الموضوع: الذل بعد العز
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-02-2020, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة : Egypt
افتراضي الذل بعد العز

الذل بعد العز



الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان





إخوة الإيمان:
ما أشد الذل بعد العز، وما أحر الهوان بعد الرفعة، وما أمرَّ الصغار بعد الإجلال ، وما أقسى السلب بعد العطاء، وصدق رب الأرض والسماء: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

فتعالوا إلى حديث مع من اغتر بدنياه، وجعلها غايته ومناه، مع أناس عاشوا حياة العز ثم كان شأنهم ومآلهم إلى سفول، مع أقوام ذاقوا حلاوة الرفعة أزمانًا، ثم نسوا ذلك كله مع أول علقم ذل ذاقوه، ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ﴾َ [الأعراف: 176]، فلنا في سنين الأولين عبرة، وفي أخبار الماضين متعظ، ومن عجائب الزمان أن التاريخ يعيد نفسه، والوقائع والأحداث تتكرر وتتشابه، وهذا أمر أكده القرآن، فمواقف أعداء الرسل تكررت وتشابهت، قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 52 - 53].

أول صفحة نقترب منها في تاريخنا المنسي هي في غرب أفريقيا وفي بلاد الأندلس تحديدًا مع رجل اغتر بملكه وزهى بسلطانه، مع ملك إشبيليا، المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف ببلاد الأندلس (إسبانيا) يوم أن كانت أرضًا إسلامية.

ملك ابن عباد أرض إشبيليا فملك معها الأموال الطائلة، والقصور الفارهة، وعاش عيشة باذخة، يتقاصر كل قلم عن وصفها، وحادثة واحدة تختصر لنا حجم البذخ والترف الذي عاشه المعتمد بن عباد وعائلته.

في قصره المنيف وعند نافذة من نوافذه، تقف زوجته وبناته فينظرن إلى نساء يحملن قرب السمن على ظهورهن يبعنه في السوق، وفي طريقهن يطأن طينًا معترضًا، فكن يرفعن ثيابهن بيد واليد الأخرى تحمل القرب.

فاشتهت زوجته وبناته أن يتضمخن بالطين كما تتضمخ هؤلاء النسوة، فأمر ابن عباد بالعنبر والعود، فمد في ساحة قصره، ثم رش بماء الورد عليه، وخلط حتى أصبح مثل ماء الطين، فجعلت زوجته وبناته يمشين على العنبر والكافور، وهكذا أشبعت رغبتهن التافهة، بأموال طائلة، وانتهت سكرة الشهوة، ولكن ما انتهت تبعاتها.

دار الزمان دورته، وما بين لحظة وانتباهتها بدل الله الأمر من حال إلى حال، فدب خلاف بين ملوك الطوائف سقط على إثره المعتمد عن ملكه وأخذ أسيرًا هو وعائلته، فإذا هم يعيشون لاجئين صاغرين، بعد ان كانوا ملوكًا عالين، أما ابن عباد فأودع في سجن أغمات (قرية في المغرب)، وأما عائلته فكانوا خارج السجن، ولكن عاشوا خدامًا، يتلقفون العطايا، بعد أن كان أمرهم مسموعًا، وقولهم مطاعًا، أضحت زوجته وبناته اللائي كن بالأمس يتخوضن في الكافور والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من قوت قليل، يحصلنه من غزل الصوف، لا يسد إلا بعض حاجتهن.

بقى ابن عباد في ظلمات السجن مأسورًا، ذاق فيه خشونة الحصير، بعد أن كان يتقلب على بساط الحرير، تحول من حاكم يأمر وينهي إلى مأسور يرحمه الناس، ويعتبر به الغير، بقى المعتمد في أسره أشهرًا، لم يزرنه بناته ولا زوجه، حتى كان أول لقاء في يوم عيد، دخلن عليه في هذا اليوم، الذي يتجمل فيه الناس، فرأى ثيابهن رثة، وهيئتهن كسيرة، فصدعن قلبه واحرقن فؤاده، فهاجت نفسه بهذه الأبيات:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللذات معمورا

وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ
فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً
في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا

معاشهنّ بعد العزّ ممتهنٌ
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة ً
أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافيةً
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ
فردّك الدهر منهياً ومأمورا

من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به
فإنما بات في الأحلام مغرورا


ومن الاغترار بالملك إلى الاغترار بالمنصب، وللمناصب بريقها وفتنتها، هذا يحيى بن خالد البرمكي، تقلد منصب وزير الخليفة، في دولة بني العباس. هذه الدولة التي كانت تحكم من المغرب إلى الهند، قلده الرشيد هارون منصب الوزارة، وفوض إليه جميع أعماله، فأصبح يحيى بن خالد هو الخليفة بثوب الوزير.

