عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-02-2020, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي دعوة لإعادة تشكيل فهمنا بمادة علم الجرح والتعديل

دعوة لإعادة تشكيل فهمنا بمادة علم الجرح والتعديل
حسن مظفر الرزّو




تجابه عملية إصدار حكم نقدي قطعي بصدد رجل مِن رجال الحديث - جملةً منَ العقبات المعرفية، وتشمل هذه العقبات دلالةَ الاصطلاح المستخدَم في وصْف مرتبة الراوي، في ظل العصر الذي أطلق فيه الاصطلاح، ووجود اختلاف في إصدار الحكم بين ناقدٍ متساهلٍ، أو متوسط، أو ثالث متشَدِّد ينبذ الراوي بأدنى شبهة، ويأتي بعد ذلك المنهج النقدي الذي تبنَّاه صيارِفَةُ الحديث في حكْمِهم على المحدثين، بمخْتلف مراتِبهم.

ولقد حفلتْ كتب رجال الحديث بعددٍ كبيرٍ منَ الأقوال المنقولة، في نقْدِ رواة الحديث، صدر بعضُها عن جهابِذَة علم الجرح والتعديل، بينما تَمَّ تناقل أقوال أخرى في سلسلة منَ الروايات المتكَرِّرة في كتب علوم الحديث، بعيدًا عنْ ممارسة معالَجات نقديَّة متبصرة بهذه الروايات، قبل أن تودعَ في كتب الجرح والتعديل، بحيثُ اختلطت العباراتُ، ودلالاتها على كثير منَ المشتغلين بهذا المضمار، وأصبح العاملون في ميدان الحديث يتأَرْجَحُون بين اعتماد كتاب بعينه دون غيره، مثل: اعتماد الكثير في هذه الأيام على "ميزان الذهبي"، وإغفال غيره، أو ممارسة مهنة حاطب الليل، باختيار ما يرونه متوافِقًا مع منهج دراستهم؛ بينما خلط البعض الآخر بين دلالة العبارة، فوضعوا عبارة: "لا بأس به"، التي كان يطلقها الإمام أحمدُ بن حنبل، مع من أطلقها في زمن المتأخرين.

وقد صاحبتْ هذه الظاهرة الخطيرة حركة نشِطة، تحاول أن تعيدَ توظيف الحديث النبوي الشريف في جلِّ مفردات حياتنا المعاصِرة، مع زيادة عددِ المصنفات المحقَّقة، والمعالَجة بتقنيات الحَوْسبة المعلوماتية، الأمر الذي بات يحتم علينا جميعًا النهوض بجهدٍ جبار؛ لدرء المخاطر المحتملة على علم الحديث النبوي الشريف، وتضييع معالِم إنجازاته النقدية الباهرة؛ نتيجة:
ظُهُور تيار يُعانِي مِن سطحيَّة الفَهْم بمفرداته الحقيقيَّة، بعد أن مارسَ لفترةٍ سلسلة عمليات تشويه للمنهج النقدي الأصيل بمناهج مستَحْدَثة، تبتعد كثيرًا عن مناهج المحدثين.

حصول حالة تُخمة معرفية بمفردات هائِلة من النتاج الحديثي، التي تفتقر إلى منهجٍ نقدي دقيق، يمتلك القدرة على استخلاص الموارد الأصيلة لهذا العلم الشريف، وتمييز معاني العبارات النقدية بحسب عصورها ورجالها؛ لكي تكون المادة العلمية خالِصة، وصالحة للتوظيف في الدراسات المعاصرة.

