سيرة أبي هريرة رضي الله عنه
محمد بن علي بن جميل المطري
محبة أبي هريرة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
كان أبو هريرة رضي الله عنه يحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويحث الناس على حبهم، روى أحمد في مسنده (7876) وابن ماجه (143) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني " يعني حسنا وحسينا.
وأخرج الطيالسي (2502) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن والحسين: "من أحبني فليحب هذين".
وروى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (1375) عن عمير بن إسحاق قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال: " أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل، فقال بقميصه فقبَّل سرته.
وقد كان أبو هريرة ينشر الأحاديث التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل آل البيت، وروى المحدثون كثيرا من أحاديث فضائل آل البيت عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (2405) عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه» قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: «امش، ولا تلتفت، حتى يفتح الله عليك» قال فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله».
وروى النسائي في فضائل الصحابة (48) عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأدفعن الراية اليوم إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فتطاول القوم فقال: " أين علي؟" قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به فبزق نبي الله صلى الله عليه وسلم في كفيه ثم مسح بهما عيني علي، ودفع إليه الراية ففتح الله عليه يومئذ.
وروى النسائي في فضائل الصحابة (54) عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولا ركب الكور ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (1393) عن علي بن زيد أن فتية من قريش خطبوا بنت سهيل بن عمرو وخطبها الحسن بن علي فشاورت أبا هريرة وكان لنا صديقا فقال أبو هريرة: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل فاه فإن استطعت إن تقبلي مقبل رسول الله فافعلي فتزوجته».
وقد أنكر أبو هريرة على بني أمية حين منعوا من دفن الحسن بن علي بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فروى عبد الرزاق الصنعاني (6369) وحسن إسناده الألباني في كتابه أحكام الجنائز ص 101عن أبي حازم قال: لما مات الحسن وسعيد بن العاص الأموي أمير على المدينة وصلوا عليه قام أبو هريرة فقال: أتنفسون على ابن نبيكم صلى الله عليه وسلم تربة يدفنونه فيها؟ ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
عدالة أبي هريرة وأمانته:
كان أبو هريرة رضي الله عنه من عباد الصحابة، وكان مكثرا للصلاة والصيام وقراءة القرآن وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، قال أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا. قلت: يا أبا هريرة، كيف تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثا.
وعن شرحبيل: كان أبو هريرة يصوم الاثنين والخميس.
وعن عكرمة قال: كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي.
وروى ابن سعد (4/251) بسند حسن عن أبي هريرة قال: ما وجع أحب إلي من الحمى لأنها تعطي كل مفصل قسطه من الوجع وإن الله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر.
وكان أبو هريرة مؤتمناً عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، حتى أنه استعمله على البحرين.
عمل أبي هريرة بعلمه:
كان أبو هريرة رضي الله عنه عاملا بعلمه حتى أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» رواه مسلم في صحيحه (1378)، فلم يزل ساكناً في المدينة النبوية حتى توفي بها.
وروى البخاري (1178) ومسلم (721) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر».
وروى البخاري (5971) ومسلم (2548) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: " ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»، فكان أبو هريرة يحسن صحبة أمه، ويجتهد في برها، روى ابن سعد (4/245) عن أبي هريرة قال: خرجت يوما من بيتي إلى المسجد لم يخرجني إلا الجوع. فوجدت نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ فقلت: ما أخرجني إلا الجوع. فقالوا: نحن والله ما أخرجنا إلا الجوع. فقمنا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بكم هذه الساعة؟ فقلنا: يا رسول الله جاء بنا الجوع. قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر فأعطى كل رجل منا تمرتين فقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا. قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حجرتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟ فقلت: رفعتها لأمي. فقال: كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين. فأكلتها فأعطاني لها تمرتين.
وروى مسلم (1665) من طريق ابن شهاب الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للعبد المملوك المصلح أجران»، والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك "، قال: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها.
