدي وغيره وهو الصواب المقطوع به وقيل إنه المنصوص عن أحمد لأن ذلك يتناثر ولا يبقى ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن وتستحب الصلاة بالنعل قاله طائفة من العلماء والعبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن الزاغوني وبطلان فرضه قوي أيضا كما جاء في الحديث مرفوعا وينبغي قبول صلاته والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال: ï´؟ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ï´¾ [الأعراف: 31]، فعلق الأمر باسم الزينة لا بستر العورة إيذانا بان العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة[23].
الحديث الثامن
111- عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا. أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" وأتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه، فلما رآه كره أكلها، قال: "كل، فإني أناجي من لا تناجي".
الحديث التاسع
112- عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان.
وفي رواية: "بني آدم".
• قال البخاري: باب ما جاء في الثوم الني والبصل والكراث، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم أو البصل من الجوع أو غيره فلا يقربن مسجدنا.
وذكر حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: "من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا" ثم قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يغشانا في مساجدنا" قلت: ما يعنى به قال ما أراه يعنى إلا نيئة وقال مخلد بن يزيد عن ابن جريج إلا نتنه، وقال أحمد بن صالح عن ابن وهب أتي بقدر، وقال ابن وهب: يعني طبقا فيه خضرات ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القدر فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب زعم عطاء أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول، فقال قربوها إلي بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها قال: "كل فإني أناجي من لا تناجي" وقال أحمد بن صالح بعد حديث يونس عن ابن شهاب وهو يثبت قول يونس حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز قال سأل رجل أنس بن مالك ما سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الثوم فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا أو لا يصلين معنا".
• قال الحافظ: (قوله: الثوم النيء تقييده بالنيئ حمل منه للأحاديث المطلقة في الثوم على غير النضيج منه. وقوله في الترجمة (والكراث) لم يقع ذكره في أحاديث الباب التي ذكرها، لكنه أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر وغيره فعند مسلم منرواية أبي الزبير عن جابر قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة وله من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع" الحديث)[24].
• قوله: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا) أو قال: (فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته) وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: "من أكل من هذه الشجرة- يعنى الثوم- فلا يقربن مسجدنا".
• قال الحافظ: يريد به المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته هناك أو المراد بالمسجد الجنس والإضافة إلي المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين. ويؤيده رواية أحمد عن يحيى القطان فيه بلفظ: "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حكاه ابن بطال عن بعض أهل العلم ووهاه.
وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء هل النهي للمسجد الحرام خاصة أو في المساجد؟ قال: لا، بل في المساجد.
• قوله: (وليقعد في بيته) بواو العطف.
• قال الحافظ: وهي أخص من الإعتزال لأنه أعم من أن يكون في البيت أوغيره، وفي رواية أو ليقعد في بيته بالشك.
• قوله: (وأتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول) وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
• قال الحافظ: هذا حديث آخر، وهو معطوف على الإسناد المذكور قال وهذا الحديث الثاني كان متقدما على الحديث الأول بست سنين، لأن الأول تقدم في حديث ابن عمر وغيره أنه وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر وكانت سنة سبع، وهذا وقع في السنة الأولى عند قدومه - صلى الله عليه وسلم - إلي المدينة ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري[25].
• قوله: (أتي بقدر) بكسر القاف وهو ما يطبخ فيه، ويجوز فيه التأنيث والتذكير، والتأنيث أشهر، لكن الضمير في قوله: "فيه خضرات" يعود على الطعام الذي في القدر، فالتقدير أتى بقدر من طعام فيه خضرات، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال: "فأخبر بما فيها" وحيث قال: "قربوها" وقوله: "خضرات" بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين كذا ضبط في رواية أبي ذر، ولغيره بفتح أوله وكسر ثانية وهو جمع خضرة، ويجوز مع ضم أوله ضم الضاد وتسكينها أيضا.
• قوله: (فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها قال: "كل فإني أناجي من لا تناجي").