ولتجاوُز هذه العَقَبة التي قد تقف عائِقًا أمام الدِّراسات المعاصرة لعلوم الحديث ومصطلحه، ولِلْحفاظ على الحصيلة العلميَّة الفريدة التي خلفها لنا جهابِذةُ هذا العلم المبارك وأساطينه - بات من الضروري مباشرة سلسلة منَ الدراسات النقدية، التي تتناول بالسبر والتحليل كُتُبَ الجرح والتعديل؛ لتمييز أنواع ومراتب العبارات النقدية المطروحة، وتحديد معالَم النَّسَق المعرفي الذي تبنَّاه صيارفة الرِّجال في كل عصر منَ العصور، وأمور أخرى ستكشف عنها النقاب دراستُنا المستمرة لهذا المورد المبارَك.

وقد تناوَلنا في هذا البحثِ دراسة عبارات الفِئة الأولى منَ المحدثين الثقاة لدى أئمة الشأن، وبمنهج نقديٍّ صارمٍ يمكن أن نسترشد به - بعد ممارسة جملة مِن عمليات النقد والتقويم على منهجه - في إعداد دراسات مستفيضة، تتناول الكثير من مفردات عِلم الجرح والتعديل، قبل الشروع في دراسة الأسانيد والمُوازَنة بين المرْوِيَّات.


1- مقدمة:

كانتْ بداية ظُهُور عبارات توثيق وتجريح المحدِّثين، بعد اختمار قواعد تحمُّل الرواية، غير أنها افتقرتْ في البداية إلى عرف اصطلاحي تَتَّكئ إليه، فاختلفتْ مفرداتها عند هذا وذاك، بيد أنها كانتْ تدور حول تأسيس دائرة الرِّجال الثِّقات، وتمييزهم عنِ الضعفاء والمتروكين[1]، بعدها بدأتْ دلالة العِبارات بالنضوج تدريجيًّا، فأدخل صيارِفَة الرِّجال في حدودها شروطًا إضافيَّة؛ لتعريف مقومات العدالة لدى الراوي، وتمييزه عن رجال مرتبته، أو المراتب الأخرى؛ لذا فقد نجم عن هذه الشروط الجديدة أنْ ظهرَتْ على ساحة نقد الرِّجال معايير ومفردات جديدة؛ كالحفظ، والإتقان، وغيرها منَ المعايير، ولقدِ استمرت دائرة عبارات التوثيق والتجريح بالنمو؛ لظهور عبارات جديدة على ساحة علم الجرح والتعديل، إضافة إلى ازدياد تعقيدها نتيجة لاعتماد معايير أكثر تخصيصًا عند صياغة تعريف الثقات المتقنين، كذلك بدأتْ بِنْيَة عبارة التوثيق بالامتداد، حتى أضحتْ تتألف من مجموعة ألفاظ، تشير كل لفظةٍ منها إلى شريحة معينة من مقومات عدالة الراوي، فتؤلف بمجموعها مصطلحًا نقديًّا يومِئ إلى تعريف مرتبة المحدِّث لدى أئمة الشأن؛ فامتلأت كتب الرِّجال وطبقاتهم بعبارات صيغ بعضها في بدايات ظهورها وأخرى في عصور لاحقة، فتشابكتْ دلالاتها باختلاف النُّقاد، والعصر الذي ظهرتْ فيه، فلكل عبارة دلالة، يحددها موردها، والبنية اللغوية والاصطلاحية التي تتألف منها.

ولا يخفى على القارئ الكريم أهمية دلالة هذه الاصطلاحات في نقْد طريق الحديث، والترجيح بين الروايات عند تعارضها، إضافة إلى الحاجة الماسَّة لتقسيم الرواة حسب مراتبهم الاصطلاحية، مع إلقاء الضوء على دلالة هذه العبارات بمعايير اللغة والاصطلاح.

لذا وجدنا منَ الضروري دراسة إحدى شرائح ألفاظ التوثيق، فأستأثر باهتمامنا رجال الفئة الأولى منَ المحدِّثين الثقات؛ لأنهم صفوة رجال الحديث، والمنار الذي يستدل به على صحة وسلامة مورده، فانْصَبَّ جهدنا لتحقيق غايتينِ:

الأولى: التَّنقيب عن رواة الحديث، الذين تشرَّفوا بدخول دائرة توثيق الفئة الأولى على مر العصور، مع إجراء مسح للعبارات التي أطلقت عليهم.

