عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-02-2020, 03:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,156
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وداعاً بغداد (القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي)


وفي بلدةٍ بعيدة عن بغداد كان هناك مُعْجَبٌ بالراحل الكبير، كان قد لقيه ذاتَ يوم في بلده وموطنِ عزه، فحمدَ النأيَ و السفر لأنهما جمعاه بالشيخ، وقام بما يمليه الوفاءُ، فأثنى شعراً، وأهدى ما يستطيع معتذراً... ذلك هو فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري وقال:
إذا أسكتَ المحتجُ كلَّ مناظرٍ
فعند ابن نصرٍ نجدةٌ بجوابِ

وما أنا إلا قطرةٌ مِن سحابه
ولو أنني صنَّفتُ ألفَ كتابِ



وهذا يشير إلى أنَّ مقام الشيخ عزيز، ووجوده في عالم الإسلام جمال وبهاء، وعزٌّ ومنعة، وهذا أبو العلاء يعدُّ نفسَهُ قطرة من سحابه!

ويصلُ القاضي عبد الوهاب إلى دمشق سنة 419هـ ويقيم فيها أشهراً، ويكون له بها تلامذةٌ، وحلقات علمٍ في مساجدها.

ثم يدخل مصر ولم تكن هي محطته الأخيرة، إذ كان في كل مرحلة يجلس وينظر ويدبِّر ويفكر.

وكان لدخول الشيخ مصر دويٌّ، وهناك (حمل لواءَها، وملأ أرضَها وسماءَها، واستتبع سادتَها وكبراءَها)، وفي حلقة درسهِ في جامع عمرو بن العاص احتشد أكثرُ من خمس مئة طالب، وما طلَبَ الرئاسة ولكنها جاءته منقادة، وهذا شأنُ النَّبَغَة المتميزين الذين يصدقُ فيهم قول الأمير أبي فراس:
ونحن أناسٌ لا توسطَ عندنا
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ


وفي مصر حصل له حالٌ من الدنيا بالمغاربة، ولكنه راسلَ العلماءَ والأمراءَ للسفر إلى المغرب والأندلس ممّا يدلُّ على أنه كان متبرِّماً ممّا هو فيه، ولأمرٍ ما قال متمثلاً:
لم أكنْ يومَ خروجي
مِن بلادي بالمصيبِ


وتمثل قائلاً:
طلبتُ المستقرَّ بكلِّ أرضٍ
فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا

ونلتُ من الزمان ونالَ مني
فكان منالُهُ حلواً ومُرا


وقبل أن يحزم أمرَهُ في السفر إلى مكانٍ آخر، أو الرجوع إلى بغداد أدركَهُ الأجلُ المحتومُ من أكلةٍ أكلها، وغير بعيد أن يكون قد وُضِعَ له فيها ما أودى بحياته.

ولم يُفاجَئْ بالموتِ أليس هو القائل: (وإشعارُ المرءِ نفسَهُ الموت، والتشاغلُ بأمر ربه، والاستعدادِ لدعائه: أولى ما داوم عليه - المرءُ - وراضَ به نفسَهُ، وجعله همَّه).


وكان اذا ذَكَرَ الموتَ بكى.

وكأننا بالشيخ وهو على فراش الموت يفتحُ عينيه فلا يرى مَنْ يحتاجهم الإنسانُ في تلك اللحظات، ولعله ينظر إِلى الآفاق البعيدة التي حال دونَها بحارٌ وصحارى فيرتدُّ إليه بصرُهُ ندياً بالدموع، ولكن في لقاء الله ما يعوِّضُ عن كل فائت، وما يضمِّدُ كلَّ الجراح، وكان له في ربه ثقةٌ جياشةٌ وحسنُ ظن عجيب حتى إنه قال -وهو يُحْتَضرُ- لأميرٍ أعانه على مطالبه: جزاؤُك عندي أنْ أشكرك عند ربي بعد موتي.

رحل القاضي عبدُ الوهاب البغدادي غريباً، ودُفن في القرافة الصغرى بالقرب من أئمة المالكية، ووقف الأكابرُ على قبره مئات السنين.

رحل ولكنَّ ذكرَه لم يرحل، فقد ترك تلامذةً منتشرين في مدائن الإسلام، وخلَّف علماً يُنتفعُ به في كتبٍ كثيرةٍ تلقاها العلماء وتداولوها في المشارق والمغارب، ومنها كتبُهُ الشهيرة:
"المعونة على مذهب عالم المدينة".
و"الإشراف على نكت مسائل الخلاف".
و"شرح الرسالة" الذي بِيعتْ أول نسخة منه بمئة مثقال ذهباً!

وعلى فراش الموت -سنة 422هـ- قال: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
ويحق له أن يقول: لا إله إلا الله لما متنا عشنا.

رحم الله القاضي عبدَ الوهاب القائل:
يا لهفَ نفسي على شيئين لو جُمعا

عندي لكنتُ إذاً مِنْ أسعدِ البشرِ

كفافُ عيشٍ يقيني ذُلَّ مسألةٍ
وخدمةُ العلمِ حتى ينقضي عُمُري



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.15%)]