اعتزال أبي هريرة الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه:
كان أبو هريرة رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم يشهد معركة الجمل ولا صفين، وقد اعتزل أكثر الصحابة رضي الله عنهم الفتنة، روى الخلال في كتاب السنة (2 / 466) بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضر فيها مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين".
صفة خَلق أبي هريرة وخُلُقه:
قال ابن سيرين: كان أبو هريرة أبيض، لينا، لحيته حمراء.
وقال عبد الرحمن بن لبينة الطائفي: كان أبو هريرة رجلا آدم، بعيد المنكبين، أفرق الثنيتين، ذا ضفيرتين.
ولا منافاة بين وصف ابن سيرين له بالبياض ووصف ابن لبينة له بأنه آدم، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 168): " العرب إذا قالت: فلان أبيض، فإنهم يريدون الحنطي اللون بحلية سوداء. فإن كان في لون أهل الهند، قالوا: أسمر، وآدم. وإن كان في سواد التكرور، قالوا: أسود. وكذا كل من غلب عليه السواد، قالوا: أسود، أو شديد الأدمة".
وكان أبو هريرة طيب الأخلاق شديد التواضع، قال أبو رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب حمارا ببرذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، فيسير، فيلقى الرجل، فيقول: الطريق! قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، فلا يشعرون حتى يلقي نفسه بينهم.
وكان أبو هريرة إذا طلب من أهله طعاما يقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا. قال: إني صائم.
وعن أبي المتوكل الناجي أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له أمة زنجية قد غَمَّتْهُم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه - يعني الله عز وجل- اذهبي فأنت حرة لله.
شدة خوف أبي هريرة من الله سبحانه:
كان أبو هريرة رضي الله عنه شديد الخوف من الله، وإنما العلم الخشية، قال سبحانه وتعالى: ï´؟ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ï´¾ [فاطر: 28].
عن ميمون بن ميسرة قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم: أول النهار وآخره، يقول: ذهب الليل وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمعه أحد إلا استعاذ بالله من النار.
وروى ابن المبارك عن وهيب بن الورد عن سلم بن بشير: أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟
قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي؟
وروى ابن سعد (4/251) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه دخل على أبي هريرة وهو مريض فقال: اللهم اشف أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم لا ترجعني. قال فأعادها مرتين. فقال له أبو هريرة: يا أبا سلمة إن استطعت أن تموت فمت. فو الذي نفس أبي هريرة بيده ليوشكن أن يأتي على العلماء زمن يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر. أو ليوشكن أن يأتي على الناس زمان يأتي الرجل قبر المسلم فيقول: وددت أني صاحب هذا القبر.
وروى مالك عن المقبري قال: قال أبو هريرة في مرضه الذي مات فيه: اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي.
وروى ابن سعد (4/252) عن سعيد قال: لما نزل بأبي هريرة الموت قال: لا تضربوا على قبري فسطاطا ولا تتبعوني بنار فإذا حملتموني فأسرعوا، فإن أكن صالحا تأتون بي إلى ربي، وإن أكن غير ذلك فإنما هو شيء تطرحونه عن رقابكم.
وفاة أبي هريرة رضي الله عنه:
مات رضي الله عنه سنة سبع وخمسين للهجرة عن ثمان وسبعين سنة، صحب الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وعاش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم 47 عاما داعيا إلى الله، معلما للقرآن والسنة، عاملا بعلمه، مجتهدا في عبادة الله ذكرا وصلاة وصياما وقراءة للقرآن وتعليما، فرحمه الله ورضي عنه، وجزاه عن المسلمين خيرا بما حفظ من سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد (4/253) عن نافع قال: كنت مع عبد الله بن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين.
وفي الختام أسأل الله أن ينفعنا بكتابه وسنة رسوله، وأن يعلمنا الحكمة والتفسير، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا من المعتصمين بكتابه والمتمسكين بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يوفقنا لاتباع سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وجميع الآل والأصحاب، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
ï´؟ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [الحشر: 10].