الثانية: الوقوف على المعيَّن الذي استمدَّتْ منه الحدود الاصطلاحية لهذه العبارات، ولِرَصْد الاختلاف في دلالاتها لدى أئمَّة هذه الصَّنعة.

ونأمل أن تثمِرَ هذه المحاولة في إلقاء الضوء على مراتب رجال هذه الفئة المبارَكة، والتي تجعل عمليَّة الموازَنة بين مراتب الأحاديث المصطفوية أكثر موضوعية عند الترجيح، كما أنها ستُساهِم في بيان موارد هذه العبارات ودلالاتها، عبر مختلف العصور.

2 - بدايات ظُهُور عبارات التَّوثيق والتَّجريح:
تتألَّف عبارات التَّوثيق والتجريح من ألفاظ يُراد منها معرفة مرتبة الراوي، عند صيارِفة الحديث ونقاده، فتقبل على أساسها روايته أو تُرَدُّ، أو ترجح على رواية غيره عند التعارُض، وقد جاءَتْ ألفاظ أئمَّة هذا الشأن في الحكم على الرواة متفقة حينًا، ومختلفة حينًا آخر؛ تبعًا لاختلاف اجتهاداتهم في الحكم عليهم، وللعصر الذي صيغتْ فيه، وأنَّ معايير العدالة والتوثيق باتتْ أكثر تخصيصًا من تلك التي اعتمدتْ ببدايات الكلام في تزكية الرِّجال وتضعيفهم، في عصر ابن سيرين.

روى عبدالله بن وهب، عنِ الإمام مالك بن أنس قوله[2]: أدركتُ بهذه البلدة - يقصد المدينة المنورة - أقوامًا، لو اسْتَسْقَى بهم المطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيرًا، ما حدَّثتُ عن أحد منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن – يعني: الحديث - يحتاج معه إلى رجلٍ معه تُقًى، وورع، وصيانة، وإتقان، وعلم، وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه، وما يصل إليه غدًا، وأما رجل بلا إتقان ولا معرفة، فلا ينتفع به، ولا هو حجة، ولا يؤخَذ عنه.

إذًا لم يَعُد اصطلاح "ثقة" في عصر ابن سيرين متطَابقًا في دلالاته، مع ما يحمله في عصر شُعبة بن الحجاج، أو تلميذه ابن القطان؛ لازدياد العَقَبات التي ينبغي اجتيازها، قبل أن يقلد صاحبها لقب "ثقة"، إضافة إلى هذا أصبحتِ الحاجةُ أكثر إلحاحًا لصياغة ألفاظ أكثر تحديدًا لتعريف الرُّواة الثقات، الذين تقبل روايتهم، فظهرتْ ألفاظ جديدة كررت فيها ألفاظ: ثَبْت، وحجَّة، ومتقن، ومأمون، بعبارات مستحدثة، لم تلبثْ أن تداوَلَها صيارِفة الرِّجال ونقَّادهم، فأَوْدَعُوها في مصنفاتهم، فظهرتْ كُتُب طبقات الرِّجال التي عمد أصحابها إلى جَمْع ما قيل في الرواة من تزكية أو جَرْح، فظهرتْ كتب الطبقات؛ ككتاب محمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ)، والهيثم بن عدي (ت 207هـ) - بدأ بكتابين لمتروكين مطعون فيهما - و"الطبقات الكبرى"، لابن سعد (ت 230هـ)، وآخر لعلي بن المديني (ت 233هـ)، وتوالتْ كتب الطبقات بالظهور، تلاها ظهور كتب الضُّعفاء والثِّقات؛ ككتاب يحيى بن معين (ت 233 هـ) في الضعفاء، وآخر في الثِّقات، وثالث في الجَمْع بينهما، وكتاب "الثقات"، للعجلي (ت 261 هـ).