• قال الحافظ: قوله: إلي بعض أصحاب، قال الكرماني فيه النقل بالمعنى، إذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقله بهذا اللفظ بل قال قربوها إلا فلان مثلا، أو فيه حذف أي قال قربوها مشيرا أو أشار إلى بعض أصحابه.
• قال الحافظ: والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه قال فكان يصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما فإذا جيء به إليه - أي بعد أن يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه- سأل عن موضع أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصنع ذلك مرة فقيل له: لم يأكل، وكان الطعام فيه ثوم، فقال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ولكن أكرهه.
• قوله: (كل فإني أناجي من لا تناجي) أي الملائكة.
• قال الحافظ: وفي حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة وابن حبان من وجه آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل أو كراث فلم ير فيه أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبي أن يأكل، فقال له: ما منعك؟ قال: لم أر أثر يدك قال: أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم ولهما من حديث أم أيوب قالت: نزل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلفنا له طعاما فيه بعض البقول، فذكر الحديث نحوه وقال فيه "كلوا، فإني لست كأحد منكم، إني أخاف أوذي صاحبي".
• قال الحافظ: والذي يظهر لي أن رواية "القدر" أصح لما تقدم من حديث أبي أيوب وأم أيوب جميعا، فإن فيه التصريح بالطعام، ولا تعارض بين امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم وغيره مطبوخا وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخا، فقد علل ذلك بقوله "إني لست كأحد منكم " وترجم ابن خزيمة على حديث أبى أيوب ذكر ما خص الله نبيه به من ترك أكل الثوم ونحوه مطبوخا "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان" وفي حديث عبد العزيز بن صهيب سأل رجل أنسًا ما سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثوم فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا أو لا يصلين معنا".
• قال الحافظ: وقوله: فلا يقربنا وليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلي العيد والجنازة ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: "وليقعد في بيته" لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر.
• وقال ابن دقيق العيد أيضا: قد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتض ذلك أن يكون عذرا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة.
• وقال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة وإنما هو عقوبة لآكله على فعله إذ حرم فضل الجماعة.
• ونقل ابن التين عن مالك قال: الفجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم. وقيده عياض بالجشاء.
• قال الحافظ: حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلا البقيع كما ثبت في مسلم عن عمر - رضي الله عنه - ثم قال: "إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم" ولقد كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلي البقيع فمن كان منكم أكلهما لا بد فليمتهما طبخا[26].
وقع في بعض نسخ "العمدة" وأما حديث جابر الآخر وليس هذا من كلام المصنف إنما هو كلام ابن دقيق العيد فإنه قال بعد تمام الحديث وفي رواية بنو آدم ففيه زيادة الكراث وهو معنى الأدلة إذا العلة فيه زيادة الكراث وهو في معنى الأول إذ العلة تشمله.
[1] فتح الباري: (1/ 538).
[2] إحكام الأحكام: ( 1/ 289)
[3] فتح الباري: (3/ 72).
[4] فتح الباري: (3/ 74).
[5] نيل الأوطار: (2/364)
[6] الفتاوى الكبرى: (5/ 338).
[7] المغني....
[8] فتح الباري: (2/ 20).
[9] فتح الباري: (2/ 17).
[10] فتح الباري: (2/ 19).
[11] فتح الباري: (2/ 70).
[12] فتح الباري: (2/ 70).
[13] فتح الباري: (2/ 71).
[14] فتح الباري: (2/ 192).
[15] فتح الباري: (2/ 192).
[16] فتح الباري: (1/ 493)
[17] فتح الباري: (1/ 493)
[18] فتح الباري: (1/ 471).
[19] فتح الباري: (1/ 467).
[20] فتح الباري: (1/ 468).
[21] فتح الباري: (1/ 468).
[22] نيل الأوطار: (2/ 54).
[23] الاختيارات الفقهية: (1/40).
[24] فتح الباري: (2/ 340).
[25] فتح الباري: (2/ 340).
[26] فتح الباري: (3/ 262).