ذكرت كتب التاريخ أن هارون الرشيد قال له: "قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه".

ولم يقتصر يحيى البرمكي على هذا المنصب فقط، بل عين أولاده الثلاثة في مناصب عليا في الدولة، فأصبح البرامكة هم المسيطرون على زمام القرار السياسي.

إخوة الإيمان:
الدنيا مع الظلم لا تدوم، فقد كان يحيى ظلومًا، أكالًا للموال تنام عينه لكن أعين المظلومين لم تنم.
سهام الليل لا تخطي ولكن
لها أمد وللأمد انقضاء


انقلب الزمان على هذه الأسرة، فأذلهم الله بعد عز، ووضعهم بعد رفعة، فحدث ما يعرف في التاريخ بـ "نكبة البرامكة".

غضب الرشيد عليهم، فنكل بهم، وسجنهم، وقتل أحد أولادهم، وصادر كل أموالهم، وفي غياهب السجن يسأل خالد بن يحيى البرمكي والده: يا أبت بعد العز صرنا في القيد والحبس، فقال والده: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل، غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة
ومنًا والدهر ريان غَدَقْ

سكت الدهر زمانًا عنهمُ
ثم ابكاهم دمًا حين نطقْ


ومن الاغترار بالمنصب إلى الاغترار بالمال، وحين نتذاكر الاغترار بالمال فإننا لا نجد مثالًا أبلغ وأوعظ من مثال ضربه القرآن لذلك الرجل الذي أعطاه ربه من المال شيئًا مهولًا حتى إن مفاتيح خزائنه يعجز عن حملها الرجال الأقوياء.

بغى هذا الغني وبطر، وشمخ وفخر، ونسب هذا الثراء لنفسه وعبقريته، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78] نسى أن ربه قد اهلك من قبله من القرون، وهو أشد منه قوة وأكثر جمعًا، نسى أن هذا المال غاد ورائح، وأن الذي أعطى قادر على أن يمنع ، لم يشعر أن زيادة المال مع المعاصي والأعراض، إنما هو إمهال واستدراج لمن وهب المال.

وفي لحظة خاطفة، ولمحة سريعة عابرة أتاه أمر ربه، فخسف الله به الأرض، فما أغنى عنه ماله وما كسب، تجندل مع غروره في أسفل سافلين، وخسف معه أيضًا داره التي طالما زينها ونمقها وفاخر بها.

هذا نموذج سطره القرآن لمن اغتر بماله، وعقوبة الله لكل مغتر بماله ليس شرطًا أن تكون خسفًا، فقد يعاقبه الله بذهاب ماله وزواله، وكم سجل التاريخ والواقع لأناس عاشوا ثراء ورفعة ثم عادوا فقراء يمدون أيديهم سائلين متمسكنين.

عباد الله:
وأشنع أنواع الاغترار وأفظعها: أن يغتر الإنسان بدينه، فيتعالى بعلمه، ويتباهى بفهمه، ويتفاخر بصلاحه، فهذا الغرور يخلق الدين ويذهب الإيمان، وصاحبه على خطر عظيم، إن لم يتدارك حاله.

هذا ابن السقاء رفعه الله بالقرآن، فجوده ومهر فيه، وأخذ شيئًا من الفقه بيد أنه اغتر بما عنده من علم وفهم، فكان كثير المماراة والمجادلة، حكت لنا كتب التاريخ أن ابن السقاء حضر درس شيخه، فعارض شيخه في مسائل، وشغب عليه أمام الحاضرين، فعاتبه شيخه واجلسه.

ودارت الأيام والليالي فذهب ابن السقاء إلى ديار الروم فأعجب بما عندهم وافتتن، فإذا قارئ القرآن يزيغ قلبه، وينحرف عن دينه بالكلية، فتنصر والعياذ بالله.

إذا قارئ القرآن يقول: إن الله ثالث ثلاثة! بعد ان كطان يفرد الله بالعبادة، أصبح قارئ القرآن يقول: المسيح ابن الله!! بعد أن كان يردد: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾.

وبعد سنين عدة اتفق أن رأى أحد المسلمين ابن السقاء هناك فعرفه، فرأى رجلًا هزيلًا مريضًا جالسًا على دكة فسأل عن حاله، ثم سأله: هل القرآن باق معك، فقال ابن السقاء: ما أذكر منه إلا آية واحدة، هي: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2].

فعياذًا بالله من الذلة بعد العزة، ومن الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية، أقول قولي هذا وأستغفر الله.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]