وقد سأل طلبة الحديث غير واحد مِن صيارِفة الرجال عن أحوال الرواة، ودرجة إتقانهم، فاختلفتْ آراء نقاد الرِّجال وعباراتهم باختلاف الأحوال، ولقد حفظتْ لنا هذه الأسئلة المدونة علمًا غزيرًا، وكشفتْ عنْ أحوال الكثيرِ منَ الرِّجال ومراتبهم ومَرْويَّاتهم، فوصَلَتْ إلينا مسائل عباس الدوري في الرجال، و"العلل"، لابن معين، و"سؤالات" جملة أخرى من تلاميذه؛ كأبي خلف مرثد بن الهيثم بن طهمان، وأبي إسحق الجنيد الختلي، وعثمان بن طالوت، وإسحق بن منصور الكوسج، وغيرهم من تلاميذه، و"سؤالات عثمان بن أبي شيبة"، لعلي بن المديني، و"سؤالات إسحاق بن منصور"، لأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، و"سؤالات أبي عيسى الترمذي"، للبخاري، ولأبي زُرعة الرازي، و"سؤالات أبي عبيد محمد بن علي الآجري"، لأبي داؤد، وغيرها كثير لا يَتَّسع هذا المقام لِذِكْرها.

وهكذا بدأ عدد كُتُب الرجال بالازدياد خلال هذا القرن، بيد أن المتتبع لألفاظ التوثيق والتجريح، على ساحة هذه الكتب - يجد أنها كانتْ في بداياتها، تفتقر إلى أساس ثابتٍ يعرف حدودها الاصطلاحية؛ لصدورها عن هذا الناقد وذاك، وفق ما يتراءى له من حال الراوي، وبألفاظ يختارها بعيدًا عن دائرة الآخرين.

ولعلَّ أول محاولة لصياغة الحُدُود الاصطلاحيَّة لهذه الألقاب قدِ اخْتمرت على يد الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ)، الذي بادَرَ بتصنيفها إلى مراتب للتجريح، وأخرى للتعديل، في مقدمة كتابه النفيس "الجرح والتعديل"[3]، وقد تجاوز ابن أبي حاتم طبقتي الصحابة والتابعين في تبيانه لِمراتب الرواة؛ لأنهم يَقَعُون خارج دائرة الشَّك، أما أتْباع التابعين، فقد قسمهم إلى أربعة مراتب، وقال فيهم: فمنهم: الثَّبْت الحافظ، الورع المتقن، الجهبذ الناقد للحديث، ومنهم: العدل في نفسه، الثَّبت في روايته، الصَّدوق في نَقْله، الوَرِع في دينه، الحافظ لحديثه، المتقن فيه، ومنهم: الصدوق الورع، الثَّبْت الذي يَهِم أحيانًا، وبه تكتمل دائرة الرِّجال الثقاة، أمَّا الضعيف فهو الذي ألصق نفسه بهم، ممن ليس من أهل الصدق والأمانة، بيد أنَّ ما يلفت الانتباه في هذا التصنيف هو أن أصحاب الفئة الأولى لا يقتصر الأمر على قبول حديثهم والاحتجاج به؛ بل يعتمد أيضًا على جرحهم وتعديلهم، أمَّا الحاكم النيسابوري فقد أشار في كتابه "معرفة علوم الحديث"[4] إلى مقومات رجال الفئة الأولى، عند تعريفه لعدالة المحدِّث، فقال: وأصل عدالة المحدِّث أن يكونَ مسلمًا، لا يدعو إلى بدعة، ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط به عدالته، فإن كان مع ذلك حافظًا لحديثه، فهي أرفع درجات المحدثين؛ إذًا بمعيار الحاكم يكون الثِّقة بمنأًى عن دائرة البِدْعة والمعصية، بينما ترتقي مرتبته إلى المرتبة الأولى إن كان حافظًا.

وجاء بعده ابن الصلاح المروزي (643 هـ)، فقال بمقدمته[5] في معرض بيان الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل: "وقد رتبها ابن أبي حاتم الرازي في كتابه "الجرح والتعديل" فأجَادَ وأَحْسَن، ونحن نرتِّبها كذلك، ونورد ما ذكره، ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك من غيره".

بيد أنَّ الذي يسبر الاصطلاحات التي أوردها ابن الصلاح في مقدمته بمعيار نقدي، يجدها قد بدأت تتقولب اصطلاحيًّا مع بدء ظهور عبارات التعديل والتجريح الرسميَّة، فلِكُلِّ مرتبة ألفاظ تختص بها، أمَّا ما ذهب إليه ابن أبي حاتم، فهو صياغة مواصَفات أصحاب كلِّ طبقة دون أن يعرجَ إلى صياغة ألفاظها الاصطلاحيَّة، بصورةٍ توضِّح معالمها؛ لذا فإننا نلاحِظ عبارات تصف مراتب التوثيق والتجريح لدى ابن الصلاح، مع بيان حُدُودها الاصطلاحيَّة، فظهر لديه اصطلاح: ثقة، ومتقن، وثَبْت، وحجة، وغيرها منَ الألفاظ التي أضحتْ فيما بعدُ المدارَ الذي يدور حوله الحديث عن الرجال.

وهكذا استمَرَّ أئمة علم الحديث ومصطلحه، بتناول اصطلاحات ابن الصلاح، فتداولوها في نقد الرجال وبيان مراتبهم، دونما تغيير في بعضِ الأحيان، بينما حاوَلوا في أحيان أخرى إعادة رسْم الحدود الاصطلاحيَّة لبعض التعريفات، بيد أنَّ الحصيلةَ النهائية لكلِّ هذه المُحاوَلات لم ينشب عنها تغيير جذريّ في دلالة الاصطلاح، وبقيتْ جهود أئمة هذه الصّنعة تدور في فَلَك اقتراحِ الطَّبَقات، التي تَتَأَلَّف منها مراتب التعديل أوِ التجريح لدى ابن الصلاح، ولم يفلحوا في إضافة شيء جديدٍ إليها.

بيد أنَّ ما نود قوله في هذا المقام هو أن صياغة الاصطلاح لم تُسْتَعرْ دلالتها من حدود صيغتْ على يد علماء المصطلح؛ بلْ إنهم قد عمدوا إلى تناوُل الألفاظ التي اعتمدها الصَّيارفة السابقون في تقييم الرجال، فصنَّفوا رواة الحديث على المراتب التي تقتضيها تلك الألفاظ؛ وعليه فإنَّ الحكم على اللفظ الفلاني، الذي يقع في المرتبة الأولى من مراتب التعديل
لا تَتَطابق دلالته لدى هذا الناقد وذاك في دائرة اصطلاح ابن الصلاح، أو غيره منَ المتأخرين، ولعل الشيخ عبدالفتاح أبو غدة قد تلمَّس هذا التباين في الدَّلالة، عندما تَكَلَّم في حاشيته النفيسة على "الرفع والتكميل"، للعلامة اللكنوي فقال[6]: وهذا التنسيق والتوحيد في المصطلحات، الذي قام به المتأخرون - رحمة الله عليهم - يعتبر مدلوله في ألفاظ المتأخرين، ولا يمكن أن ينفيَ التباين أو التغايُر الذي وقع في عبارات المُتَقَدِّمينَ.

3 - عبارات توثيق الفِئة الأولى بين دائرتي الاصطلاح واللُّغة:
بعد أن تناوَلْنا بدايات ظُهُور عبارات التوثيق والتجريح لدى المحدِّثين، بات واضحًا لدينا الآن أنَّ هذه العبارات قد صيغتْ على رقعة زمانية، امتدت لأكثر من ثلاثة قرون؛ لذا فليس ثمة شك أن هناك تباينًا في دلالاتها، وخصوصًا في المرحلة التي سبقتِ الصياغة الاصطلاحية على يد ابن الصلاح، والذين أَتَوا مِن بعده.

وعليه؛ سنُحاول في هذا المقام إلقاء الضَّوء على الحدود الاصطلاحيَّة، والدلالة اللُّغويَّة لهذه العبارات، من خلال سبر النصوص المنقولة إلينا في هذا الميدان.

كانت محاولة ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه "الجرح والتعديل" - المرحلةَ الأولى لصياغة عبارات الجرح والتعديل الاصطلاحية، وإيذانًا ببدْء مرحلة جديدة في دائرة علم الحديث ومصطلحه، كما أنها فتحتِ الباب على مصراعيه أمام الذين أتوا مِن بعده؛ لتناول هذه الاصطلاحات بالدراسة، فأضافوا إليها ألفاظًا جديدة، استقوها من حشْد العبارات المنتشرة على ساحة كتب الرجال، وقَعَّدوا القواعد لتحديد دلالاتها.

فقد أدخل ابن أبي حاتم في دائرة الطبقة الأولى منَ المحدثين الثِّقات مَن قال فيه العلماء: "ثقة، أو متقن"[7]، بينما اختار الخطيب البغدادي (463 هـ) لفظتي: "ثقة أو حجة" لرجال هذه الطبقة[8]، أمَّا ابن الصلاح فقد أضاف اصطلاحي: "ثبت أو حجة"، وكذا "حافِظ أو ضابط"[9] إلى قائمة ابن أبي حاتم، بينما جاء بعدهم الذهبي (748 هـ)، فتَحَدَّثَ في ديباجة "ميزانِه" عن مراتب الرِّجال، ولم تعدْ لديه الألفاظ التي جاء بها مَن سبقه تفي بأصحاب الطبقة الأولى، فباتوا وفْق حدوده الاصطلاحية، الذين أطلق عليهم أئمة الصنعة عبارة: "ثبت حجة"، و"ثبت حافظ"، و"ثبت متقن"، و"ثقة ثقة"[10].

إذًا لقد أضافَ الذَّهبي ألفاظًا لم تكنْ لدى سابقيه مدارها على تكرار لفظ التوثيق، سواء تباين اللفظان أم تكررا، وقد سار على طريقته الحافظ العراقي (806 هـ) في ألفيته، فقال يصف أصحاب الفئة الأولى[11]:
وَالجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَدْ هَذَّبَهُ
ابْنُ أَبِي حَاتِمِ إِذْ رَتَّبَهُ

وَالشَّيْخُ زَادَ فِيهِمَا وَزِدْتُ
مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ

فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ مَا كَرَّرْتُهُ
كَثِقَةٍ ثَبْتٍ وَلَوْ أَعدتهُ

ثُمَّ يَلِيهِ ثِقَةٌ أَوْ ثَبْتٌ اوْ
مُتْقِنٌ اوْ حُجَّةٌ اوْ إِذَا عَزَوْا


إنَّ ما فََعَلَه الذهبي وما تبعه عليه الحافظ العراقي هو تقليصُ دائرة رجال الطبقة الأولى منَ الرُّواة، بعد أن باتَتِ الاصطلاحات السابقة لا تفي بالمُتطلّبات التي تقتضيها هذه المرتبة؛ وذلك لاختلاف دلالات الألفاظ لديهما عما اصطلحه مَن سبقهم، فأصبح بمفهوم ذلك الوقت ليس بمرتبة من عرف به في عصر ابن أبي حاتم، إضافة إلى ذلك فإنهم قد استثمروا مجموعة إضافية من الألفاظ التي استعملها صيارفة الرجال، فأضحتِ الطبقة الأولى تتألَّف من مرتبتين لدى البعض، وثلاث لدى البعض الآخر.

لذا؛ فإنَّنا نجد الطبقة الأولى لدى كلٍّ منَ الذهبي، والحافظ العراقي، وابن الوزير(840 هـ)[12] - تتألَّف مِن مرتبتينِ، بينما أضحتْ لدى ابن حجر (852 هـ) - كما نقله عنه تلميذه السخاوي[13] - ذات ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الوصف بما دل على المبالغة، أو عبر عنه بأفعل: كـ: "أوثق الناس"، و"أضبط الناس"، وإليه المنتهى في التَّثَبُّت.

المرتبة الثانية: قولهم: فلان لا يسأل عنه.

المرتبة الثالثة: ما تأكَّد بصفة منَ الصفات الدالة على التوثيق: كـ: "ثِقة ثقة"، و"ثبْت ثبت".

أمَّا السيوطي (911 هـ)، فقد عمد في تدريبه[14] إلى إضافة ثلاث عبارات أخرى إلى سابقيه، وهي: "لا أحد أثبت منه"، و"مَن مثل فلان"، و"فلان لا يُسأل عنه".

وجاء الشيخ أبوغدة[15]، فأضاف في حواشيه النَّفيسة على "الرفع والتكميل" جملة منَ الألفاظ، التي استقاها من مطالعاته الواسعة لكتب الرجال كـ: "ثقة جبل"، و"ميزان"، و"ثقة رضا"، وغيرها من الألفاظ، فازدادتْ مساحة الرُّقعة التي تشملها هذه الألفاظ، مع وجود اختلاف واضح في دلالاتها لدى المشتغلينَ في هذا الفن.

وقبل أن نحاول الإجابة عن هذه الخلافات الاصطلاحية، سنعمد إلى تناوُل هذه الاصطلاحات، منذ أن استعملها نقَّاد الرجال وصيارِفة الحديث، بعيدًا عنْ دائرة مصطلح الحديث، فنسبرها بمعيار أهل الشأن، مع البحث عنْ دلالتها بميزان اللغة، ثم نعرج بعدها إلى دائرة مصطلح الحديث ومصطلحه؛ لكي نستطيعَ تهيئة المناخ المناسب لإصدار حكم نقدي بِصَدَدِها.

لعلَّ أكثر الألفاظ تداولاً بين صيارِفة الرجال ونقادهم هي لفظة "ثقة"؛ لذا فإنَّنا سنبدأ بها:
1/3 اصطلاح "ثقة":
اشتقَّتْ عبارة "ثقة" منَ الجذر الثلاثي "وثق"، يُقال: وثقت بفلان، أثق به وأئتمِنه، فهو ثقة، ووثقت الشيء: أحكمته، وناقة موثقة الخلْق: مُحْكمته[16]، ووثاق ووثق: صار وثيقًا، أو أخذ الوثيقة في أمره: أي بالثقة[17]، والوثاق أو الوثاق: ما يشد به، أو أوثقه فيه: شده، ووثقه توثيقًا.

يبدو واضحًا منَ الاشتقاقات اللغوية لهذا الاصطلاح: أنَّه يحمل بين ثناياه ما يوحي بأن مَن يطلق عليه هذا الوصف مؤتمن الجانب على عقيدته، يأخذ بالوثيقة في أمر دينه، ولا يَلجُ إلى دائرة الهوى والبِدْعة؛ كما أنه أمين على ما ينقل من روايات؛ لِمُجانَبَتِه الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

هذه مَحْمُولات الاصطلاح لدى المتقدمينَ، أمَّا الوثاق والإحكام، فهي منَ المحمولات التي عمد المتأخرون إلى اعتبارها؛ لدُخُولها إلى ساحة الحُدُود الاصطلاحيَّة لهذه العبارة بِمعيارهم.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]